الإقبال على الدين وتسويق الخرافات
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[سورة يوسف، الآية:2 ]
يفتح الإقبال على أيّ سلعة من السلع المجال أمام ظهور سلع مقلّدة ومغشوشة. ويمكن أن يقود ذلك إلى وجود سوق سوداء قائمة على الغشّ والتدليس. ونتيجة إلى الرغبة الشديدة في السلعة الأصلية، فإنّ الناس غالبًا لا يتمكّنون من التفريق بين الأصلية وتلك المغشوشة، بل إنّهم يجدون أحيانًا في رخص ثمن السلع المغشوشة عامل جذب، فيقبلون عليها، إلى أن يلتفتوا فيما بعد أنّ بها عيوبًا وأضرارًا، وأنّها لا تحقق لهم ما كانوا يصبون إليه، وهذا أمر معروف وملموس.
وكما تجري ممارسة الغش والتزييف في الأشياء المادية، فإنّها يمكن أن تجري في الأمور المعنوية والروحية، ذلك أنّه وتحت إلحاح الحاجة للدين، والرغبة في الارتباط بالغيب، والإقبال على ما يُعتقد أنّه يحقّق رضا الله تعالى، يمكن أن يقود ذلك إلى ظهور سوق دينية سوداء، تعرض "منتجات" دينية غير أصلية، وإنّما مغشوشة ومدلّسة، وهذا ما وقع في مختلف العصور لجميع الديانات.
اليقظة ومرجعية العقل
لقد دأبت التعاليم الدينية على حثّ الناس على اليقظة، والتزام جانب الوعي، حتى لا يُدلّس عليهم، ولا تُستغل مشاعرهم الدينية. ومن أهمّ الوسائل التي اعتمدها القرآن الكريم في هذا السبيل، هو التأكيد على مكانة العقل، بأن يحتكم الإنسان إلى عقله باستمرار، حتى لا تنطلي عليه محاولات التدليس والغش في المجال الديني، أو يُستغفل ويقاد إلى الطريق الخطأ.
إنّ نزول الرسالات السماوية لا يعني الاستغناء عن العقل، فالدين ليس بديلًا عن العقل، ولم يكن غرض الرسالات السماوية ركن العقل جانبًا، وإنّما جاء الدين داعمًا للعقل، ومؤكّدًا على مكانته؛ لكون الإنسان عرضة للغفلة، وبروز الحواجز التي تحجزه عن الاستفادة من عقله، من الأهواء والشهوات والظنّون والأوهام والخرافات واتّباع الآخرين، كلّ هذه الحجب تمنع الإنسان من إعمال عقله على النحو السليم، ويأتي الدين منبّهًا الإنسان إلى امتلاكه كنزًا ثمينًا، وجوهرةً عظيمةً هي العقل، حاثًّا إيّاه على إعماله والاستفادة من قدراته.
إنّ التزام الإنسان بدين معيّن، أو اختياره لمذهب محدّد لا يكون بالاعتماد على الأهواء والأوهام وتقليد السابقين، وإنّما من خلال إعمال العقل. جاء في الرواية أنّ ابن السكيت سأل الإمام الهادي عن الحجة على الخلق اليوم، فأجاب الإمام : "العقل، يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه"[1] ، من هنا نجد التأكيد المتكرّر على إعمال العقل في عشرات من آيات القرآن الكريم. كقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾، ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾، وهي تذكير للإنسان بألّا يغفل عن عقله في أيّ لحظة.
وقال تعالى في جملة من الآيات الكريمة: ﴿وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، ﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾، ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾، ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾.
تسلّل الخرافات والأساطير
وبالرغم من التشديد القرآني على التزام جانب العقل، لم تسلم الثقافة الدينية السائدة في أوساط المسلمين من تسلّل الخرافات والأساطير والمنتجات الدينية المغشوشة. وأصبح هناك سوق دينية سوداء، وساحة للغش والدّجل والتضليل باسم الدين، وهذا عين ما حذّر منه رسول الله ، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع: "كثرت عليَّ الكذابة"[2] ، في إشارة منه إلى سوق الكذب والاختلاق على لسانه.
