تراثنا الأخلاقي ووافع التخلف والفساد
ورد عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين أنه قال في دعاء مكارم الأخلاق: "اللهمّ صلّ على محمّد وآله، وسدّدني لأن أعارض من غشّني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافي من قطعني بالصلة وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة، وأغضي عن السيئة"[1] .
يحتلّ التراث الفكري والمعنوي جانبًا مهمًّا في حياة كلّ أمة، ومدعاة لفخرها أمام سائر الأمم. وحقّ لكلّ أمة أن تفخر بذلك، وأن تستلهم منه الثقة بذاتها، وتعزيز مكانتها، وأن يكون ذلك التراث نبراسًا لأجيالها الصاعدة.
بل إنّ التراث الذي يحمل القيم النبيلة، والمضامين الإنسانية، يصبح موردًا للإنسانية جمعاء، لا حكرًا على الأمة التي أنتجته. ونحن نحتفي هذه الأيام بذكرى ولادة عدد من الكواكب المضيئة في تاريخ أمتنا الحضاري، حيث يصادف اليوم ذكرى ميلاد الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين ، لذلك من المناسب أن نلقي نظرة على كيفية احتفاء الأمم الأخرى بتراثها وشخصياتها.
الاحتفاء بشكسبير
فقد احتفل البريطانيون والعالم يوم الثالث والعشرين من أبريل 2016 بذكرى مرور 400 سنة على وفاة ويليام شكسبير (1564 – 1616)، الشاعر المسرحي الإنجليزي المعروف، الذي أطبقت شهرته الآفاق، والذي تمثل تراثه الفكري في 38 مسرحية و 154 قصيدة.
لقد أولى البريطانيون شكسبير اهتمامًا بالغًا، وكتبوا حوله كثيرًا، ونشروا تراثه عبر العالم، بما في ذلك صور المدرسة التي تلقى فيها تعليمه، والتي ما تزال قائمة حتى الآن، منذ إنشائها سنة 1417 ميلادي، وقد ترجمت قصائده ومسرحياته إلى أكثر من 100 لغة عالمية، وعرضت مسرحياته في أكثر من 170 بلدًا عبر العالم، وبلغ من الشعبية العالمية حدًّا جعل الاقتصاد البريطاني يجني الفوائد من مكانته وشهرته المتصاعدة، لجهة جلب السيّاح، وتعزيز مكانة بريطانيا، والثقافة الإنجليزية في العالم. وقد نقل عن رئيس الوزراء البريطاني الأشهر وينستون تشرتشل أنه قال: "لو خيّرونا بين التخلّي عن كلّ مستعمراتنا وقصائد شكسبير لاخترنا الاحتفاظ بقصائد شكسبير". واحتوت مكتبة فولغر الأمريكية وحدها على أكثر من 250 ألف كتاب ووثيقة تناولت حياة شكسبير ونتاجه الفكري. على هذا النحو تحتفي الأمم بعظمائها وقاماتها الفكرية.
في مقابل ذلك، هناك أمم لديها عظماء، لكنها لا تحسن الاحتفاء بهم، ولا تخليدهم بالشكل المناسب. فبالرغم من توفر الأمة الإسلامية على تراث قيمي كبير، وافتخار أتباع مدرسة أهل البيت بانتمائهم إلى أئمة هداة مصلحين، لكنهم بعدُ لم يحسنوا الاحتفاء بهذه الثروات المعنوية والفكرية العظيمة التي يمتلكونها. فهل يا ترى توجد لدينا 250 ألف وثيقة عن أيّ إمام من أئمة أهل البيت، على غرار ما عند الإنجليز من وثائق متعلقة بشكسبير؟ وهل نشرنا كتبًا مترجمة إلى مئة لغة عن حياة الأئمة، أو كتاب نهج البلاغة، أو رسالة الحقوق، أو الصحيفة السجادية؟ هنا يتبيّن كم أنّنا مقصّرون تجاه تراث أئمة أهل البيت، حيث عجزنا عن إبراز المضمون الإنساني في تراثهم وسيرتهم، وما زلنا مصرّين على إبقائهم حبيسي طوائفنا ومجتمعاتنا المحلية، كما لو أنّهم أئمة لهذه القبائل والمجتمعات فقط، غافلين عن أنّهم ثروة أرادها الله للبشرية جمعاء.
