أحكام شرعية يغيّرها الزمان
َسُئِلَ ـ عليّ بن أبي طالب ـ عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ، فَقَالَ : إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ وَالدِّينُ قُلٌّ فَأَمَّا الْآنَ وَقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ وَضَرَبَ بِجِرَانِهِ فَامْرُؤٌ وَمَا اخْتَارَ[1] .
حين يصدر أمرٌ أو نهيٌ عن رسول الله ، عبر قول أو ممارسة، فإنّه يعتبر تشريعًا دينيًّا، لوجوب إطاعته على الأمّة فيما يأمر وينهي، وكذلك الحال بالنسبة لأئمة أهل البيت ضمن المعتقد الشيعي، الذي يراهم امتدادًا لدور النبي في تبيين الأحكام الشرعية.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه أمام تلك النصوص الدينية التي تحمل التشريعات، بعد الفراغ من مناقشة سندها: هل أنّ مفادها التشريعي يحمل صفة الثبات والدوام بما يتجاوز الزمان والمكان، في كلّ تلك النصوص الواردة؟
أم أنّ لتغيّر الأزمنة والظروف الاجتماعية تأثيرًا على سريان مفعول تلك الأحكام الشرعية؟
لا شك أنّ الأصل في كلّ حكم شرعي هو الثبات والاستمرار، فقد ورد في الكافي بسند صحيح عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «حلال محمد حلال أبدًا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدًا إلى يوم القيامة»[2] .
لكن الوجدان والواقع يحكم بأنّ الشرع قد يضع أحكامًا لغايات ومقاصد محدّدة بزمن وظرف معيّن، وحين تنتفي تلك المقاصد والغايات، بتغيّر الظرف والزمان، فإنّه ينتهي ويتوقف مفعول تلك الأحكام.
وقد تحدّث القرآن الكريم، عن التغيير والتطوير في الشرائع الإلهية التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه، حيث تنسخ الشريعة الجديدة أحكام الشرائع السابقة، مواكبة لتطور حياة البشر، حتى جاءت الشريعة الإلهية الخاتمة على يد النبي محمد خاتم النبيين .
لكنّ ختم الشرائع بشريعة الإسلام لا يعني توقف التطور والتغيّر في حياة البشر، بل يعني قابلية شريعة الاسلام لاستيعاب المتغيرات، وملاحقة التطور، وهذا هو التحدّي الكبير الذي يواجهه المسلمون في فهمهم لدينهم، واكتشافهم لمنهجية معرفة أحكامه التي تواكب مستجدّات الزمن، وتطور الحياة.
إنّ تأثير خصوصيات الزمان في مناطات الأحكام الشرعية، حقيقة يجب استحضارها عند ممارسة الاجتهاد، واستنباط الأحكام في كلّ عصرٍ ومجتمع، فهي مبرّر أساس لضرورة وجود الفقهاء والمجتهدين في كلّ زمن وجيل.
وهي الحقيقة التي استدعت التغيير في شرائع الأنبياء، واستدعت وجود النسخ في القرآن الكريم، الذي أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [سورة البقرة، الآية: 106]. على اختلاف بين العلماء في نوعية النسخ المقصود، وفي مساحة وقوعه.
وفي بحثه حول النسخ في القرآن، أشار السيّد الخوئي إلى هذه الحقيقة بقوله: «والنسخ بهذا المعنى – أي نسخ الحكم – ممكن قطعًا، بداهة: إنّ دخل خصوصيات الزمان في مناطات الأحكام مما لا يشكّ فيه عاقل، وإذا تصوّرنا وقوع مثل هذا في الشرائع، فلنتصوّر أن تكون للزمان خصوصية من جهة استمرار الحكم وعدم استمراره، فيكون الفعل ذا مصلحة في مدّة معينة، ثم لا تترتب عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك المدة، وقد يكون الأمر بالعكس»[3] .
النبي يرفع بعض أحكامه
يتضح من السيرة النبوية الشريفة، ومن عدد من الأحاديث الواردة عن النبي ، أنّ هناك تشريعات أصدرها النبي وعمل بها المسلمون، لكنه بعد مدة من الزمن أعلن رفع تلك التشريعات، منبّهًا أنّه أمر بها لمصلحة، وحين انتفائها فإنّه يلغي ذلك التشريع.
ومن تلك الأحاديث ما ورد في صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: «قال النبي : من ضحّى منكم فلا يصبحنّ بعد ثالثةٍ وبقي في بيته منه شيء. فلما كان العام المقبل، قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: كلوا، أطعموا، وادّخروا، فإنّ ذلك العام كان بالناس جهد. فأردت أن تعينوا فيها»[4] .
