هل تمتلك المرأة قرار زواجها؟
﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾[سورة البقرة، الآية: 187]
تُعَدّ العلاقة الزوجية إحدى أخصّ وأوثق العلاقات بين بني البشر. فالعلاقة بين الزوجين مفتوحة على جانبي الروح والجسد، علاوة على التداخل والاندماج النفسي بينهما، حتى وصف القرآن الكريم هذه العلاقة باعتبارها نوعًا من السكن لنفس الإنسان، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾، فالزوج وفق التعبير القرآني سكن لزوجته، والزوجة سكن لزوجها.
وذهبت آية قرآنية أخرى إلى وصف العلاقة الزوجية باللباس، فالزوج بمنزلة اللّباس للزوجة والعكس صحيح، قال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾، ومن المعلوم أنّ علاقة الإنسان بلباسه تمتاز بالالتصاق في المقام الأول، حيث يلتصق اللباس بالجسم تمامًا، وحينما يصف القرآن الكريم العلاقة الزوجية باللّباس، فإنّ ذلك من باب التمثيل لحالة القرب الشديد إلى حدِّ الالتصاق بين الزوجين. كما يأتي وصف العلاقة الزوجية باللّباس، لما في اللّباس من حماية للجسم، من البرد والحرّ والغبار، وسائر العوامل الخارجية التي يمكن أن تؤثر على الإنسان، ومضمون ذلك أنّ العلاقة الزوجية يفترض بها أن توفّر الحماية المتبادلة بين الزوجين. وإضافة إلى ذلك، يأتي وصف العلاقة الزوجية باللّباس لما في اللباس من ستر لعورة الإنسان، حيث تمثّل العلاقة الزوجية سترًا أخلاقيًّا للإنسان. وأخيرًا، جاء وصف الزواج باللّباس لما في اللباس من زينة، فبالقدر الذي يتجمّل الإنسان بلباسه، فهو يتجمّل كذلك بالعلاقة الزوجية في حياته الاجتماعية، فالزوج بمنزلة الزينة للزوجة، والعكس بالعكس.
الدراسة المتأنّية لقرار الزواج
وعليه، ينبغي ألّا يدخل الإنسان في العلاقة الزوجية إلّا بعد دراسة وتأنٍّ؛ لأنّها ليست كأيّ علاقة أخرى. فالعلاقة الزوجية ليست محلًّا مستأجرًا يختار الإنسان أخلّاءه متى شاء، وإنّما هو شراكة مصيرية في الحياة، حيث يتحوّل الزوج إلى جزء أساس من حياة زوجته والزوجة كذلك، نتيجة الشراكة العميقة والتداخل القائم بين الطرفين.
لذلك ينبغي أن تؤسّس هذه العلاقة على أساس صحيح سليم، وإلّا فإنّ التأثيرات السلبية ستكون كبيرة على شخصية الإنسان وحياته. ومن أهمّ الأسس في إنشاء العلاقة الزوجية حسن الاختيار، بحيث يحسن كلٌّ من الطرفين اختيار شريكه، فلا يكون الاختيار منبعثًا من حالة عاطفية، أو على نحوٍ ارتجالي، وألّا يأتي نتيجة فرض أو إكراه، فلا يصحّ أن يُفرض على رجل قرار زواجه من امرأة، ولا أن يُفرض على امرأة زوج بغير رضاها.
