التطوع بالوقت
جاء في دعاء كميل: "أَسْأَلُكَ بِحَقِّكَ وَقُدْسِكَ وَاَعْظَمِ صِفاتِكَ وَاَسْمائِكَ اَنْ تَجْعَلَ اَوْقاتي مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بِذِكْرِكَ مَعْمُورَةً، وَبِخِدْمَتِكَ مَوْصُولَةً، وَاَعْمالى عِنْدَكَ مَقْبُولَةً"[1] .
الوقت هو أعظم ثروة بيد الإنسان، من خلاله يمكن كسب سائر الثروات، وتعويض ما يضيع منها، لكن أيّ شيءٍ آخر لا يسترجع للإنسان ما ضاع من وقته، إنّه الحياة والعمر، وهو رصيد محدود لا يعود ما ذهب منه.
ومن الطبيعي أن يوظّف الإنسان وقته لخدمة مصالحه، وتسيير شؤون حياته، ولتحقيق تطلّعاته ورغباته، لكن عليه أن يخصّص جزءاً من وقته لخدمة الآخرين، ومساعدتهم في قضاء حوائجهم. فكما يطلب من الإنسان أن ينفق من ماله في سبيل الله ولمساعدة الآخرين، فإنه مطلوب منه أن ينفق من وقته كذلك، وحين يقول الله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ فإنّ الوقت هو أعظم رزق يمنحه الله تعالى للإنسان، وعليه أن ينفق منه.
إنّ التطوع بالوقت أصبح مصطلحًا وعنوانًا عالميًّا، لحراك إنساني في مختلف شعوب العالم، فهناك ملايين المتطوعين بجزء من أوقاتهم ضمن مختلف المنظمات الخيرية الإنسانية، إلى جانب من يتطوعون ويتبرّعون بجزء من أموالهم وثرواتهم.
وعلى سبيل المثال، فإنّ منظمة أطباء بلا حدود، التي تأسّست عام 1971م بهدف تقديم المساعدات الطبية على مستوى العالم، ينضمّ إليها كلّ عام أكثر من ثلاثة آلاف شخص مستعدّ للتطوع بجزء من وقته سنويًّا للعمل ضمن برامج المنظمة، من بينهم أطباء وممرضات ومهندسو الصحة والمياه وإداريون، إضافة إلى خمسة عشر ألف شخص يتم تشغيلهم من المناطق التي تعمل فيها المنظمة لتقديم المساعدة الطبية، وتشمل أكثر من 80 دولة في العالم.
ويأتي الشعب الأمريكي في مقدّمة الشعوب الغربية التي يتزايد الإقبال فيها على التطوع بالوقت، لخدمة الحاجات الإنسانية في مجتمعاتهم المحلّية، حيث تشير التقارير إلى أنّ عدد المتطوعين في عام 2009م بلغ 63.4 مليون أمريكي، صرفوا من أوقاتهم في مجال العمل التطوعي 8.100.000.000 ساعة، قدرت قيمتها بمبلغ 169 مليار دولار.
وقد ظهرت في بلادنا مؤخّرًا بعض البرامج التطوعية على هذا الصّعيد، حيث بادر بعض الأطباء لتخصيص أيام أو ساعات محدودة يبذلون فيها العلاج للمرضى، دون مقابل، ضمن إطار جمعيات ومؤسّسات خيرية، كجمعية زمزم في مكة المكرمة، وبرنامج يسر التطوعي، والجمعية السعودية للسرطان، وجمعية الرحمة الطبية الخيرية بالدمام.
وما أحوجنا في محافظة القطيف إلى تفعيل مثل هذه البرامج، فهناك كثافة سكانية، وأمراض منتشرة، ومرضى قد لا تتوفّر لهم إمكانية العلاج، أو لا تتيسّر لهم في الوقت المناسب، وهناك من يحتاج إلى الرأي والمشورة الطبية، وإلى تذليل العقبات أمامهم لتلقي العلاج المطلوب، وهذا ما تساعد البرامج التطوعية على تحقيقه.
