شهيد العمل الإنساني
جاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي : (مِنْ كَفَّارَاتِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ، وَالتَّنْفِيسُ عَنِ الْمَكْرُوبِ) [1]
تمرّ بمختلف المجتمعات البشرية حالات من الكوارث والأزمات، إمّا بسبب من الطبيعة كالزلازل والفيضانات وانتشار الأوبئة والأمراض، أو بسبب الحروب والصراعات والفتن والاضطرابات الاجتماعية.
ولأنّ هذه الكوارث تنتج عددًا كبيرًا من الضحايا والخسائر والإصابات فإنّها تستدعي جهدًا استثنائيًّا كبيرًا لمواجهة أضرارها وتداعياتها على المجتمع الذي تحلّ به.
وانطلاقًا من الوجدان والفطرة الإنسانية، وبحثٍّ وتشجيع من الديانات والقيم الأخلاقية، عادة ما تستجيب المجتمعات لهذا التحدّي الإنساني، فمن قديم الزمان كان الناس يبادرون إلى التعاون فيما بينهم وقت الشدائد والأزمات، لكن المجتمعات تتفاوت في نسبة الاستجابة ومستوى التفاعل، وفي توفير الاستعدادات لمثل هذه الحالات الطارئة.
- تطور في جهود الإغاثة:
وفي عصرنا الحاضر قطعت البشرية شوطًا متقدّمًا لتحفيز المجتمعات والحكومات على مواجهة حالات الكوارث الطبيعية وتداعيات الحروب والصراعات المنتشرة.
فتكونت مؤسسات ومنظمات دولية رسمية وأهلية، كمنظمة الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، ومنظمة العمل لمكافحة الجوع، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وكالصليب والهلال الأحمر، وأطباء بلا حدود، ومنظمة الإغاثة الدولية، ومنظمة الإغاثة الإسلامية، ومنظمة الإنقاذ الدولية.
وشرعت قوانين وأنظمة، أصدرتها الأمم المتحدة أو وقعت عليها الدول كاتفاقيات ملزمة كاتفاقية اتفاقية جنيف وهي عبارة عن أربع اتفاقيات دولية تمت صياغة الأولى منها في 1864 وأخيرتها في 1949 تتناول حماية حقوق الإنسان الأساسية في حالة الحرب، أي طريقة الاعتناء بالجرحى والمرضى وأسرى الحرب، وحماية المدنيين الموجودين في ساحة المعركة أو في أيّ منطقة محتلة. وفي عام 2005م انضم إلى اتفاقية جنيف 190 دولة، أي عموم دول العالم تقريبًا، مما يجعلها أوسع الاتفاقيات الدولية قبولًا، وهي جزء أساس مما يسمى بالقانون الدولي الإنساني، وبذلك تراكمت تجارب وخبرات في المجتمع الدولي لإغاثة المجتمعات التي تتعرض للكوارث والحروب والاضطرابات.
وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أنه في عام 2016، بات أكثر من 130 مليونًا من النساء والرجال والأطفال في جميع أنحاء العالم بحاجة إلى المساعدة الإنسانية، فلم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية أن أجبر عدد كبير جدًّا من الناس على ترك بيوتهم، أكثر من 60 مليون شخص نصفهم من الأطفال، وأنه بمعدّل كلّ 3 دقائق يجبر 88 شخصًا على الفرار من منازلهم في مناطق الصّراعات. وهناك نحو 450 ألف عامل إغاثة في جمع أنحاء العالم عام 2015م.
- الإغاثة تحدّيات وأخطار:
ويواجه العاملون للإغاثة الإنسانية في مناطق الكوارث والأمراض والحروب أخطارًا على وجودهم وحياتهم، لكن دوافعهم الإنسانية النبيلة تجعلهم على استعداد لتقبّلها وتحمّلها.
وكشاهد على ما يتحمّله العاملون في مجال الإغاثة الإنسانية في عام 2014، سجلت منظمة الصحة العالمية 372 هجمة فى 32 بلدًا ضد القوى العاملة الصحية، مما أسفر عن وفاة 603 حالات وإصابة 958، وفي عام 2015، قتل المئات من العاملين في المجال الصحي في مناطق الصراع، ومناطق تفشّي الأمراض، وفى غرب أفريقيا، أصيب 875 من العاملين في مجال الصحة بالإيبولا، توفى 509 منهم. كما تعرض عددٌ من العاملين في الإغاثة الإنسانية للخطف والتنكيل في مناطق مختلفة تدور فيها حروب وصراعات.