المرأة وقرار الزواج
يأتي السؤال هنا حول ما إذا كان للمرأة حقّ اتخاذ القرار في أمر زواجها وحدّها، أم يلزم اتخاذ أحدٍ آخر قرار زواجها نيابة عنها؟. وتنبع أهمية السؤال انطلاقًا من خطورة هذا القرار على مستقبلها، فهي التي ستكون تحت قوامة الزوج، على النقيض من الرجل الذي سيكون صاحب السّلطة وبيده قرار الطلاق، كما أنّ المرأة هي الطرف الأكثر انفعالًا وتأثّرًا في الحياة الزوجية، وعليه، فهي معنية مباشرة باتّخاذ قرار الزواج، فهل لها حقّ اتّخاذ القرار بالزواج أم لا؟ ينبغي القول، إنّ هذا الموضوع لم يكن محلّ بحث في العصور الماضية، حين كانت المرأة تعاني التهميش الشديد، والنظرة الدونية، نتيجة الهيمنة الذكورية المتفشية، لذلك لم يكن للمرأة رأي يذكر في تحديد مصيرها، بل لم يكن ينظر للمرأة باعتبارها في مرتبة موازية للرجل، وإنّما هي في مرتبة دون الرجل، كما في بعض الحضارات والتنظيمات الاجتماعية القديمة.
لقد ساهم ظهور الإسلام في بروز تغيير جذريٍّ في نمط التعامل مع المرأة الجاري في الأقوام السابقة. ولكن ما الذي أضافه الإسلام حيال امتلاك المرأة قرارها في الزواج؟. حقيقة الأمر، هناك نقاش محتدم بين فقهاء الإسلام حيال موضوع حقّ المرأة في اتخاذ قرار الزواج. ولقد بلغ من اختلاف الفقهاء في مسألة تزويج المرأة نفسها حدًّا جعل أحد العلماء الكبار؛ الشيخ يوسف البحراني، يقول في كتابه الحدائق "وقد عدّها الأصحاب من أمّهات المسائل، ومعضلات المشاكل، وقد صنفت فيها الرسائل، وكثر السؤال عنها والسائل، وأطنب جملة من الأصحاب فيها الاستدلال لهذه الأقوال وأكثروا فيها القيل والقال"[1] ، وهذا ما يشير إلى مدى التعقيد المحيط بهذه المسألة.
أمّا عن أهمّ الأقوال في مسألة حقّ المرأة في تزويج نفسها، فهناك ثلاثة أقوال، حيث يحصر القول الأول قرار التزويج بيد الولي فقط، إذ يرى جملة من الفقهاء من مختلف المذاهب أنّ قرار الزواج بالنسبة للبنت البكر محصور بيد وليّها، الذي قد يكون الأب أو الجدّ للأب، وعلى رأي المذاهب السنية ينتقل القرار للعصبة من أعمام وأخوال في حال وفاة الأب والجدّ، وبذلك لا قرار للبنت في أمر زواجها وفقًا لهذا الرأي، واستدلّ هذا الفريق من الفقهاء بجملة من الروايات، ومن ذلك صحيحة فضل بن عبد الملك عن أبي عبدالله الصادق أنه قال: "لا تُستأمر الجارية التي بين أبويها، إذا أراد أبوها أن يزوّجها هو أنظر لها"[2] ، أي إنّ البنت لا رأي لها إذا ما قرّر والدها تزويجها، واستدلّوا كذلك برواية أخرى عن الإمام الصادق، كما في صحيحة الحلبي في الجارية يزوّجها أبوها بغير رضًا منها، أنه قال : "ليس لها مع أبيها أمر، إذا أنكحها جاز نكاحها وإن كانت كارهة"[3] ، وقد استند هذا الفريق من الفقهاء الشيعة على هذه الروايات، وقالوا بأنّ القرار بيد الولي، ويوافقهم في ذلك الشافعية والمالكية حيث قالوا؛ تثبت الولاية إجباريًّا للأب، وللجدّ عند عدمه، فللأب تزويج البكر صغيرة أو كبيرة بغير إذنها، ويستحب استئذانها. وجماع القول عند هذا الفريق أنّ البنت لا قرار لها في أمر زواجها، وإنّما يتخذ بالنيابة عنها، أخطر قرار يتحدّد بموجبه مصيرها ومستقبلها.