إنّ مما ساعد أرباب الخرافة وصناع الأساطير، استغلالهم بعض الجوانب في الدين. ويأتي في الطليعة من ذلك استغلالهم الجانب الغيبي في الدين. حيث من الصحيح أنّ إيمان المؤمن لا يكتمل إلّا بالإيمان بالغيب، قال تعالى في صفات المؤمنين: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، إنّ الخرافيين والاستغلاليين يحاولون دومًا الإيحاء للناس بأنّ قضايا الحياة والكون، يمكن أن تجري تبعًا لكتابة قصاصة هنا، أو إلقاء دعاء هناك، وعلى هذا النّحو يجري تبسيط الأمور، كما لو لم تكن هناك قوانين وسنن تسيّر هذا الكون، وهذا عين الاستغلال الممقوت في الوسط الديني.
إنّه في الوقت الذي جرى التأكيد في القرآن الكريم على الإيمان بالله وبالغيب وقدرة الله تعالى، وغرس المفاهيم الدينية من التوكّل والرجاء والدعاء، جرى التأكيد في مقابل ذلك أيضًا على أنّ للكون قوانين وأنظمةً وسننًا يجري عليها، كما في قوله تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾، وقال تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾، وجاء في آية ثالثة: ﴿سُنَّةَ اللَّـهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا﴾، وفي آية أخرى: ﴿.. وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّـهِ تَحْوِيلًا﴾. ونجد آيات القرآن الكريم تشير بوضوح إلى أنّ الحياة لا يمكن أن تسير وفق التمنّيات، قال تعالى: ﴿أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ﴾، وقال تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾.
إنّ من غير الوارد أبدًا أن تجري الحياة بخلاف السنن الإلهية، كما يروج الخرافيون. لذلك فالإنسان مدعوٌّ إلى أن يسلك طريق السنن، ويأخذ بالأسباب والنواميس الطبيعية، ثم يدعو الله تعالى؛ لأنّ من الخطأ الكبير أن يترك السنن الإلهية ويلجأ عوضًا عن ذلك إلى الدعاء وحده. وقد تناولت هذا الجانب نصوص دينية كثيرة، ومن ذلك ما ورد أن رجلًا من البادية جاء المدينة المنورة على دابة، ودخل على رسول الله وكان في المسجد، وسأل رسول الله مشيرًا إلى دابته: أأعقلها وأتوكّل أو أطلقها وأتوكل؟، فقال النبي : "اعقلها وتوكل"[3] .
وفي سياق مشابه ورد عن الإمام الصادق : "أنّ نبيًّا من الأنبياء مرض، فقال: لا أتداوى حتى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني، فأوحى الله إليه: لا أشفيك حتى تتداوى فإنّ الشفاء منّي"[4] . وجاء في رواية أنّ العلاء بن كامل أقبل فجلس قدّام أبي عبدالله الصادق فقال: يا بن رسول الله، ادعُ الله عزّ وجلّ أن يرزقني في دعة، فأجابه الإمام: "لا أدعو لك، اطلب كما أمرك الله عزّ وجلّ"[5] . وورد عن الإمام الصادق أنه قال: "أربعة لا تستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب؟ ورجل كانت له امرأة فدعا عليها فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك، ورجل كان له مال فأفسده فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد، ألم آمرك بالإصلاح"[6] . وعلى هذا النحو يعلّمنا الدين أنّ مسيرة الحياة مقيّدة بالسنن والقوانين.
استغلال الدين
إنّ الخرافيين يمعنون في استغلال حاجات الناس باسم الدين. فإذا كانت بعض الأوساط تعاني مشاكل معينة، فتحوا أذرعهم إليهم، وراحوا يسوقون عليهم خرافاتهم، مُوحين إليهم بأنّ خرافاتهم تلك هي المفتاح السحري لحلّ مشاكلهم، وهذا عين التدليس على الناس.
