الوضع الصحي ومواجهة أمراض العصر
ورد عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنّه قال: "الصحة أفضل النعم"[1] .
يُعدّ التوفّر على الصحة والعافية، العامل الأساس لتمتع الإنسان بحياته. بخلاف ما إذا ابتُلي المرء بالأمراض، حيث تنغص آلام المرض حينئذٍ عليه متعة الحياة، وتمنعه من ممارسة الحركة والنشاط الطبيعي، وقد أوجز الإمام عليّ مكانة الصحة في حياة الإنسان بالقول "الصحة أفضل النعم"، ذلك أنّ الاستمتاع بمختلف النعم مشروط بالتمتع بالوضع الصحي السليم، فإذا فقدت الصحة فما عسى يفيد المال؟ وما نفع الألقاب والمناصب؟ وكذلك الحال مع سائر المكاسب الأخرى.
وفي كلمة أخرى وردت عنه أنّه قال: "بالعافية توجد لذة الحياة"[2] ، وورد عن الإمام الصادق أنّه قال: "العافية نعمة يعجز الشكر عنها"[3] ، إنّ هذه الحقائق الجلية تستلزم الاهتمام بالرعاية الصحية، وألّا يعبث الإنسان بصحته بأيِّ نحوٍ من الأنحاء. غير أنّ أغلب الناس ما داموا ينعمون بالعافية، فإنّهم يغفلون عن رعاية أنفسهم بالشكل المناسب صحيًّا، لأنّهم ببساطة لا يدركون فداحة افتقاد الصحة على حياتهم، وقد قيل في ذلك: "نعمتان مجهولتان: الصّحة والأمان"، وقيل أيضًا: "الصّحة تاج على رؤوس الأصحّاء، لا يراه إلّا المرضى". وورد عن الإمام الصادق أنّه قال: "العافية نعمة خفية، إذا وجدت نسيت، وإذا فقدت ذكرت"[4] .
التوعية بداء السكري
وتقديرًا لأهمية العناية بالصحة قرّرت منظمة الصحة العالمية، الإعلان عن يوم الصّحة العالمي. وجعلت من ذلك اليوم المصادف ليوم السابع من نيسان أبريل من كلّ عام، مناسبة للتذكير بأهمية التمتع بالصحة والعافية، وهو مناسبة لتوجّه الأصحّاء لله تعالى بالشكر على نعمة الصّحة، وللمرضى بطلب السلامة والعافية منه تعالى، راجين أن يمنّ تعالى على جميع المرضى بالصّحة والعافية.
وقد دأبت المنظمّة في كلّ عام على التركيز على مرض معيَّن، تبعًا لخطورة ذلك المرض وسعة انتشاره في المجتمع البشري، وقد خصّصت المناسبة لعام 2016 للتوعية بداء السكري، هذا الدّاء الوبيل الفتاك الآخذ في الانتشار عبر العالم، حيث تشير الإحصاءات إلى أنّ عدد المصابين بالسكري عبر العالم بات يزيد على 422 مليون شخص، وهو ما يعادل أربعة أضعاف العدد لعام 1980، حين كان يلامس المئة مليون مصاب.
وعلى المستوى المحلّي، تشير التقارير إلى أنّ السعودية احتلّت المرتبة الأولى عالميًّا، في عدد المصابين بالمرض. وأنّ ربع السعوديين مصابون بهذا الداء الخطير، أي إنّ واحدًا من كلّ أربعة سعوديين مصاب بالسكري، وبلغة الأرقام هناك ما يزيد على ثلاثة ملايين وستمئة ألف مصاب بالسكري في المملكة، وهو ما يعادل نسبة 23.9 بالمئة، ما يجعلها النسبة الأعلى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهناك نحو 13 بالمئة من السكان معرّضون للإصابة بالمرض خلال السنوات الثلاث المقبلة. وهذه نسبة عالية خطيرة، لجهة ما يترتب عليها من مشاكل كثيرة، من الإصابة في شبكية العين المفضية للعمى، والتأثيرات السلبية على القلب والكلى والأطراف، فهناك إحصاءات سنوية مذهلة حول عمليات بتر الأطراف، نتيجة الإصابة بالسكري في المملكة، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية المترتبة على انتشار الإصابة بالمرض، التي قدّرت بنحو 80 مليار ريال في العام الواحد.
الوقاية من السّكري
وقد ركّزت منظمة الصّحة العالمية في سبيل الوقاية من داء السكري على أمرين اثنين؛ أولهما الاهتمام بسلامة النظام الغذائي، والثاني ممارسة الرياضة. فهناك على مستوى النظام الغذائي إفراط في التهام الطعام، على نحو تشير التقارير إلى ارتفاع لافت في معدّل السعرات الحرارية المستهلكة يوميًّا عند الأفراد. فقد كان معدل السعرات الحرارية التي يحصل عليها الفرد يوميًّا من الغذاء، خلال فترة الستينيات، نحو 1.200 سعرة حرارية، ليرتفع في الوقت الراهن إلى 3.500 سعرة حرارية. والأنكى، أنّ تلك السعرات الحرارية في الأزمنة السابقة تجد طريقها للتصريف نتيجة الحركة والنشاط، تبعًا لطبيعة الحياة وظروف العمل، على النقيض مما يجري اليوم، حيث ازداد معدل استهلاك الطعام، وتضاءلت كثيرًا نسبة الحركة والنشاط، فإذا اجتمع انعدام سلامة النظام الغذائي مع قلّة الحركة، تسنّى لنا معرفة سبب تزايد المصابين بداء السكري في المملكة، ليصل إلى شخص واحد من بين كلّ أربعة سعوديين.