وفي رواية اخرى عنه أنه قال: «إنّي كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، كيما تسعكم، لقد جاء الله بالخير فكلوا، وتصدّقوا، وادّخروا»[5] .
وأورد ابن حجر في فتح الباري عن أبي سعيد «كان رسول الله قد نهانا أن نأكل لحوم نسكنا فوق ثلاث، قال فخرجت في سفر ثم قدمت على أهلي ـ وذلك بعد الأضحى بأيام ـ فأتتني صاحبتي بسلق قد جعلت فيه قديدًا، فقالت: هذا من ضحايانا، فقلت لها: أوَ لم ينهنا؟ فقالت: إنّه رخّص للناس بعد ذلك، فلم أصدقها حتى بعثت إلى أخي قتادة بن النعمان ـ فذكره وفيه ـ قد أرخص رسول الله للمسلمين في ذلك»[6] . كما أورد أنّ النبي قام في حجة الوداع فقال: «إنّي كنت أمرتكم ألّا تأكلوا الأضاحي فوق ثلاثة أيّام لتسعكم وإني أحللكم فكلوا منه ما شئتم»[7] .
فهناك أمر صادر من رسول الله بعدم ادّخار شيءٍ من الأضاحي لما بعد ثلاثة أيام، ثم تبعه في السنة الأخرى إلغاء لهذا الأمر؛ لأنّ مبرّره وهو وجود الحاجة لها، والضائقة عند الناس لقلة اللحوم قد زالت.
ومثله ما ورد عنه ، كما في فتح الباري، أنه قال: «كنت نهيتكم عن القران في التمر وإنّ الله وسّع عليكم فاقرنوا»[8] حيث عنون البخاري في صحيحه بابًا بعنوان القران في التمر، وهو ضمّ تمرة إلى تمرة لمن أكل مع جماعة، فقد نهى النبي عن ذلك وقت الضيق الاقتصادي عند المسلمين، فلما وسّع الله عليهم رفع النبي عنهم ذلك النهي.
وبوسع الباحث أن يجد شواهد أخرى على هذا الصّعيد، حيث يحمل عدد من الأحاديث النبوية عبارة «كنت نهيتكم» أو «كنت أمرتكم»، وما يشبهها من الألفاظ الدالة على رفع نهي أو أمر.
أحكام إلهية وأحكام تدبيرية
وقد ميّز الشهيد السيد محمد باقر الصدر بين نوعين من الأحكام الصادرة عن رسول الله ، النوع الأول هو الأحكام الإلهية التي بيّنها للأمة كمبلّغ عن الله تعالى، وهذه أحكام ثابتة. أمّا النوع الثاني فهي الأحكام الإدارية التدبيرية التي تصدر عنه كقائد وحاكم للمجتمع، وهذه بطبيعتها قد تستدعي التغيير والتبديل تبعًا للمصالح والأوضاع الاجتماعية.
قال في كتابه «اقتصادنا»: «جاء في الرواية: إنّ النبي قضى بين أهل المدينة في النخل: لا يمنع نفع بئر. وقضى بين أهل البادية: إنّه لا يمنع فضل ماء ولا يباع فضل كلأ. وهذا النهي من النبي عن منع فضل الماء والكلأ، يمكن أن يكون تعبيرًا عن حكم شرعي عام، ثابت في كلّ زمان ومكان، كالنهي عن الميسر والخمر، كما يمكن أيضًا أن يعبّر عن إجراء معيّن، اتّخذه النبي بوصفه ولي الأمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين، في حدود ولايته وصلاحياته، فلا يكون حكمًا شرعيًّا عامًّا، بل يرتبط بظروفه ومصالحه التي يقدّرها ولي الأمر. وموضوعية البحث في هذا النص النبوي تفرض على الباحث استيعاب كلا هذين التقديرين، وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النص وما يناظره من نصوص.
وأمّا أولئك الذين يتخذون موقفًا نفسيًّا تجاه النص بصورة مسبقة، فهم يفترضون منذ البدء أن يجدوا في كلّ نصٍّ حكمًا شرعيًّا عامًّا، وينظرون دائمًا إلى النبي من خلال النصوص بوصفه أداة لتبليغ الأحكام العامة، ويهملون دوره الإيجابي بوصفه ولي الأمر. فيفسّرون النص الآنف الذكر على أساس أنّه حكم شرعيّ عامّ.
وهذا الموقف الخاصّ في تفسير النّص لم ينبع من النّص نفسه، وإنّما نتج من اعتياد ذهني على صورة خاصة عن النبي، وطريقة تفكير معيّنة فيه، درج عليها الممارس، واعتاد خلالها أن ينظر إليه دائمًا، باعتباره مبلّغًا، وانطمست أمام عينيه شخصيته الأخرى بوصفه حاكمًا، وانطمست بالتالي ما تعبّر به هذا الشخصية عن نفسها في النصوص المختلفة»[9] .