ولعلّ أحد أوجه هذه التخريفات ممارسة الرقية الشرعية الشائعة على نحو أكبر في المجتمع السني، فقد أصبحت الرقية بضاعة رائجة، يجري من خلالها خداع بسطاء الناس، حتى بلغ بأحدهم، وفقًا للصحف المحلية، أن يدعو إلى فتح عيادات خاصة بالرقية الشرعية داخل المستشفيات العامة.
هنا ينبغي القول أنّه لا خلاف حول فضل تلاوة القرآن الكريم، وأنّها من العوامل التي ترفع معنويات الإنسان، وتستثير الجانب الروحي عنده، غير أنّ مورد الخلاف هنا، يكمن في استغلال هذه الحالة في تكريس الشعوذة في أوساط الناس، من خلال ترويج المزاعم بأنّ هذا فيه مسٌّ، وذاك متلبّس به الجنّ، وما إلى ذلك من مزاعم باتت منتشرة في مختلف الأوساط.
وقد نشرت الصحف المحلية قبل أيام، عن شخص يدعى الشيخ عليّ العمري وكان يمارس الرقية الشرعية مدة عشرين سنة، وقد قال هذا الرجل بعد أن اعتزل ممارسة الرقية، إنّ الحديث عن تلبّس الجنّ بالإنسان أمر غير صحيح، وأنّ تكلّم الجنّ بلسان الإنسان أمر منافٍ للواقع، مبيّنًا أنّ مثل هذا الحديث لا ينطلي إلّا على طبقة السّذج والمغفلين، ونقلت الصحف عنه القول إنّه لم يثبت في الكتاب ولا السنة أنّ الجنّ يمكن أن يتكلم على السنة الناس، وقال إنّه طيلة عمله لم يحضر إليه طلبًا للشفاء إلّا طبقة السّذج والمغفلين فقط، ثم يتساءل العمري؛ هل الجنّ سذّج فلا يبحثون عن التلّبس إلّا بالفقراء، ولماذا لا يتلّبسون بالأثرياء[7] ؟!.
لقد بات للخرافيين والمشعوذين سوق رابحة في عصرنا الراهن، بلغت حدّ امتلاك وسائل الإعلام والقنوات الفضائية الخاصة. حيث تقوم تجارتهم على استغلال مقيت لجانب الغيب في العقيدة الدينية، فيقومون بتضخيمه في حياة الناس، على حساب المفاهيم الدينية التي تؤكّد خضوع الكون والحياة إلى السنن والقوانين الإلهية. وقد بلغ الأمر بأحدهم حدّ ادّعاء النبوة وحظي باتباع!، حيث ادّعى النبوة شخص عراقي يعيش في دولة الكويت اسمه حسين مويس، وقد قبل كلامه جماعة من الناس في الكويت والسعودية، وقد استجاب لدعوته أطباء وأكاديميون ومعلّمون ومعلّمات، وهو الآن موقوف في الكويت، فيما قضت المحكمة الجزائية المتخصصة في المملكة بسجن خمسة سعوديين ممن آمنوا بدعوة هذا الشخص[8] . ويستغرب الإنسان من قبول هؤلاء دعوة هذا اللاجئ العراقي في الكويت، وكيف تخلّوا عن عقولهم؟. غير أنّ من المهم أن يتنبّه أولئك المتعجّبون من انخداع البعض بالشعوذة والخرافة في شكلها الأكبر والأوضح، أن يتنبّهوا إلى أنّهم هم أنفسهم ربما يصبحون ضحايا لتمرير بعض الشعوذات في صورتها المصغّرة، لذلك يجب أن يُبقي المرء عقله يقظًا باستمرار، حتى لا تمرّر عليه مثل هذه الشّعوذات والخرافات.