وقد بلغ من استهانة بعض الناس بخطورة الإفراط في الطعام، أنْ يشجّع أحدهم الآخر على المبالغة في التهام الطعام، خلال الدعوات الاجتماعية، أو الرحلات مدفوعة الثمن، متناسين قول الله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾، ومما يفاقم المشكلة ارتباط مختلف مناسباتنا الدينية والاجتماعية بتقديم الولائم، إنّ تدهور الصحة هو الثمن الباهظ الذي يتعيّن دفعه نتيجة الإفراط في الطعام. والحال أنّ معدّل استهلاك الطعام ينبغي أن يرتبط بمعدّلات الحركة والنشاط. ذلك أنّ ارتفاع معدل استهلاك السعرات الحرارية يستلزم وجود حالة تصريف متناسبة، وإلّا انعكس ذلك على معدّلات الوزن، وزيادة السمنة، وأمراض السكر والقلب، وارتفاع الضغط.
ترشيد العادات الغذائية
إنّ مجتمعاتنا بحاجة إلى حملات توعوية مكثفة، على صعيد تحسين العادات الغذائية. وأول خطوات التوعية تبدأ من المنزل، حيث ينبغي لربّ الأسرة، باعتباره مسؤولًا عن صحة عائلته، أن يتحلّى بالوعي الغذائي في المقام الأول، على نحوٍ يجعله يعرف جيّدًا طبيعة الأغذية التي يجلبها لعائلته، وضمان توفير الغذاء الصحي لها، فكما أنّ ربّ الأسرة لا يستسيغ أن يأتي لعائلته بطعام ملوث أو فاسد أو منتهي الصلاحية، ينبغي له أيضًا التدقيق في نوعية الطعام، وإيلاء هذا الأمر أهمية قصوى، أخذًا في الاعتبار تسبّب بعض الأطعمة في تفاقم أمراض العصر.
وكذلك بالنسبة لربة المنزل أيضًا، ينبغي أن تراعي الإرشادات الصحية، عوضًا عن الإفراط في إعداد الأطعمة المشبعة بالدهون والسكريات، أو استرضاء الأطفال بإعطائهم النقود، والسّماح لهم بالذهاب للبقالات لشراء السكريات والمعلبات، أو ارتياد مطاعم الوجبات السريعة، بكلّ ما تحمل هذه النوعية من الأطعمة من أضرار على صحّتهم.
وهذا ما يتطلّب أيضًا توعية الأطفال أنفسهم التوعية الصحية المناسبة، حتى يتجنّبوا الإقبال على استهلاك كلّ ما يجدونه أمامهم، ومن ذلك على سبيل المثال الأطعمة والمثلجات التي تروّجها السيارات المتنقلة بين الأحياء السكنية، والأماكن الترفيهية، والتي لا أحد يعلم عن ظروف إعدادها وتحضيرها. وينبغي أن ينسحب ذلك على المقاصف المدرسية، التي لا يُراعى فيها توفير الأطعمة الصحية للطلاب. وهذا ما يلقي بالمسؤولية على إدارات المدارس نفسها.
كما تتحمّل المنابر الدينية أيضًا جانبًا مهمًّا من توعية الجمهور على هذا الصّعيد، بالنظر لاهتمام الدين بالجانب الصحي في حياة الإنسان، حيث ورد عن النبي محمد ضمن سياق حديثه عن الآية الكريمة: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾، أنّه قال: "الحسنة في الدنيا الصّحة والعافية، والحسنة في الآخرة المغفرة والرحمة"[5] .
الإرشادات الدينية الصّحية
وقد وردت نصوص دينية عديدة في ضرورة الحفاظ على الصّحة في حياة المسلم. فقد ورد عن أمير المؤمنين أنّه قال: "المعدة بيت الأدواء، والحمية رأس الداء"[6] ، ذلك أنّ الكثير من المشاكل الصحية منشؤها من الأطعمة وأنواع الشراب. وهنا لا بُدّ من الإشارة إلى أنّه في الوقت الذي ينبغي أخذ التعاليم الدينية حول الصّحة العامة بعين الاعتبار، ينبغي التزام الحذر حيال الروايات الصحية التفصيلية الواردة في عدد من الكتب المتداولة، من قبيل كتاب "طبّ النبي" المنسوب لأبي عباس المستغفري أو كتاب "طب الأئمة" لابني بسطام الحسين وعبدالله، فلا يصحّ أبدًا الاعتماد على تلك الروايات في القضايا الطبية التفصيلية، فهناك في عصرنا الراهن تقدّم علمي كبير، وطبّ حديث، يمكن الاعتماد عليه، خاصة وأنّ الكتابين الآنفين غير معتبرين لجهالة مؤلّفيهما بحسب المتخصّصين في علم الرجال، فلا أحد يعلم بجامع هذين الكتابين على وجه التحديد، وقد ذهب العلماء إلى القول بعدم اعتبار أغلب ما فيهما من الروايات، وأمّا ما ورد في غيرهما من الكتب فأكثره ضعيف سندًا، والمعتبر منه قليل.
