المعرفة الدينية بين التفكير والتسليم
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾[سورة الإسراء، الآية: 36]
في الماضي كان الاهتمام بالمعرفة بين الناس محدودًا، فمعظمهم منشغل بتحصيل لقمة العيش، وتسيير أمور حياته، ولا يجد فراغًا للاهتمام بالثقافة والمعرفة، وأكثرهم أميّون لا يعرفون القراءة والكتابة، كما لم تكن وسائل المعرفة متوفرة ومتاحة لعامة الناس، فكانت الأفكار تتداول في نطاق ضيّق، وعلى مستوى محدود ضمن إطار نخبوي، أما سائر فئات المجتمع فإنّ اهتماماتهم الفكرية لا تتجاوز ما يتوارثونه ويتلقّونه من عوائلهم من معتقدات وأفكار دينية سائدة.
أما في هذا العصر فإنّ الواقع الاجتماعي قد تغيّر تغيرًا كثيرًا، حيث انتشر التعليم، وتقلّصت الأميّة إلى أدنى الحدود، وتوفّرت وسائل المعرفة، وانفتحت المجتمعات البشرية على بعضها بعضًا، وأصبح للعمل والكسب قوانين وأنظمة تتيح للأفراد فرص فراغ يملؤونها باهتماماتهم المختلفة.
كما تعزّزت ثقة الفرد بنفسه، فأصبح يتساءل وينتقد ويعترض، ويقارن بين الآراء والأفكار، وانتعشت سوق الترويج لمختلف الآراء والتوجّهات الفكرية على مختلف الصُّعد، واشتدّ التنافس بينها لكسب العقول والأذهان، والتأثير على توجّهات المجتمعات.
بسبب هذا الواقع الجديد وجد كثير من المتديّنين أنفسهم أمام معتركات صراعات فكرية وخلافات ثقافية، وحالات من التساؤلات والاشكالات التي تطال كثيرًا من المسلّمات الدينية السائدة، والأفكار الموروثة والمتداولة.
فهناك صراع بين الدين واللادين، وصراع بين هذا الدين وذاك الدين، وصراع داخل الدين بين مذاهبه المختلفة، وداخل المذهب بين مدارسه المتعدّدة، وداخل المدرسة بين توجّهاتها المتنافسة.
صحيح أنّ مثل هذه المعارك والصّراعات الفكرية كانت قائمة في الماضي، لكنها كانت ضمن نطاقات محدودة، لا شأن لمعظم الناس بها، وقد ينخرطون في معاركها كوقود وأتباع، دون أن يجدوا أنفسهم معنيين بدراسة الأفكار أو الاجتهاد في اختيار الآراء والتوجّهات.
ويعيش كثير من الناس حالة من الإرباك والاضطراب تجاه الخلافات والصّراعات الفكرية، وتصيبهم الحيرة التردّد في اتخاذ المواقف من تصارع الآراء والتوجّهات.
القلق على الدين:
وبعض المتديّنين يعيشون حالة القلق على الدين، وأنّ ما يثار حول الدين من شبهات وإشكالات، وما يدور داخله من اختلافات وصراعات، قد تهدّد الدين بالانهيار والانحسار والتراجع في الواقع الاجتماعي، وأنّها بداية النهاية للدين والمذهب، وربما عدّ ذلك بعضهم من علامات آخر الزمان حيث ينتشر الظلم والفساد.
ونرى أنّ ذلك إفراط في القلق، ومبالغة في التحليل والتقدير، فالدّين أقوى وأمنع من أن تنسفه أو تضعفه الإشكالات والتحدّيات، بل قد تكون باعثًا لنهوضه وتعزيز حضوره، وقد رأينا كيف استعاد الدين قوّته ونفوذه بعد أن بشّرت الاتجاهات المادية والإلحادية بموته وانتهائه.
إنّ هذه التحدّيات قد تدفع الوسط الديني لمزيد من القراءة والتأمّل في مبادئ الدين ونصوصه، ولتجديد النظر في المسائل والآراء الدينية، التي هي نتاج لفهوم واجتهادات قد تحتاج إلى التطوير والتغيير.