القرار بيد الفتاة
أمّا في القول الثاني، فقد ذهب فريق آخر من الفقهاء إلى القول بأنّ قرار الزواج هو بيد البنت، وليس بيد الولي، ما دامت بالغة عاقلة رشيدة. وعلّلوا ذلك بأنّ الأصل في الشريعة، هو سلطة الإنسان على نفسه، وكون المرأة إنسانًا فهي كذلك مسلّطة على نفسها، وإلّا فما الذي يجعل الرجل يمتلك قراره بيده، فيما ينتزع ذلك الحقّ من المرأة؟ هنا يمكن القول بوجود استثناءٍ في عدم منح المرأة حقّ تزويج نفسها، لكن ذلك يستلزم دليلًا واضحًا وهو غير موجود، وفقًا لهذا الفريق من الفقهاء.
ويستند هؤلاء الفقهاء أيضًا إلى جملة من الأدلة والنصوص الدينية الدالة على أنّ الفتاة البكر تستقلّ بقرار تزويج نفسها، ومن ذلك ما روي عن زرارة عن الإمام الباقر أنه قال: "إذا كانت امرأة مالكة أمرها تبيع وتشتري وتعتق وتشهد وتعطي من مالها ما شاءت فإنّ أمرها جائز تزوج إنْ شاءت بغير إذن وليّها، وإن لم تكن كذلك فلا يجوز تزويجها إلّا بإذن وليّها"[4] ، ومضمون ذلك وفقًا للرواية، يتقيد حقّ المرأة في تزويج نفسها باستقلاليتها المالية، ورشدها العقلي، وإنْ كان بغير إذنٍ من وليّها.
وضمن هذا السياق نقل السيّد محسن الحكيم في المستمسك خبر ابن عباس، أنّ جاريةً بكرًا جاءت إلى النبي فقالت: إنّ أبي زوّجني من ابن أخ له ليرفع خسيسته وأنا له كارهة، فقال : "أجيزي ما صنع أبوك"، فقالت: لا رغبة لي فيما صنع أبي، قال : "فاذهبي فانكحي من شئتِ"[5] ، وقد ورد هذا الحديث عن ابن ماجة. وبناءً على هذه الأدلة وأمثالها ذهب إلى هذا الرأي كثير من العلماء المتقدّمين والمتأخّرين، وأصبح هو الرأي المشهور. حتى إنّ بعض الفقهاء ادّعى الإجماع على هذا الرأي كما عند السيّد المرتضى، وصاحب الجواهر، والشهيدين في اللّمعة، ومال إلى هذا الرأي السيّد الشيرازي في بحثه الاستدلالي، حيث قال: "والأقرب في النظر أنّ الولاية بيدها وحدها للأدلة التي تقدّمت، ولا تقاومها سائر الأدلة، إذ إنّ أدلة سائر الأقوال، بالإضافة إلى منافاتها للأدلّة العامة، مثل "الناس مسلّطون" ونحوه، لا بُدّ أن تحمل على نوع من الأدب"[6] ، فهو يرى في بحثه الاستدلالي أنّ أخذ المرأة الإذن من وليها في الزواج يأتي من باب التأدّب وحسب، وإنْ قال في فتاواه العملية بالاحتياط.
وذهب فريق ثالث من الفقهاء إلى الجمع بين الأمرين، على نحو يفضي إلى الاشتراك في اتّخاذ قرار التزويج، بين موافقة الولي ورضا البنت على حدٍّ سواء. وبهذا يشترط في صحة التزويج إحراز موافقة المرأة ووليّها، فإن تم إحراز موافقة أحدهما دون الآخر فلا يصحّ الزواج.