زين العابدين وتراثه العظيم
لقد ترك الإمام زين العابدين سيرة مشرقة، وتراثًا عظيمًا، ونبعًا روحيًّا دافقًا، متمثلًا في الصحيفة السجادية. وترك برنامجًا حقوقيًّا وأخلاقيًّا ثريًّا متمثلًا في رسالة الحقوق، وسائر توجيهاته وتعاليمه الأخرى، غير أننا عجزنا عن إبراز هذا المضمون للعالم، والأهمّ من ذلك، أنّنا لم نتمثل بعدُ هذا التراث الأخلاقي العظيم في حياتنا وسلوكنا وتعاملنا.
ومما ورد في سيرته ما جاء عن الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري أنه قال: "ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين"[2] ، وقال الصحابي الجليل سعيد بن المسيب: "ما رأيت قطّ أفضل من عليّ بن الحسين"[3] . ولعلّ من أهمّ ما جاء في سيرته ، الملكة الأخلاقية العظيمة التي تحلّى بها، فلم يكن قطّ يستجيب للاستفزازات والضغوط، وإنّما كانت القيم الأخلاقية تملأ نفسه، وتحكم سلوكه، وتغمره من رأسه إلى أخمص قدميه.
ومما روي عنه في هذا الصّدد، أنّ لئيمًا سبّه ذات يوم، فأشاح بوجهه عنه، فقال له اللئيم؛ إيّاك أعني، فأجابه الإمام؛ وعنك أغضي[4] . وهذا ما ينمّ عن قدرة كبيرة في ضبط النفس والتحكّم بالأعصاب، والسّيطرة على فورة الغضب. ومما روي أيضًا أنّ رجلًا افترى عليه وبالغ في سبّه، فقال : "إنْ كنّا كما قلت فنستغفر الله، وإن لم نكن كما قلت فغفر الله لك"، وتركه ومشى[5] .
وقد أولى الإمام السّجاد جانب المساعدات الاجتماعية اهتمامًا كبيرًا. حيث اهتمّ كثيرًا بالفقراء والمحتاجين والضعفاء في مجتمعه، فقد تحدّث التاريخ عن سيرته المشرقة على هذا الصّعيد، حيث كان يطعم الناس في داره كلّ يوم ظهرًا، وكان يعول مئة بيت في السِّر، حاملًا الطعام والحطب على ظهره إلى بيوت الفقراء والمحتاجين كلّ مساء، وكانوا ينتظرونه وهم لا يعرفونه، فإذا ما جاء قالوا جاء صاحب الجُراب. وقد قيل إنّه ما فقد أهل المدينة صدقة السِّر حتى مات عليّ بن الحسين. وحينما ثار أهل المدينة على الأمويين، وهم الذين فعلوا في أهل البيت ما فعلوا، والذين عاش الإمام وأهل بيته بسببهم أقسى وأشد المعاناة في كربلاء والكوفة والشام، ومع ذلك لما ثار أهل المدينة عليهم لم يجد مروان بن الحكم، الأموي البارز والمشهور بعدائه لأهل البيت، لم يجد أحدًا يلجأ إليه إلّا عليّ بن الحسين ، فلجأت عائلته إلى بيت الإمام.
الأزمة الأخلاقية في الأمة
إنّ من غير الكافي إبداء الإعجاب إزاء السيرة الأخلاقية للإمام زين العابدين. وإنّما المطلوب تمثّل سجاياه وعظيم أخلاقياته ، وأنْ نحوّلها إلى سلوك في حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية، وإلّا فما فائدة أن نفخر بأنّ لنا أئمة كهؤلاء دونما اتّباع لهم. إنّ امتلاكنا هذه الثروة الأخلاقية الكبيرة المتمثلة في سيرة أئمتنا، ينبغي أن يضاعف المسؤولية علينا حيال التمثّل بسيرتهم وهداهم.
وتحتلّ الصحيفة السجادية جانبًا مهمًّا من الثروة الأخلاقية والروحية التي تركها الإمام زين العابدين . فلم تكن الأدعية التي احتوتها مجرّد مناجاة وتضرّع، وإنّما تشكل منهجًا لمعرفة الله سبحانه وتعالى، وتذكيرًا بنعمه وآلائه، والانفتاح على القدرة الإلهية، واستلهام القوة والعزيمة منها، في مواجهة المحن والشدائد. ولو لم يكن منها إلّا دعاء مكارم الأخلاق لكفى، هذا الدعاء العظيم الذي يحمل القيم الأخلاقية العظيمة، والذي ينبغي أن يحفظه كلّ إنسان، وأن يتمثّله في حياته وسلوكه، كما ترك لنا ثروة أخرى متمثلة في رسالة الحقوق.