لكن بعض المتديّنين يتصوّرون أنّ ما يؤمنون به من أفكار، وما يعرفونه من أحكام، وما يمارسونه من طقوس وشعائر، هي حقائق دينية صلبة لا تقبل المسّ والتغيير، ولا يصح الاعتراض على شيءٍ منها.
وهذا نابع من سطحية التفكير وروح التعصّب، بينما يؤكّد العلماء أهميّة استمرارية نهج الاجتهاد في الدين، وإمكانية البحث والنظر في مختلف قضاياه ومسائله العقدية والفقهية.
ويشير الشهيد السيد محمد باقر الصدر إلى "أنّ القليل من أحكام الشريعة الإسلامية هو الذي يحتفظ بوضوحه وضرورته وصفته القطعية ... وقد لا تتجاوز الفئة التي تتمتع بصفة قطعية من أحكام الشريعة الخمسة في المئة من مجموع الأحكام"[1] . ومعنى ذلك أنّ خمسة وتسعين في المئة من الأحكام قابلة للاجتهاد والنقاش.
وذكر مثل ذلك المرجع الشيخ الفياض بأنّ "الذي يتمتع بطابع ضروري لا تتجاوز نسبته إلى مجموع الأحكام الشرعية عن ستة في المئة"[2] .
أولويات الاهتمام الفكري:
قد يجد الإنسان أمامه عددًا كبيرًا من قضايا الاختلاف الفكري مطروحًا للجدل والنقاش، لكن عليه ألّا يشغل ذهنه وفكره بكلّ قضية مطروحة، خاصة وأنّ كلّ طرف أو جهة تعمل لتسويق آرائها، وإبرازها وكأنّها على أعلى درجة من الأهمية.
فمثلًا هناك بعض الجهات الدينية، تبالغ في الاهتمام ببعض تفاصيل القضايا العقدية أو الفقهية أو التاريخية، وتجعل الالتزام بها وكأنّه الحدّ الفاصل بين الإيمان والكفر، وتشنّ حربًا ضارية وهجومًا كاسحًا على من يخالفها في الرأي حول تلك الأمور الجزئية، فتربك الساحة الدينية، وتمزّق صفوف المجتمع على أساس ذلك الاختلاف. هنا على الإنسان المتديّن ألّا يُستدرج لهذه المعارك المفتعلة، فينشغل بها، ويتأزّم نفسيًّا، ويتشنج اجتماعيًّا، فليس واجبًا على الإنسان معرفة كلّ تلك التفاصيل، ولا مطالبًا بها أمام الله، نعم لو انكشف له رأي ديني ثابت تقوم عليه الحجة والدليل، فإنه لا يصح له تكذيبه.
لكنه ليس ملزمًا بالبحث والمعرفة إلّا عن أصول الإيمان، دون التفاصيل والجزئيات المرتبطة بها.
منهجية البحث والتفكير
وإذا ما أراد الإنسان الاهتمام بأيّ فكرة أو قضية، لأولويتها عنده، أو لرغبته في الإلمام بها، وتكوين رأي تجاهها، فإنّ عليه أن يتسلّح بالمنهجية السليمة في البحث، ويمارس التفكير الحرّ، ويسعى أوّلًا للقراءة والاطّلاع على جوانب القضية من المصادر المعتمدة، حيث تتوفر الآن سبل الوصول إليها أمام كلّ باحث، فالكتب موجودة، والشبكة العنكبوتية متاحة، والتواصل مع العلماء والباحثين ميسّر، وما على الإنسان إلّا الاجتهاد في البحث وبذل الجهد لتحصيل المعرفة.
إنّ بعض الناس يكتفي بالمعلومات السّطحية السّائدة، وما يسمعه من خطيب هنا أو فضائية هناك، ويتأثر بأجواء الخلاف والصراع، فيتعجّل في تكوين رأي غير ناضج، أو يحشر نفسه في موضوع لم يبذل الجهد الكافي لبحثه.
وقد يقع الإنسان حينئذٍ تحت تأثير الانفعالات النفسية، والصراعات القائمة، فيتّخذ موقفًا فكريًّا كردّ فعل من جهة أخرى، أو من وحي الشعور بالإحباط وعدم الرضا عن المجتمع.