تطور العصر وظروف الحياة
لقد كان هذا الجدل الفقهي سيّد الموقف في أوقات سالفة، في حين بات الناس يعيشون اليوم في عصر مختلف تمامًا. فقد انتزع البشر في العصر الراهن حرياتهم، وبات الإنسان، رجلًا أو امرأة، أحرص ما يكون على انتزاع حقّه في اتخاذ القرارات التي تحدّد مصيره، وساهمت في ذلك المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، التي جاءت مؤكّدة على الحقوق الفردية. فإذا كانت هذه سمات العصر الراهن الذي يعيشه الناس، فمن الصعوبة بمكان أن نطبق رأيًا فقهيًّا ينتزع حقّ الفتاة في إبداء رأيها في أهمّ شأن من شؤونها وهو الزواج، وترك ذلك الحقّ لوالدها أو وليّها، أو أن تواجه الفتاة بـ "فيتو" من وليّها يمنعها من الزواج بمن تختاره، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وتداعيات.
وإضافة إلى اختلاف ظروف العصر، يأتي تغيّر الظروف الاجتماعية عاملًا ثانيًا، يصبّ في ترجيح كفّة الفتاة في حقّ اختيار وتحديد مصير حياتها الزوجية، فقد يصدق القول إنّ أباها "هو أنظر لها" ضمن الظروف الاجتماعية التي كانت سائدة قديمًا، حيث كانت المرأة تعاني التهميش والأمية وعدم الإلمام بما يجري في مجتمعها، وبذلك قد تكون فاقدة للقدرة على التشخيص، ومعرفة الناس، ومن ثم اتّخاذ القرار المناسب.
غير أنّ جميع ذلك قد تغيّر تمامًا، فالمرأة اليوم ليست كما كانت نظيرتها بالأمس. فقد باتت المرأة أكثر تعليمًا وأكثر اطّلاعًا ومعرفة بمجتمعها، ولم يَعُدْ مستساغًا ولا مقبولًا النظر إليها اليوم على نحو الاستصغار والدونية، وكأنّها غائبة عن محيطها، وجاهلة بمجتمعها، وبعض بنات اليوم أعلم من آبائهنّ بأحوال المجتمع، وظروف العصر، سيّما مع توفر الدراسات والبحوث، ووسائل التواصل الاجتماعي، وشبكة العلاقات الواسعة الانتشار. وقد أثبتت الأحداث هذه الحقيقة، فلطالما روى آباء عن خاطبين تقدّموا لبناتهم، فلما كلموهنّ في ذلك، ذهبت البنات للتنقيب بأنفسهنّ عن أولئك الخاطبين، وتوفرن على كمٍّ كبير من المعلومات والتفاصيل عنهم، على نحوٍ لم يكن يخطر على بال الآباء، وهذا ما يشير إلى أنّ بنات اليوم لسنا كبنات الأمس.
الأمّة والتحدّي الحضاري
وقد باتت الأمّة اليوم تعيش تحدّيًا حضاريًّا جدّيًّا، بلغ حدّ اتّهام الإسلام بأنّه لا يقرّ الحريات، ولا يعترف بحقوق الإنسان، ويضطهد المرأة. وما من شك أنّ بعض الآراء الفقهية تساهم في تعزيز تلك الاتّهامات، وتفسح المجال واسعًا لتشويه سمعة الإسلام.
من هنا يغدو من اللّازم أخذ ظروف العصر الراهن بعين الاعتبار، حين النظر في تلك الآراء الفقهية المتعلّقة بالمرأة. إذ ينبغي ألّا نغفل واقع العصر الراهن، عند بحث الشأن الخاصّ بالمرأة فقهيًّا، بغرض ترجيح أحد الآراء، مع أهمية النظر في تأثيرات اختيار أو ترجيح أيّ حكمٍ شرعيٍّ على سمعة الإسلام، وواقع المسلمين.