إنّ مجتمعاتنا أحوج ما تكون للالتزام بالقيم الأخلاقية. ذلك أنّ الأزمة الحقيقية التي تعيشها مجتمعاتنا، هي في واقعها أزمة أخلاقية، فهذه الأمة التي تمتلك أهمّ ثروة أخلاقية، وأروع تراث قيمي، باتت تعيش فقرًا مدقعًا في واقعها الأخلاقي، حيث ينتشر فيها الظلم والفساد، وانتهاك حقوق الإنسان. ولو أجرينا مقارنة بين مجتمعاتنا الإسلامية والمجتمعات الأخرى، لرأينا الهوة كبيرة، والمسافة شاسعة بين الطرفين، لجهة مراعاة حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، والشفافية، والتوزيع العادل للثروة عند الأمم الأخرى، في مقابل واقع التخلف والظلم والفساد الذي تعيشه المجتمعات التي تنتمي للإسلام، وتفخر بتراثها الأخلاقي.
إنّ الوجه المشرق للأمم المتحضّرة يتمثل في الأخلاق، ولا نعني بذلك السلوك الشخصي للأفراد، بقدر ما نعني بذلك التشريعات والنظم المعتمدة، والسياسات المنفذة في تلك البلدان، التي تنعكس إيجابًا على الأجواء الاجتماعية العامة.
ضرورة المراجعة الأخلاقية
إنّنا وبمناسبة ذكرى ميلاد الإمام زين العابدين مدعوون على الصّعيد الشخصي، إلى إجراء مراجعات أخلاقية. على نحوٍ ينبغي معه أن يفحص كلّ فردٍ مدى التزامه بالقيم الأخلاقية في سلوكه وتعامله مع الآخرين، وما حظّ كلّ منّا من القيم التي تضمّنها دعاء مكارم الأخلاق الذي تركه لنا هذا الإمام ؟
قد يراهن البعض أحيانًا على نقاط القوة الأخرى عنده، من قبيل امتلاك المال، أو التحصيل العلمي، أو المنصب الوظيفي، لكن ما قيمة كلّ ذلك إذا فقد الإنسان أخلاقه. إنّ نبينا الأكرم محمدًا ، ومع كونه خاتم الأنبياء وأعظمهم، إلّا أنّ الله تعالى يخاطبه بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، ذلك أنّ النبوة والرسالة والقرآن وكلّ ما جاء به ، لن يجدي ولن يكون له تأثير في اجتذاب الناس، لولا القيم الأخلاقية العظيمة، والسجايا الفاضلة التي تحلى بها . وهذا ما ينسحب على كلِّ أحدٍ، فأيّما عالم، بالغًا ما بلغ علمه، لن يكون لعلمه قيمة ما لم يمتلك الأخلاق الفاضلة، ويتعامل مع الناس وفق السلوك القويم. والحال نفسه مع من يلعبون أدوارًا عامة، اجتماعية أو سياسية، فقد يذهب بعضهم بعيدًا في المراهنة على دوره ذاك، فيجترئ على الناس، ويسيء لهم، وينتهك حقوقهم، ويخوض في أعراضهم. فما قيمة تلك الأدوار والمناصب إذا لم يصحبها التزام بالقيم الأخلاقية؟ سيّما وأنّ بعضهم لم ينفكوا يطالبون الآخرين أفرادًا وحكومات بأن يكونوا قيميين، وأن يلتزموا القوانين والأنظمة السليمة، فماذا عنك أنت في تعاملك مع عائلتك ومع أبناء مجتمعك؟
نحن أحوج ما نكون للالتزام بالثقافة الأخلاقية، على الصّعيدين الفردي والمجتمعي. تلك الثقافة التي تعطي للقيم مكانتها الواقعية، إنّ العلم والعبادة لا قيمة لهما عند الله سبحانه وتعالى ما لم يصحبهما الخلق القويم. وقد ورد عن رسول الله أنه قال: "إِنَّ الرجلَ لَيُدْرِكُ بحسنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ قائِمِ الليلِ، صائِمِ النَّهارِ"[6] ، وعنه : "إنّ العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل، وإنّه لضعيف العبادة"[7] . لذا ينبغي أن نولي الجانب السلوكي اهتمامًا أكبر، وأن نؤكّد على هذا المنحى في سلوكنا الشخصي، وننشر هذه الثقافة الأخلاقية على الصّعيد المجتمعي العام.