والمؤسف أنّ البعض ممن يتّبعون مواقف فكرية بحماس بالغ، حول بعض القضايا المختلف فيها، لم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث وتشغيل عقولهم، بل رضوا لأنفسهم أن يكونوا إمّعات وأبواقًا لآخرين يفكرون بديلًا عنهم.
الثقة بالعقل:
ربما يعزف البعض عن البحث والتفكير في القضايا المثارة أمامه؛ لأنّه يشك في أهليته وقدرته، فلا يرى نفسه جديرًا بالنظر والدراسة، ولا يثق في إمكانية اعتماده على عقله، وهناك في الوسط الديني ثقافة تدعو إلى تجاهل العقل في الشأن الديني، تحت شعار أنّ دين الله لا يدرك بالعقول، وهي كلمة وردت في ردع من يريدون استخدام القياسات العقلية في المسائل الفقهية المنصوصة، مثل لماذا تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة، مع أنّ الصلاة أهمّ من الصوم؟ ولماذا صلاة الصبح ركعتان والظهر أربع، مع أنّ وقت الصبح أدعى للنشاط من وقت الظهر؟
لمثل هذه التساؤلات جاءت هذه المقولة، لا أنّها قاعدة ومبدأ في العلاقة بين الدين والعقل، أنّ أصول دين الله تدرك بالعقول، كالتوحيد والنبوة والمعاد، كما أنّ القرآن طالب بالرجوع إلى العقل في المسألة الدينية، حيث تكرر آياته: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾، ﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾، ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾.
كما تؤكّد أحاديث كثيرة أهميّة دور العقل في فهم الدين وإدراكه، كقوله: (أساس ديني العقل)...
إنّ بعض الأطراف الدينية التي تحظر على الناس التفكير والتساؤل في أمور الدين، وتربّيهم على تجميد عقولهم، إنّما تنطلق من خطأ في الفهم، أو سوء في القصد، لكي تسيّر الأتباع كما ترغب وتشاء.
ونقول بكلّ ثقة أنّ بإمكان كلّ فرد مهما كان مستواه أن يقرأ ويفكر ويبحث ويتساءل عن القضايا الفكرية الدينية، ويأخذ بالرأي الذي يطمئنّ إليه، ولا إثم عليه، وإن كان الرأي الذي اطمأنّ اليه خطأ، ما دام قد سلك المنهج الصحيح في التفكير والبحث.
ويستثنى من ذلك المسائل الشرعية العملية، التي تتطلب قدرة اجتهادية لاستنباطها، لا تتوفر لمن لم يصل مرتبة الاجتهاد في دراسته العلمية، فهنا يكون تكليفه الأخذ برأي الفقهاء المجتهدين.
لذلك فإنّ الفقهاء في رسائلهم العملية يحصرون التقليد في هذه المسائل الفرعية الفقهية، أمّا المسائل العقدية والفكرية والتاريخية وفي المجالات المختلفة من النظريات والعلوم، فلست ملزمًا برأي حتى أعلم الفقهاء فيها، ما لم تكن مطمئنًا بذلك الرأي.
فإذا لم يتوفر العلم بفكرة ولم تكن مقتنعًا بها، فلست ملزمًا بالإيمان بها، بل عليك ألّا تؤمن بها، يقول تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾.
ولا داعي للتخويف والتخوف، فإنّ الله لا يؤاخذ الإنسان بشيء لم تثبت عليه الحجة فيه، يقول تعالى: ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾[سورة الانفال، الآية:42]، ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾[سورة الإسراء الآية:15].
وننبه هنا إلى ضرورة الحذر من بعض الأساليب التي يمارسها الجهلاء السّذج والمغرضون، من نشر بعض الادّعاءات على أساس أنّها مستحبات، أو أحلام وأطياف، ومطالبة الناس بالعمل بها ونشرها، وإلّا فستصيبهم نقم وابتلاءات!!
إنّها خزعبلات وأضاليل ينبغي فضحها وكشفها.