ترهيب الناس
ويعتمد الخرافيّون والمشعوذون على إثارة الترهيب من عواقب عدم التصديق بممارساتهم، والامتثال لها. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، ما يُتداول بين الناس مناولة أو عبر وسائل الاتصال الحديثة، من رؤى وأطياف مجهولة المصدر، ويطلب من مستلميها كتابتها وتكثيرها فيما لا يقلّ عن 13 مرة ومن ثم نشرها، وذلك تحت طائلة الوقوع في المصائب والمحن في حال التلكؤ عن فعل ما يأمرون به، ليستجيب لذلك بعض الناس تحت تأثير الرهبة والخوف من العواقب، وتجد بعض الناس يستسلمون لهذه الممارسة حتى لو قيل لهم بأن لا أصل دينيًّا لها، وذلك تحت مبرّر أنّ القيام بها لا يضرّ. وليت أمثال هؤلاء يعلمون أنّهم باستجابتهم تلك، ومجاراتهم لأولئك، إنّما يتنازلون عن عقولهم، ويبيعونها لهؤلاء المشعوذين.
وقد وردت نصوص دينية كثيرة في الحثّ على إعمال المؤمن عقله، حتى لا تنطلي عليه الخرافات. جاء في الرواية عن سليمان الديلمي أنه قال، قلت لأبي عبدالله : فلان من عبادته ودينه وفضله، فقال: كيف عقله، قلت: لا أدري، فقال : "إنّ الثواب على قدر العقل"[9] ، وورد عن أبي عبدالله الصادق أنّه قال: قال رسول الله : "إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله، فإنّما يجُازى بعقله "[10] ، وجاء في رواية، عن أبي الحسن الرضا أنّه قال: "ذكر عنده أصحابنا وذكر العقل، فقال : لا يعبأ بأهل الدين ممن لا عقل له، قلت جعلت فداك، إنّ ممن يصف هذا الأمر قوم لا بأس بهم عندنا، وليست لهم تلك العقول، فقال الإمام : "ليس هؤلاء ممن خاطب الله، إنّ الله خلق العقل فقال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت شيئًا أحسن منك، أو أحبّ إليّ منك"[11] ، ومضمون ذلك أنْ لا أهمية لإيمان المتديّن إذا كان لم يكن عنده عقل، وليس المعنيّ بغياب العقل، أي الجنون، فالمجنون غير مكلّف من حيث الأصل، وإنّما المقصود به ذلك الشخص الذي لا يعمل عقله في مختلف الأمور، وقد يسترسل في اتّباع ما يلقى في أذنه. وورد في رواية أخرى: "كونوا نقاد كلام"[12] ، أي أنْ يكون الإنسان في موقع النّاقد، فلا يقبل التسليم بأيّ كلام ولا يأخذه على عواهنه أنّى جاءه.
إنّ مشكلة المشاكل تتجلّى في صناعة أهل الخرافة جوًّا إرهابيًّا، يكمّمّون بموجبه الأفواه. فهؤلاء يبتدعون سوقًا دينية زائفة، لترويج الخرافات والأوهام، والمنتجات الدينية المغشوشة والمدلّسة، ثم لا يجرؤ أحد على نقدهم والتصدّي لشعوذاتهم، خشية أن تنهال عليه التهم، من كلّ حدبٍ وصوبٍ، باعتباره غير معتقد بأهل البيت ، وأنّه موالٍ لغيرهم، وأنّ عقيدته غير صحيحة، وبذلك يُؤثر المنتقدون السلامة لأنفسهم ويصمتون، لتكون النتيجة شيوع الخرافة بين الناس، والاعتقاد بالأوهام والأساطير، ولتشوّه سمعة الدين، وتلطّخ صورة المذهب. والأنكى، ما يجري من توريط الناس في انشغالات زائفة، على حساب الأولويات والأعمال الجادّة الصحيحة، التي تقود إلى إعمار الحياة، وتنمية المجتمع. وهذه مشكلة كبرى تعيشها الأوساط المتديّنة، ولعلّ ما يزيدها أوارًا واستعارًا أجواء الحماس الديني، وتحوّل الدين والمذهب إلى هوية مغلقة، وسط انفجار لصراع الهويات، ليكون ذلك عاملًا مساعدًا لدعاة الخرافة، وقيام السوق السوداء للدين، والتدلّيس على الناس باسم العقيدة.