الاجتهاد والتجديد ضرورة في كل عصر
﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[سورة البقرة الآية: 106]
جاء الإسلام كرسالة جديدة لإنقاذ البشرية من التخلّف والجهل الذي كانت ترزح تحته. وكان من الطبيعي أن تجابه هذه الرسالة الجديدة قوى مناوئة مختلفة. غير أنّ أكثر القوى التي ناصبت الرسالة الجديدة العداء، هي القوى المنتسبة للدين، من أتباع الرسالات السماوية السابقة، وخاصة اليهود، الذين كانت مواجهتهم للرسالة الجديدة أكثر حدّة من غيرهم، معتمدين في ذلك على إثارة الشكوك وطرح الإشكالات المربكة للأذهان، التي انبرى القرآن الكريم إلى الردّ عليها وتفنيدها.
وكانت من جملة الإشكالات التي أثارها اليهود مسألة التغيير الذي جاء به الإسلام، فكانوا يستشكلون على النبي تبديله تعاليم التوراة، في الوقت الذي كان يعترف بأنّ موسى نبيّ مرسل من عند الله، فكيف يغيّر الله شريعة أنزلها للناس، ويبدّل أحكامًا قرّرها على عباده فيما سبق؟ وكيف تقولون إنّ نبيّ الله موسى نبيّ صادق، والتوراة منزل من عند الله، ثم يأتي القرآن ويبدّل ما جاء في تلك الشريعة؟ فإذا كانت تلك صحيحة فلم يجري تبديلها؟ وإذا اعتبرتم ما جاءت به خطأ فأنتم بذلك تتهمون الله تعالى بارتكاب الخطأ في إقرار تلك الشريعة؟
تلك كانت جملة من إشكالاتهم. وازدادت تلك الإشكالات حدّة مع تشريع الإسلام تغيير القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، بعد أن استمرّ المسلمون في التوجّه للصلاة ناحية بيت المقدس نحوًا من 16 شهرًا بعد الهجرة، فاستشكل اليهود حول ما إذا كانت صلاة المسلمين ناحية بيت المقدس صحيحة، أم كانت خاطئة مع توجههم نحو القبلة الجديدة؟
اليهود يستشكلون على تغيير التشريعات
وقد انبرى القرآن الكريم للردّ على إشكالات أهل الكتاب وإثاراتهم، التي كانت تستهدف إثارة البلبلة بين المسلمين. ومن ذلك ما جاء لتفنيد الإشكال حول التغيير في تعاليم الشرائع، قال تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وبذلك أرست الآية الكريمة قاعدة عامة، مفادها أنّ التشريعات الإلهية يمكن أن تتغيّر وتتبدّل، انطلاقًا من أنّ تلك التشريعات إنّما وضعت لحفظ مصالح الناس، فإذا تغيّرت الظروف، واستلزم الأمر وجود تشريع آخر، فليكن ذلك. وهذا لا يعني بأيِّ حالٍ بطلان التشريع السابق في وقته، وإنّما لكونه كان متلائمًا مع ظروف العصر الذي نزل فيه. فاليهودية كانت تمثل الشريعة المناسبة للبشرية حين نزولها، وكذلك الحال مع المسيحية أيضًا، غير أنّ تقادم الزمن، وتغيّر الظروف، جاء بالشريعة الإسلامية مختلفة عن سابقاتها من الشرائع. فالآية الكريمة جاءت في سياق التقرير بأنّ التبديل في الشرائع أمر لا ضير فيه، فالشرائع متغيّرة بينما العقائد ليست كذلك؛ لأنّ عقائد الأنبياء واحدة لا تقبل التغيير.