التسرّع في الإنكار:
وإذا كان الإنسان غير ملزم بالإيمان بما لم يقتنع بصحته من ما يطرح من أفكار دينية، وهو ليس مأثومًا في ذلك، لكن عليه ألّا يتسرّع في الإنكار والرفض قبل الدراسة والبحث والموضوعي، فعدم الاقتناع شيء والإنكار شيء آخر، والموقف الصحيح هو التوقف، فلعلّ هناك مبررات للفكرة لم يطّلع عليها، أو لأنّها لم تعرض بالشكل السليم، وهناك أسباب كثيرة تحول بين الإنسان وبين إدراك كثير من الحقائق، ونستخلص من ذلك ما يلي:
- دراسة أيّ فكرة قبل اتّخاذ موقف تجاهها.
- الفكرة التي لها أدلة يقتنع ويطمئنّ بها الإنسان يؤمن بها.
- الفكرة التي يتضح بطلانها يرفضها.
- الفكرة التي لم تتأكّد صحتها ولا بطلانها عليك التوقف فيها وعدم التسرّع في الرفض والإنكار. ولا عليك ممن يطالبك بالإيمان بها، أو يدفعك للكفر بها، فأنت مسؤول عمّا تتبنّى من آراء وأفكار، وتذكر قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.
وتأكيدًا على هذه المنهجية الموضوعية وردت عدة روايات وأخبار كما روي عن عليّ أنّه قال: (إذا سمعتم من حديثنا ما لا تعرفون فردّوه إلينا وقفوا عنده، وسلّموا حتى يتبيّن لكم الحقّ، ولا تكونوا مذاييع عجلي) [3] .
فالإمام حسب هذه الرواية، لا يطلب من المؤمنين أن يقبلوا ما يصلهم من حديث ديني، لا يقتنعون به (ما لا تعرفون)، ولا يرضى منهم أن يتعجّلوا بإعلان موقف مؤيّد أو رافض ينشرونه بين الناس قبل التأكّد من الموضوع، حيث يقول: (ولا تكونوا مذاييع عجلى) والمذاييع جمع مذياع من أذاع الشيء وأفشاه.
وإنّما المطلوب التوقف حتى تتبيّن حقيقة الموضوع صوابًا أو خطأً.
ورد عن الإمام الباقر أنّه قال: (لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا لم يجحدوا ولم يكفروا) [4] .
وعن الإمام جعفر الصادق أنّه قال: (لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلّا الكفّ عنه، والتثبت والردّ إلى أئمة الهدى، حتى يحملوكم فيه على القصد، ويجلوا عنكم فيه العمى، ويعرفوكم فيه الحقّ، قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[5] .
خطابات دينية مربكة:
تعاني السّاحة الدينية في مجتمعاتنا من وجود خطابات دينية تسبب الإرباك والاضطراب، تصدر من جهات لا تعتمد التحقيق والبحث، أو تخدم أجندة خاصة، فتختار من التراث ما يدغدغ العواطف والمشاعر، بأسلوب المبالغة والتضخيم والغلو، وبإثارة الكراهية والعدوانية ضدّ الآخر، وينتج عن هذه الخطابات، كثير من التشنّجات والإرباكات الفكرية في الساحة، مما دفع المرجعية الدينية إلى التحفّظ والتحذير من هذا الأسلوب، ويظهر ذلك من التوجيهات التي أصدرتها إحدى المؤسّسات التابعة للمرجعية العليا (سماحة السيد السيستاني) للخطباء والمبلغين بمناسبة حلول موسم المحرم 1438هـ، ومما جاء فيها:
- تحرّي الدّقة في ذكر الآيات القرآنية، أو نقل الروايات الشريفة من الكتب المعتبرة، أو حكاية القصص التاريخية الثابتة، حيث إنّ عدم التدقيق في مصادر الروايات، أو القصص المطروحة، يفقد الثقة بمكانة المنبر الحسيني في أذهان المستمعين.
- أن يترفّع المنبر عن الاستعانة بالأحلام، وبالقصص الخيالية، التي تسيء إلى سمعة المنبر الحسيني، وتظهره أنّه وسيلة إعلامية هزيلة، لا تنسجم ولا تتناسب مع المستوى الذهني والثقافي للمستمعين[6] .
والرهان الحقيقي هو على وعي الناس، وأن يتحمّل الواعون مسؤوليتهم في ترشيد الساحة الفكرية الثقافية، للارتقاء بالخطاب الديني إلى المستوى المطلوب.