إنّ في مجتمعاتنا كفاءات طبية كثيرة، تحتل مواقع جيّدة في مختلف المستشفيات والمؤسسات الصحية على مستوى الوطن، وتقدّم أداءً مشكورًا من خلال عملها الوظيفي، لكنّنا نأمل منها تخصيص جزء من الوقت، لتقديم خدمة تطوعية خارج العمل الوظيفي، وقد سمعت عن بعض المبادرات الفردية على هذا الصّعيد، لكنها محدودة جدًّا، ولو تشكل إطار مؤسّسي لمثل هذا البرنامج، فإنّه سيشجّع هذه المبادرات الخيّرة.
وكما في المجال الطبي يمكن أن يكون ذلك في المجالات الأخرى، كالمجال المعرفي والعلمي مثلًا. ويمكن الاستشهاد بالدور الذي تقوم به الأستاذة الفاضلة غالية المحروس، حيث تقيم دورات مجانية لتعليم اللغة الإنجليزية للنساء...
وقف الوقت:
وإذا كان الإنسان حرًّا مختارًا في التبرع بوقته ساعة يشاء وفي أيّ مجال أراد، ولا أحد يحقّ له أن يجبره أو يلزمه بحدود الوقت الذي يتبرع به، أو تحديد مجال صرف تبرعه بوقته، فهل يمكن إيجاد صيغة شرعية يلزم بها الإنسان نفسه للتبرع بالوقت بشكل دائم، بحيث يخرج ذلك الوقت المتبرع به عن سلطته وتصرفه لصالح الجهة التي حدد لها، بحيث يكون ذلك الوقت محبوسًا وموقوفًا على تلك الجهة، تمامًا كما هو حال وقف الأعيان المالية، التي يحبّس أصلها، وتسبّل منفعتها، ضمن مصطلح الوقف الشرعي بشروطه وضوابطه؟
هذا الموضوع الذي يطلق عليه وقف الوقت موضوع جديد مستحدث، لم يكن مطروحًا على الصّعيد الفقهي سابقًا، لكن تطور مسار العمل التطوعي الخيري أثار هذا الطرح، بحيث يكون ذلك الوقت الموقوف خارج ملك الإنسان الواقف وتصرفه، فلا يعود له حقّ التراجع عن بذله أو التصرف فيه لغير الجهة التي وقف لها.
ويعتبر مفهوم وقف الوقت من المفاهيم الجديدة التي استحدثت في السنوات القليلة الماضية، وكانت الأمانة العامة للأوقاف بدولة الكويت لها قصب السبق في طرح هذا المفهوم، منذ بداية عام 1998م.
ولقد تمت ترجمته عمليًّا حتى بات أحد المشاريع الوقفية التي تتبع إدارة المشاريع بالأمانة العامة للأوقاف بالكويت، وأصبح للمشروع أوقاف خاصة يصرف ريعها على أغراضه.
كما استفادت المغرب من هذه التجربة واعتمدتها، قال الكاتب العام للمجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف بالرباط، عبد الرزاق اصبيحي، وهو يعلن عن إطلاق أول مبادرة لوقف الوقت بالمغرب: "إنّ أيّ شخص له خبرة أو كفاءة في أيّ مجال من المجالات، يمكنه أن يخصّص جزءًا من وقته، ويسخّره لخدمة مؤسّسة خيرية أو غيرها، بحيث يجعل نفسه في ذلك الوقت محبسًا رهن إشارة تلك المؤسّسة، وملتزمًا مع الله ثم مع المؤسّسة بأنْ يقدّم تلك الخدمات".
معتبرًا أنّ وقف الوقت هو شكل مبدع وسهل وراقٍ في تسخير ما حبا الله به الإنسان من خيرات وكفاءات في خدمة المجتمع.
وقد شاركت في الأسبوع المنصرم، في ملتقى الوقف الجعفري بالكويت، الذي خصّص معظم جلساته لبحث موضوع وقف الوقت.
وقد عقد الملتقى بتاريخ 5-7 مارس2017م برعاية أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح لمدة ثلاثة أيام، حضره وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية محمد ناصر الجبري ممثلًا لسمو الأمير وألقى كلمة.
وشارك في الملتقى عدد من العلماء والباحثين من الكويت والقطيف والأحساء ومسقط والعراق ولبنان وإيران والهند وجنوب أفريقيا. وناقش العلماء والباحثون إمكانية وضع صيغة شرعية لوقف الوقت، ذلك أنّ الفقهاء يشترطون في الموقوف أن يكون عينًا خارجية، وأن تكون مملوكة أو بحكمها، وأن يمكن الانتفاع منها مع بقاء عينها؛ لأنّ الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.