سيّما وأننا ما نزال نواجه استغلالًا لبعض الآراء الفقهية المتقادمة، في تعزيز بعض العادات والأعراف، وإمضائها في المجتمع، ومنها تلك المتعلّقة بمسألة تكافؤ النسب بين الزوجين، الذي يعني أنّ أيّ شخصٍ تزوّجت إحدى أقاربه من شخصٍ يعتبره هو من قبيلة أو عائلة أقلّ شأنًا وأدنى مكانة من قبيلته، فله أنْ يرفع قضية في المحكمة للتفريق بينهما. وهذا ما حصل بالفعل في حالات متكرّرة في المملكة، حيث انشغلت الصحافة المحلّية والرأي العام في الآونة الأخيرة بقضية من هذا القبيل، كما ورد في صحيفة الحياة لعدد 29 جمادى الآخرة 1437 بعنوان "حكم قضائي بفسخ فتاة سعودية من زوجها"، علمًا بأنّ زوجها يعمل جنديًّا في القوات المسلحة، وهو من المقاتلين على الحدّ الجنوبي، وذلك تحت مبرّر عدم تكافؤ النسب، ومردّ ذلك إلى أنّ أعمام الزوجة رفعوا دعوى لإحدى محاكم الرياض، وقد نظرت المحكمة في الدّعوى، فيما لجأت الزوجة إلى بثّ معاناتها من خلال مقطع مصوّر انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقد كانت تستغيث وتأمل من الملك، وولي العهد، ووزارة العدل، معالجة أمرها، وإعادة النظر في قرار المحكمة؛ لكونها حاملًا، ويشغل بالها كثيرًا التفكير في مستقبلها ومصير وليدها المرتقب، سيّما وأنّها تتشبث بزوجها، وهو كذلك لا يريد التخلّي عنها. وهذه ليست القضية الأولى ولا الوحيدة التي تنظرها المحاكم في قضايا تكافؤ النسب، فقد نظرت المحاكم السعودية أكثر من 63 دعوى لفسخ عقد نكاح بمبرّر عدم تكافؤ النسب.
مشكلة تكافؤ النسب
ينبغي الإشارة إلى أنّ هناك نقاشًا فقهيًّا يحيط بمسألة تكافؤ النسب. إذْ بخلاف مسألة التكافؤ في الدين المتفق عليها بين المسلمين استنادًا إلى الحديث: "المسلم كفؤ للمسلمة"[7] ، ظلّت مسألة التكافؤ في النسب محلّ خلاف بين فقهاء المسلمين، وفي حين لا اعتبار لمسألة تكافؤ النسب عند فقهاء الإمامية، فلا يشترط عندهم أن يكون الزوج متكافئ النسب مع الزوجة، خالفهم في ذلك الحنفية والشافعية والحنابلة، الذين استدلّوا على رأيهم بقول الخليفة عمر بن الخطاب: "لأمنعنّ فروج ذوات الأحساب إلّا من الأكفاء"، وفي رواية ".. قلت: وما الأكفاء، قال: في الأحساب"[8] ، والاعتبار عندهم في النسب للآباء، حيث قالوا إنّ الأعجميَّ أباً وإن كانت أمّه عربية، فليس كفؤًا للعربية، وإن كانت أمّها أعجمية.
وذهب المذهب المالكي إلى عدم اعتبار النسب، كما المذهب الإمامي، حيث قال مالك: "أهل الإسلام كلهم بعضهم أكفاء بعض؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ﴾.
وقال الحنفية: "العرب بعضهم أكفاء لبعض، ولا تكون العرب كفئًا لقريش، لفضيلة قريش على سائر العرب، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، ولا تكون الموالي أكفاء للعرب، لفضل العرب على العجم"[9] ، وكذلك قال الشافعية. والأصحّ عند الحنفية أنّ العجمي لا يكون كفؤًا للعربي ولو كان عالمًا أو سلطانًا، فهو ليس كفؤًا للزواج من عربية. وذهب بعض الفقهاء إلى القول بالتكافؤ استنادًا إلى الحرفة والمهنة، فقد ذهب جمهور فقهاء أهل السّنة إلى القول إنّ الرجل صاحب الصناعة أو الحرفة الدنيئة أو الخسيسة ليس كفؤًا لبنت صاحب الصناعة أو الحرفة الرفيعة أو الشريفة؛ لأنّ الناس يتفاخرون بشرف حرفهم. وقال الحنفية إنّ الكفاءة تثبت بين الحرفتين في جنس واحد، كالبزاز مع البزاز، والحائك مع الحائك، وتثبت عند اختلاف جنس الحرفة إذا كان يقارب بعضها بعضًا، كالبزاز مع الصايغ، والصايغ مع العطار، ولا تثبت فيما لا مقاربة بينهما، كالعطار مع البيطار، والبزاز مع الخراز[10] .