وقد أشارت وسائل الإعلام إلى تعرّض فريق من الدفاع المدني (أصحاب القبعات البيضاء) في سوريا، فجر يوم السبت 12 أغسطس/آب 2017، إلى هجوم من مجموعة مسلحة أطلقت عليهم النار. وذكر الموقع الإلكتروني لـ ”الدفاع المدني”، أنّ 7 متطوعين من عناصره في مدينة سرمين بريف إدلب شمال سوريا قتلوا، إضافة إلى سرقة سيارتين تابعتين للدفاع المدني وخوذ بيضاء.
من هنا فإنهم جديرون بكلّ التقدير والإجلال والاحترام لتضحياتهم، ولهم من الله تعالى عظيم الأجر والثواب. لذا وروي عن رسول الله : "من أغاث ملهوفًا كتب الله له ثلاثًا وسبعين حسنة، واحدة منها تُصلِح آخرته ودنياه، والباقي في الدرجات"[2]، وقال : إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ إغاثة اللهفان[3].
وجاء عن عليّ : (مِنْ كَفَّارَاتِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ، وَالتَّنْفِيسُ عَنِ الْمَكْرُوبِ)[4].
- اليوم العالمي للعمل الإنساني:
وتكريمًا لهذه الجهود، ولإلفات النظر لأهميتها، وتشجيعًا لهذه المبادرات الإنسانية يُحتفل باليوم العالمي للعمل الإنساني سنويًّا في 19 أغسطس للإشادة بعمال الإغاثة، الذين يجازفون بأنفسهم في مجال الخدمات الإنسانية، كما يراد من هذا اليوم حشد الدعم للمتضررين من الأزمات في جميع أنحاء العالم.
وفي 19 أغسطس من عام 2008م أقرّت الجمعية العامة في الأمم المتحدة هذا اليوم باعتباره اليوم العالمي للعمل الإنساني لزيادة الوعي بالأنشطة والمساعدات الإنسانين، وأهمية التعاون الدولي وتكريم العاملين في هذا المجال.
- في العوامية معاناة وتضحيات:
وفي الأيام الماضية عاش أهلنا الكرام في العوامية محنة ومعاناة شديدة أثارت الألم والمرارة في نفوس كلّ أبناء المنطقة بل كلّ أبناء الوطن، حيث سُفكت دماء وأُزهقت أرواح، وأُتلفت ممتلكات، واضطرت مئات العوائل للنزوح عن منازلها وديارها، وعاش الناس في العوامية أيامًا بل أسابيع وشهورًا من الرعب والقلق والمعاناة.
وقد أصدر علماء المنطقة عدة بيانات واضحة، قبل الأحداث وأثناءها تحذّر من آثار العنف وتوجّهات الإرهاب وإشهار السلاح في وجه الدولة والمجتمع، وأنّ ذلك ليس طريقًا مشروعًا ولا مناسبًا ولن يحقق مطلبًا ولن يعالج مشكلة، بل يزيد الأمور تعقيدًا، ومنها البيان الصادر بتاريخ في 17/5/1432هـ، والبيان الصادر بتاريخ 08 جمادى الأولى 1435هـ، والبيان الصادر بتاريخ 14/11/1437هـ والبيان الصادر يوم الاثنين 26 شعبان 1438هـ.
كما أصدر أهالي العوامية الكرام ممثلين بشخصياتهم ومشايخهم بيانًا بنفس المضمون والمفاد، صدر بتاريخ 01/09/1438هـ موقع من 817 شخصية دينية واجتماعية، والبيان الصادر بتاريخ 24 ذي القعدة 1438هـ وقد وقع عليه 46 من شخصيات العوامية الدينية والاجتماعية.
ولكن حدث ما حدث ووقع ما لم يكن يتمنّى أيّ غيور وقوع شيءٍ منه في مجتمعنا ومنطقتنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم.