فيمكن للإنسان أن يلزم نفسه التبرع بوقته بصيغة النذر أو العهد أو الحلف، أما بصيغة الوقف فهذا ما يحتاج إلى بحث واجتهاد جديد. لذلك خصّصت إدارة الوقف الجعفري بالكويت، التي تأسّست بمرسوم أميري عام 2002م ملتقاها السادس هذا العام لبحثه ودعوة الفقهاء والمجتهدين لإبداء رأيهم حوله.
ضرورة المؤسّسة الوقفية
وبمناسبة الحديث عن هذا الملتقى العلمي الذي أقامته دائرة الوقف الجعفري بالكويت، يهمني التذكير بالمشروع الذي سبق أن طرحته قبل سنوات، حول أهمية الاستفادة من تجارب قيام المؤسّسات الوقفية في المجتمعات الشيعية المجاورة لنا، كالكويت والبحرين ودبي، حيث أصبحت الأوقاف الشيعية في هذه البلدان تحت إشراف مؤسّسة رسمية تختصّ بها، وتقوم بحماية هذه الثروة الوقفية والحفاظ عليها، وتنميتها وتطوير مواردها، وتوظيف إمكاناتها في خدمة الأغراض الوقفية، ضمن أحكام المذهب الجعفري.
أما في منطقتنا فما تزال أوقافنا تحت ولايات فردية، وقد تعرّض قسم من الأوقاف للضياع والتلاعب، وأكثر المتولّين على الأوقاف لا قدرة لهم على تطويرها وتنمية مواردها، واستفادة المجتمع من عطاء هذه الأوقاف محدودة جدًّا قياسًا إلى الحجم الكبير للثروة الوقفية.
وليست هناك جهة متصدّية لإدارة هذه الأوقاف، والإشراف على تحقيق أغراض الواقفين، فالجهة الرسمية المعنية بالأوقاف وهي دائرة الأوقاف والمواريث لا تستطيع بصورتها الحالية القيام بهذا الدور، حيث ترتبط هذه الدائرة بوزارة العدل، وتنشغل بتوثيق ما يرتبط بالأحوال الشخصية من عقود الزواج والطلاق وقضايا الإرث، ولا تمتلك جهازًا إداريًّا لشؤون الأوقاف.
فلا بُدّ من قرار حكومي لتشكيل هيئة لإدارة الأوقاف الشيعية بإشراف ديني شرعي وفق ضوابط المذهب الجعفري، كما هو الحال في دبي والبحرين والكويت.
إدانة العنف مرة أخرى
مرة أخرى، أصبحت منطقتنا مسرحًا لأعمال العنف حيث وقعت عدة حوادث مؤسفة خلال أسبوع واحد، فقد اُستهدف جندي من شرطة تاروت وقتل على يد مجهولين، كما وجدت جثة لمواطن من العوامية ملقاة في مجرى مائي بمنطقة زراعية في بلدة القديح، وفي حيّ الشويكة قتل بالأمس شاب في حادث لم توضح الجهات الأمنية ملابساته بعد، وجرت محاولة لاغتيال شخصية اجتماعية معروفة هو المهندس نبيه البراهيم، حيث أطلقت عليه عدة رصاصات البارحة (ليلة الجمعة) فنقل إلى المستشفى، نسأل الله أن يمنّ عليه بالصحة والعافية، وما يزال وضع الشيخ الجيراني المختطف منذ شهرين مجهولًا إلى الآن، أعاده الله سالمًا لأهله.
كما تكرّر الهجوم على بعض الصّرافات والبنوك، إنّه لواقع مؤلم محزن أن تحصل هذه الحوادث في مجتمعنا المسالم، ومنطقتنا الآمنة.
إنّنا نطالب الدولة أن تضع حدًّا لهذا الانفلات الأمني، ويجب أن نتحمّل مسؤوليتنا الاجتماعية في محاصرة توجّهات العنف، والتعاون مع أجهزة الدولة في تعزيز الأمن والاستقرار.