ولقد عارض اليهود بشدّة مسألة التغيير الذي جاء به الإسلام. زاعمين تمسّكهم بالشريعة التي نزلت عليهم وتجاهلهم أيّ شريعة لاحقة، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾، وهنا محور الإشكال عليهم، فإن كان تمسّكهم بالشريعة اليهودية استجابة لأمر الله، فإنّه تعالى نفسه يأمرهم بالتمسّك بشريعة الإسلام، فلماذا يقبلون الأولى ويرفضون الثانية؟
رفض التغيير من الداخل
وكما حصل الاستشكال على التغيير بين شريعة وأخرى عند الأمم السالفة، امتدّت حالة الاستشكال ذاتها إلى داخل الأمة الإسلامية. ذلك أنّ تغيّر الزمان والمكان أمر حاكم على الشريعة، ما يعني انعكاس ذلك على الأحكام الشرعية، حتى يستوعب الإسلام تطورات العصر الذي يعيش فيه، وهذا تحديدًا ما جعل الدين يُقرّ مبدأ الاجتهاد، الأمر الذي يعني أن يكون هناك في كلّ عصر، من يبذل جهده، ويعمل فكره، في سبيل استنباط الحكم الشرعي المناسب لزمانه، وقد سار على ذلك المجتهدون على مرّ العصور، حيث تتفق جميع مذاهب الأمة على أنّ الاجتهاد واجب كفائي على الأمة في كلّ عصر، لماذا يا ترى؟ أوليس في اجتهادات الماضين الذين تركوا خلفهم تراثًا فقهيًّا كبيرًا ما يكفينا عناء الاجتهاد؟
حقيقة الأمر، إنّ مردّ فتح باب الاجتهاد في الأمة يعود إلى بروز المتغيّرات والظروف المستجدة من جهة، ومن جهة أخرى لكون اجتهادات الماضين نابعة من فهمهم وظروف عصرهم. وهذا ما يستلزم من المجتهدين في هذا العصر أن يجتهدوا ويُعملوا فكرهم في استنباط الأحكام الملائمة للظروف الراهنة، فلربما استنبطوا أحكامًا أكثر ملاءمة لظروف عصرهم.
وعلى الرغم من فتح باب الاجتهاد في الأمة، إلّا أنّ الملاحظ بروز الاعتراضات عند ظهور أيّ اجتهاد جديد خلاف ما ألفه الناس من أحكام وتشريعات.
هنا ينبغي القول، إنّ الأمة كانت وما تزال متمسّكة بهويتها وقيمها الدينية، ولا يسبب لها انتماؤها العقدي أيّ مشكلة لانسجام المعتقدات الإسلامية الأساسية مع الفطرة والعقل، كما أنّ القيم الإسلامية أصبحت قيمًا عالمية، أقرّتها مواثيق حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية. غير أنّ مكمن مشكلة المسلمين في هذا العصر هو في بعض جوانب التشريعات المنظمة لحركة المجتمع، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث غدا بعضها سببًا لإثارة المشكلات في هذا العصر. وبات من الواضح أنّ الأمة تواجه تحدّيات جديدة، تتطلب منها المواءمة والتكيّف بين الالتزام بالتشريعات ومواكبة تطورات الحياة.
خيارات لمواجهة التحدّي
هذا التحدّي يجعل المسلمين أمام عدة خيارات؛ فإمّا التخلّي عن تلك التشريعات والتماشي مع ظروف العصر، والتكيّف مع التغيرات الهائلة التي فرضت نفسها على البشرية، أو التشبث بالتشريعات الدينية كما كانت عليه، بمعزل عن تطورات العصر، سواء توافقت معها أو خالفتها، وسيّان رضي العالم أم أبى، تمامًا كما فعلت بعض الجهات الإسلامية المتشدّدة، كحركة طالبان إبّان سيطرتها على أفغانستان، حيث أرادوا أن ينشئوا إمارتهم الخاصّة تبعًا لأفكارهم المنغلقة، فلا مدارس ولا مصارف، ولا تطعيم للأطفال، ولا فرصة لعمل المرأة، وإنّما العزلة التامّة عن العالم.
حقيقية الأمر، لا خيار التخلّي التامّ عن التشريعات الإسلامية صحيح، ولا اللجوء للعزلة نتيجة التشبث بالموروثات على علاّتها صحيح هو الآخر. فليست الأمة بوارد التخلّي عن دينها بغرض التماشي مع الحضارة الغربية، ولا هي بوارد العزلة عن العالم، لصالح نمطٍ حياتيّ خاصّ يحاكي ظروف الحياة قبل قرون طويلة خلت، وإنّما المطلوب أن يجري التكيف مع ظروف العصر، دون التخلّي عن الضوابط والقواعد والنصوص الدينية المعتبرة.
ويكمن الخيار الأمثل أمام الأمة الإسلامية، في البحث جدّيًّا في إمكانية إعادة النظر في بعض التشريعات، وما دام باب الاجتهاد مفتوحًا، ألا يستحقّ الأمر المحاولة والسعي في سبيل التوصل إلى نتائج تساعد على التكيّف مع التطورات البشرية؟ فكثيرًا ما وقف رجال الدين موقف الضدّ والتحريم حيال بعض القضايا والتحذير منها، لكنهم شيئًا فشيئًا أعادوا النظر وقبلوا ذلك فصارت من الأمور الطبيعية، وهناك أمثلة ونماذج كثيرة في كلّ بلد إسلامي، ومن ذلك مواقفهم الرافضة ابتداءً لما أطلقوا عليه تصوير ذوات الأرواح، وتعليم البنات، وأجهزة الهاتف والتلفزيون.