شواهد ونماذج
وذكر في أواخر مباحث «اقتصادنا» شواهد ونماذج لتأكيد هذه الفكرة، وهي كما يلي:
أ - جاء في النصوص: أنّ النبي نهى عن منع فضل الماء والكلأ. فعن الإمام الصادق أنّه قال: «قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع فضل ماء وكلاء».
وهذا النهي نهي تحريم كما يقتضيه لفظ النهي عرفًا. وإذا جمعنا إلى ذلك رأي جمهور الفقهاء القائل: بأنّ منع الإنسان غيره من فضل ما يملكه من ماء وكلاء، ليس من المحرّمات الأصيلة في الشريعة، كمنع الزوجة نفقتها وشرب الخمر.. أمكننا أن نستنتج: أنّ النهي من النبي صدر عنه، بوصفه وليّ الأمر.
فهو ممارسة لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ، حسب مقتضيات الظروف؛ لأنّ مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية، فألزمت الدولة الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلأهم للآخرين، تشجيعًا للثروات الزراعية والحيوانية.
وهكذا نرى أنّ بذل فضل الماء والكلاء فعل مباح بطبيعته، وقد ألزمت به الدولة إلزاما تكليفيًّا، تحقيقًا لمصلحة واجبة.
ب - ورد عن النبي النهي عن بيع الثمرة قبل نضجها. ففي الحديث عن الصادق : أنّه سئل عن الرجل يشتري الثمرة المسمّاة من أرض، فتهلك ثمرة تلك الأرض كلّها؟ فقال: «قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله ، فكانوا يذكرون ذلك، فلما رآهم لا يدعون الخصومة، نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة، ولم يحرمه، ولكنه فعل ذلك من أجل خصومتهم». وفي حديث آخر: أنّ رسول الله أحلّ ذلك فاختلفوا. فقال: لا تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها.
فبيع الثمرة قبل بدو صلاحها عملية مباحة بطبيعتها وقد أباحتها الشريعة الإسلامية بصورة عامة. ولكن النبي نهى عن هذا البيع بوصفه ولي الأمر، دفعًا لما يُسفر عنه من مفاسد وتناقضات.
جـ - ونقل الترمذي عن رافع بن خديج أنّه قال: نهانا رسول الله عن أمر كان لنا نافعًا، إذا كانت لأحدنا أرض أن يعطيها ببعض خراجها أو بدراهم، وقال: إذا كانت لأحدكم أرض فليمنحها أخاه أو ليزرعها.
ونحن حين نجمع بين قصة هذا النهي، واتفاق الفقهاء على عدم حرمة كراء الأرض في الشريعة بصورة عامة، ونضيف إلى ذلك نصوصًا كثيرة واردة عن الصحابة، تدل على جواز إجارة الأرض.. نخرج بتفسير معيّن للنّص الوارد في خبر رافع بن خديج، وهو أنّ النهي كان صادرًا من النبي بوصفه وليّ الأمر وليس حكمًا شرعيًّا عامًّا.
فإجارة الأرض بوصفها عملًا من الأعمال المباحة بطبيعتها، يمكن للنبي المنع عنها باعتباره وليّ الأمر منعًا تكليفيًّا، وفقًا لمقتضيات الموقف.
د - جاءت في عهد الإمام إلى مالك الأشتر أوامر مؤكّدة بتحديد الأسعار، وفقًا لمقتضيات العدالة. فقد تحدث الإمام إلى واليه عن التجار، وأوصاه بهم، ثم عقب ذلك قائلًا: «وَاعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقًا فَاحِشًا وَشُحًّا قَبِيحًا وَاحْتِكَارًا لِلْمَنَافِعِ وَتَحَكُّمًا فِي الْبِيَاعَاتِ وَذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعًا سَمْحًا بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ».
ومن الواضح فقهيًّا: أنّ البائع يباح له البيع بأيِّ سعرٍ أحبّ، ولا تمنع الشريعة منعًا عامًّا عن بيع المالك للسلعة بسعر مجحف. فأمر الإمام بتحديد السعر، ومنع التجار عن البيع بثمن أكبر.. صادر منه بوصفه وليّ الأمر. فهو استعمال لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ، وفقًا لمقتضيات العدالة الاجتماعية التي يتبنّاها الإسلام»[10] .
وبهذا يفتح الشهيد الصدر أفقًا واسعًا في مجال التعامل مع كثير من النصوص التشريعية، ودراسة إمكانية التغيير فيها مع تطورات الحياة والزمن.