وقد أورد الشيخ الصدوق في كتابه "الاعتقادات" كلام لطيف حول الروايات الطبية الواردة، حيث قال: "اعتقادنا في الأخبار الواردة في الطبّ أنها على وجوه، منها ما قيل على هواء مكة والمدينة، فلا يجوز استعماله في سائر الأهوية، ومنها ما أخبر به العالم (الإمام) على ما عرف من طبع السائل، ولم يتعدّ موضعه، إذا كان أعرف بطبعه منه، ومنها ما دلّسه المخالفون في الكتب لتقبيح صورة المذهب عند الناس، ومنها ما وقع فيه سهو من ناقله، ومنها ما حفظ بعضه ونسي بعضه"[7] .
ومضمون قول الصدوق أنّ الوصايا الطبية الواردة عن النبي والأئمة، قد تكون جاءت على وجوه مختلفة. فلربما أتى الإمام مريض في المدينة المنورة يشتكي من علة، فيوصيه الإمام بوصايا طبية تتناسب وأجواء المدينة، وليست تتناسب بالضرورة مع من يعيش في أجواء أخرى، وقد تأتي وصية الإمام بناءً على وضع السائل أمامه دون غيره من الناس، تمامًا كما هو جار في عصرنا الراهن حيث يعطي الطبيب الوصفة بناءً على تشخيص كلّ مريض على حدة، وفي الوجه الثالث يشير الصدوق إلى أنّ بعض الروايات الطبية ليست إلّا روايات مدسوسة من أعداء أهل البيت، بغرض الإساءة لمذهبهم، إضافة إلى إمكانية وقوع الرواة عن الأئمة في السهو، فقد ينقلون عنهم خلاف ما سمعوا منهم، تمامًا كما لو سئل القادم من المستشفى عن كلام الطبيب، فقد يسهو عن كثير مما قاله له، وكذلك الحال مع المستمع لخطيب على المنبر، فقد لا ينقل جميع ما سمعه على نحو دقيق، ربما لعدم استيعابه بعض ما قيل، لذلك لا يمكن الأخذ بكلام الرواة عن الأئمة على عواهنه، وههنا بالتحديد يكمن دور العلماء المحقّقين في تمحيص الروايات والوقوف على مدى صحتها. لكنّه يمكن الأخذ بالوصايا الطبية العامة الواردة في التراث الروائي، ومنها تلك المتعلقة بالحمية، أو الاقتصار على تناول الطعام وقت الجوع والقيام عنه "وأنت تشتهيه"، وتجنّب النوم بمعدة متخمة بالطعام، هذه الوصايا تنسجم مع ما توصّل له العلم والطبّ الحديث.
النظام الغذائي والحركة والنشاط
من هنا، وبمناسبة يوم الصحة العالمي نودّ التأكيد على أمرين؛ أولهما التقيّد بسلامة النظام الغذائي، فلا يفرط المرء في تناول الطعام والشراب، وأن يلتزم الغذاء الصحي، بعيدًا عن الإكثار من السكريات والمعلّبات، والأطعمة المشبعة بالدهون، والمشروبات الغازية المضرّة.
والأمر الثاني ضرورة التزام الحركة والنشاط، والنأي عن حالة الركود والخمول، لما في الحركة من فوائد صحية كبيرة. وقد لفتني إقدام البعض على بذل الجهد بأنفسهم في غسيل السيارة مثلًا، وعندما يقال لهم أن يكلّفوا عاملًا بالمهمة مقابل مبلغ زهيد، ويوفّروا على أنفسهم العناء، فإنّهم يقولون إنّ الفائدة الصحية العائدة عليهم من بذل الجهد والحركة، هي أضعاف مضاعفة من ذلك المبلغ الزهيد الذي يُعطي للعامل، وينسحب ذلك على سائر أشكال الحركة في المنزل، من تنظيف أرجاء المنزل وخارجه، والعناية بتنظيف وتنسيق الحديقة، وهذا ما نراه شائعًا عند الناس في البلاد الأخرى.
ولعلّ جانبًا من أسرار وغايات بعض الممارسات العبادية، يكمن في ممارسة الحركة، من صلاة النوافل والسير إلى المساجد لحضور صلاة الجماعة، وتشييع الجنائز. وتتزايد ممارسة الحركة والنشاط البدني أهمية في عصرنا الراهن، ففيه تكمن الراحة الحقيقية للبدن، بالنظر لتفاقم الأمراض المرتبطة بالكسل والخمول.