من هنا يأتي السؤال؛ عن سبب انتزاع التغيير انتزاعًا من الجهات الدينية في العالم الإسلامي؟، ولماذا ينبغي أن تمرّ استجابتهم لظروف العصر بعد مخاضٍ مؤلم، ثمّ عملية قيصرية، إلى أن يفرض الواقع نفسه على الجميع؟، ولماذا لا يجري التغيير انطلاقًا من مبادرة ذاتية؟ وما سبب غياب أيّ تفعيل نشط لمبدأ الاجتهاد، في ظلّ الالتزام بالضوابط والأصول والقيم الإسلامية؟ حيث لا يدعو أحدٌ للانفلات والتمرّد على الأسس الشرعية وضوابطها.
عوائق التجديد
إنّ هناك عوائق كثيرة تقف أمام تفعيل مبدأ الاجتهاد والتجديد في العالم الإسلامي. ولعلّ أبرز تلك العوائق اثنان؛ يتمثل الأول في غياب مؤسّسات البحث العلمي الداعمة للعمل الفقهي، حيث ما يزال الفقيه المسلم يجتهد في استنباط الأحكام الشرعية اعتمادًا على جهده الفردي في الغالب، فهو يراجع الكتب بنفسه، ويبحث عن آراء الفقهاء الآخرين، ليعطي بعدها رأيه في المسألة محلّ البحث. في حين بات البحث العلمي اليوم مجالًا واسعًا تنبري له مؤسّسات، ويتعاون على إنجازه باحثون كثر، وهذا ما تحتاجه الحوزات والمعاهد الدينية في عصرنا الراهن، لتقديم يد المساعدة للفقهاء، حيث يحتاج الفقيه إلى أن يكون تحت تصرّفه مؤسّسات للبحث العلمي، لديها القدرة على دراسة الظروف الموضوعية، السياسية والاقتصادية، والبيئة الاجتماعية التي صاحبت صدور الحكم الشرعي في زمن النبي والأئمة من بعده ، ومقارنة ذلك بظروف العصر الراهن.
إنّ هذا الجانب يتطلّب بحثًا تاريخيًّا وميدانيًّا، هو غير داخل في أدوات البحث الفقهي والأصولي اليوم، ناهيك عن غياب القدرة أو الوقت الكافي، لدراسة الفقيه جميع الفترات التاريخية، والظروف الاجتماعية، التي واكبت صدور كلّ حكم شرعي، لذلك يتطلب الأمر فريقًا بحثيًّا يقوم بهذه المهمّة، ويضع النتائج التي يتوصّل إليها بين يدي الفقيه.
وينسحب عمل مراكز البحث العلمي المساندة لعمل الفقهاء، على دراسة ظروف الواقع المعاصر. فحين يتعلّق الأمر بإصدار حكم شرعي متعلّق بتشريح جسد الإنسان، أو طبيعة الموت السريري، أو عمل المصارف، فهو بحاجة إلى مؤسّسات بحثية مساعدة تُسدي إليه المشورة، وتضع بين يديه دراسات مدعّمة بالمعلومات التقنية الدقيقة، بشأن تلك المسائل وغيرها. وأخذًا في الاعتبار ملابسات صدور النص الديني، والإحاطة بظروف الواقع المعيش، سيكون الفقيه آنئذٍ أقدر على تنزيل الحكم الشرعي على الواقعة المعاصرة، غير أنّ هذا المستوى من المقاربة الفقهية والبحثية لم يأخذ بعدُ طريقه على أرض الواقع.
قمع المجتهدين
أما العائق الثاني الذي يقف أمام تفعيل مبدأ الاجتهاد والتجديد في العالم الإسلامي، فهو غياب حرية التعبير عن الرأي، وانعدام المجال أمام الإفصاح عن الاجتهادات الجديدة. حيث يواجه المجتهدون صعوبة بالغة، تمنعهم من التعبير عن آرائهم الفقهية الجديدة المخالفة للسائد، ومردّ ذلك إلى جملة أسباب:
منها: الألفة المجتمعية للآراء السائدة، حتى عدّها الناس مسلّمات دينية، وثوابت لا تقبل التغيير، ولا ينبغي تجاوزها، فإذا جاء من يطرح رأيًا مغايرًا، يصادم ما ألفوه وتعوّدوا عليه، فإنّهم غالبًا ما يرفضون ذلك.