ولنا أن نتصوّر مدى التعقيد الذي لا مبرّر له في جميع هذه الأقوال، والأغرب أنّ جميع ما سبق هو من كلام الفقهاء الذين يقرأون قول رسول الله : "كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أحمر"، لكنهم يجعلون ذلك في باب الاستثناء.
اختيار الآراء الفقهية المناسبة
إنّ من الواضح أنّ الآراء الفقهية التي ذهبت إلى القول بتكافؤ النسب كانت متأثّرة بظروف البيئة الاجتماعية والثقافية السائدة في زمانهم. ولكن ماذا عن العصر الراهن بكلّ تحدّياته، المختلفة كليًّا عن ظروف العصور القديمة؟ وهل يصحّ أن يبقى المسلمون في العصر الحديث محكومين بهذه الآراء المتقادمة؟ نحن وإنْ كنّا نحترم تلك الاجتهادات ضمن سياقاتها المغايرة، إلّا أنّنا إذا انفتحنا على النصوص والمبادئ الدينية، وأخذنا بعين الاعتبار التحدّيات والظروف المعاصرة، فإنّ ذلك يتطلّب منا ترجيح الآراء الأكثر تسامحًا وانسجامًا مع مبادئ الدين وروح العصر. سيّما وأنّ تطبيق مسألة تكافؤ النسب غير داخلة في باب الإلزام والوجوب، وإنّما غاية ما يقال إنّه حقٌّ من الحقوق، التي يمكن التنازل عنها، إذا ما تعارضت مع ما هو أهمّ وأولى.
من هنا، وتبعًا لظروف العصر الراهن، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار رأي الفتاة في مسألة الزواج. وإذا كانت تصرّ على الزواج من شاب معيّن، فإنّ رأيها ينبغي أن يكون محلّ احترام، وذلك بالنظر إلى التداعيات الخطيرة المتوقعة، في حال تم صرفها عن الزواج ممن تريد تحت ضغط العائلة، وغاية ما هناك أنّ يجري الحديث معها، ومحاولة إقناعها بصرف النظر عن ذلك الزواج، إذا كانت هناك مبرّرات صحيحة، وإلّا فلا جدوى من الضغط عليها إذا تشبّثت برأيها، لما في ذلك من عواقب غير محمودة إذا تزوجت لاحقًا بمن لا ترغب فيه، حيث ستفقد الاستقرار في علاقتها الزوجية الجديدة، بالنظر لانشدادها وعواطفها المنشغلة بأحدٍ آخر.
والحال نفسه مع الشّاب الذي جرى رفض ارتباطه بالفتاة التي يحب، إذ ستكون علاقته الزوجية المستقبلية غير مستقرة، لانشداده إلى فتاة أخرى، ما يقود جميع ذلك إلى بروز مشاكل جدّية، ربما قادت إلى انحرافات أخلاقية، وتفكّك أسري. لذلك ينبغي إعادة النظر في هذا الأمر، على نحوٍ يكون هنالك إقرار بحقّ الفتاة، في قرار الزواج بمن تشاء، وعلى الأسرة أن تمحضها الرأي، وتساعدها في ترشيد قرارها، مع حفظ حقّها في اتّخاذ القرار النهائي.