- جهود إنسانية كبيرة:
ولأنّ العالم سيحتفل غدًا باليوم العالمي للعمل الإنساني ولتقدير العاملين في هذا المجال رأيت من الواجب الإشادة بالجهود الإنسانية الكبيرة التي بذلها إخوتنا الأعزّاء في العوامية للتخفيف من معاناة أهاليهم ومجتمعهم، حيث تكوّنت منذ شهور لجنة تحت عنوان (تواصل) التحق بها عشرات من شخصيات المجتمع والناشطين في العوامية من أعضاء الجمعية الخيرية ونادي السّلام الرياضي، وسائر أفراد المجتمع، وتفرّعت من هذه اللجنة لجنة للتواصل والتعاون مع الجهات الرسمية، لتسهيل خروج العوائل من مناطق الخطر، ومعالجة المشاكل ومساعدة المحتاجين، وتشكل من اللجنة وفدٌ للقاء أمير المنطقة الشرقية، حيث استقبلهم بترحيب كبير وحثّهم على تفعيل دورهم الاجتماعي[5] وتفرعت لجنة للإعاشة وتوفير المواد الغذائية للعوائل هناك، ولجنة للطوارئ، ولجنة للصحة ولجنة لإيواء وإسكان الأسر والعوائل النازحة، حيث تم توفير السكن لمئات العوائل خارج العوامية عبر محافظة القطيف وبتعاون الخيرين في المناطق المختلفة.
وقد تحمّل هؤلاء الإخوة عبئًا كبيرًا، وكما هي العادة لم يسلموا من توجيه الإساءات والاتّهامات لهم، كما تعرضوا للأخطار المختلفة وكان من الرموز الشّاخصة لهذا الجهد الإنساني (الشهيد محمد ارحيمان (أبو عادل) رحمه الله الذي استشهد[6] وهو في الباص خلال عملية تنظيم إخراج المرضى وكبار السنّ من العوامية بعد التنسيق مع قيادة العمليات العسكرية.
- الشهيد ارحيمان رجل الميدان:
هذا الشهيد الذي تطوع للعمل مع كثير من اللجان فهو عضو في لجنة غذاء ولجنة إيواء، ولجنة الطوارئ، وكذلك في اللجنة الرئيسة لأهل العوامية.
تجده أحيانا يوصل مواد غذائية لعوائل داخل وخارج العوامية وبعدها ينتقل لتنظيم ومتابعة تسكين عائلة نازحة ويتبعها بإيصال دواء أو غيره من الاحتياجات لمواطنين محاصرين..
يستغرب الإنسان كيف لرجل في عمره يمتلك كلّ هذا النشاط وينفذ نشاطات متعددة في أكثر من مكانٍ ولا يسأم ولا يتضجّر بل يشعر دومًا بأنه مقصّر ومع ذلك أيضًا يعتذر عن التقصير[7].
وكما أخبرني بعض زملائه أنّهم وجدوا في جيبه بعد شهادته ظرفين فيهما مبالغ مالية كتب عليهما اسم اللجان المخصص لها المال، وكان قد كتب رسالة بالواتس آب لولده عن المبالغ التي عنده وأنها ليست له وتسلّم إلى اللجان لو حدث له حادث، وحينما رأى قلق أهله على سلامته كتب لهم: لماذا تستكثرون عليَّ أن أكون شهيدًا.
وقد جرح معه في نفس الحادثة زميله ورفيقه في هذا الجهد الإنساني (الحاج عبد الستار الشيخ) ولا يزال يرقد في المستشفى لتلقي العلاج، منّ الله عليه بالصحة والعافية وأثابه على جهوده العظيمة.
إنّ على أبناء المنطقة أن يتداعوا لتكريم هذا الشهيد شهيد العمل الإنساني، كما جرى تكريم شهيد القرآن الأستاذ أمين آل هاني الذي أقيمت له مهرجانات تأبين في مختلف أنحاء المنطقة، وهو يستحقّ ذلك وأكثر، وكذلك الشهيد (أبو عادل) ليكون رمز العمل الإنساني في المنطقة.
نسأل الله له الرحمة والرضوان، وأن يخلف على أهله ومجتمعه بالخلف الصالح.
ونسأل الله أن يتغمّد أرواح جميع الشّهداء بالرحمة والرضوان، وأن يشفي جميع الجرحى والمرضى، وأن يعيد النّازحين من أهالي العوامية في القريب العاجل إلى ديارهم ومنازلهم بعد استتباب الأمن وتوفير الخدمات، وتعويضهم عن التلفيات التي حصلت في منازلهم وممتلكاتهم، مع الشّكر لكلّ الجهود المبذولة من الجهات الرسمية والأهلية.
ونرجو أن يدفع الله عن بلادنا ووطننا شرّ الأشرار وكيد الأعداء الطامعين.