وأمّا السبب الثاني، فهو التحذير الدّارج في المنظومة الدينية من مسألة البدعة والابتداع، ومعناها إدخال ما ليس من الدين في الدين، ونسبة شيء للدين وهو ليس منه، والغرض من ذلك في الأصل صيانة الدين من التحريف والتزوير، غير أنّ التحذير من البدعة أخذ في التضخم في الأذهان، حتى بلغ درجة الخلط بين مفهوم البدعة والإبداع.
من هنا ينبغي التوضيح، بأنّ الاجتهاد وإعادة النظر في مسألة من المسائل، لا يمتّ للبدعة بصلة، ما دام الأمر متعلّقًا بإبداء رأي في فهم النص، ضمن الضوابط الفقهية، وإن كان مخالفًا لما ذهب إليه الفقهاء السّابقون. لكن هذا الخلط والتشويش، صنع أرضية المناوئة لكلّ رأيٍ جديد، وهذا ما دفع أصحاب الآراء والاجتهادات الجديدة، إلى التحفظ عن إبداء اجتهاداتهم، تحاشيًا لوصمهم بتهمة الابتداع.
ويأتي التحسّس تجاه الحضارة الغربية، باعتباره سببًا ثالثًا. ومردّ ذلك إلى معاناة الأمة طويلًا، من مرحلة الحروب الصليبية ثم الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية، مرورًا بالحملات التبشيرية المسيحية، وانتهاء بدعم الاحتلال الإسرائيلي، ومساندة حكومات الاستبداد، وهذا بأجمعه خلق تحسّسًا عند المسلمين تجاه مجمل الحضارة الغربية، وقاد إلى اتّهام أيّ اجتهاد فقهي جديد، فيه مماشاة ومسايرة لظروف العصر، باعتباره ممارسة للتغريب، أو تمييعًا للدين، أو علمنة الإسلام وما إلى ذلك من تهم مشابهة.
وأمّا السبب الأهمّ من أسباب رفض التجديد فهو الصراعات التي يعجّ بها الوسط الديني نفسه، أنّ الوسط الديني عرضة لبروز الاختلافات وتضارب المصالح، شأنه شأن أيّ وسط اجتماعي آخر، ونتيجة لهذه الصراعات أخذ بعض أفراد هذا الوسط، في استغلال طرح أيّ اجتهاد جديد، واعتباره سلاحًا لتصفية الحسابات، ومادة للتشهير بصاحب ذلك الرأي، والنيل من شخصيته وتسقيطه. ونتيجة لهذه العوائق بأجمعها صارت حركة التجديد والاجتهاد بطيئة، وباتت إعادة النظر في بعض التشريعات أمرًا موازيًا للابتداع في الدين، إلى درجة جعلت بعض الفقهاء يتحفّظون على طرح اجتهاداتهم، رغم اقتناعهم التام بها، إلّا أنّهم لا يرون مصلحة في طرح آرائهم المغايرة، تحت شعار: "ليس كلّ ما يعلم يقال".
إنّ جمهور الأمة أحوج ما يكون إلى التحلّي بسعة الأفق، حتى يتقبّل مختلف الآراء والاجتهادات. فليس هناك أحد مجبرًا على التخلي عن آرائه، والأخذ بالاجتهادات المستجدة، لكنه مطالب بالنأي عن التجريح في أصحاب الآراء الأخرى، وترك الطعن في نزاهتهم، والتشكيك في دينهم، وإخراجهم من الملة، لمجرّد طرحهم رأيًا مخالفًا في مسألة من المسائل الدينية، عقدية أو فقهية.
إنّ الآية الكريمة: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ أرادت أن تؤصّل لحالة الحركة في التشريعات الإلهية، في مقابل الجمود والركود، وكأنّه تعالى يريد أن يقول للبشر: إنّ التشريع الإلهي خاضع للتطور مع تطور الزمن، ضمن قواعد وضوابط، إمّا من خلال مجيء نبي جديد قبل ختم النبوة، أو بسلوك طريق الاجتهاد: استنادًا إلى الكليات والقواعد التي من خلالها يمكن النظر في الكثير من المسائل والنوازل.