الواقعية في تطبيق القيم والمبادئ
عن الحسن بن موسى قال: روى أصحابنا عن الرضا E: أنه قال له رجل: أصلحك الله، كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ وكأنه أنكر ذلك عليه؟ فقال له أبو الحسن الرضا E: يا هذا، أيهما أفضل النبيA أو الوصي؟ فقال: لا، بل النبي، قال: فأيّهما أفضل مسلم أو مشرك؟ قال: لا، بل مسلم، قال: فإنّ العزيز عزيز مصر كان مشركًا وكان يوسف E نبيًّا وأنّ المأمون مسلم وأنا وصي، ويوسف سأل العزيز أن يوليه حين قال (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) وأنا أجبرت على ذلك[1].
وعن محمد بن عرفة قلت للرضا E: يا ابن رسول الله، ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟ فقال: ما حمل جدّي أمير المؤمنين على الدخول في الشورى؟.[2]
ثمة تساؤلات جوهرية تثار حول منهجية أئمة أهل البيتB السياسية حيال التعاطي مع الواقع السياسي المعاصر لكلٍّ منهم. ومن ذلك مثلًا ما يثار عند تناول حياة الإمام علي بن موسى الرضا E فيما يتعلق بقبوله تولي منصب ولاية العهد للخليفة العباسي المأمون. وتزداد حدة التساؤلات في ظلّ الاعتقاد بأنّ المأمون لم يكن يمثل السّلطة الشرعية بوجود الإمام E. فكيف قبل الإمام أن يشترك معه في الحكم، وأن يكون ولي عهد له. وعلى غرار ذلك، يجري نقاش مشابه عند الحديث عن حياة الإمام الحسن بن علي E، وقبوله عقد الصلح والتنازل عن الحكم لصالح الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، الذي لم يكن يمثل سلطة شرعية وقد استخدم القوة لتحقيق مآربه السياسية والاستيلاء على الحكم.
وفي هذا المقام يجتهد الباحثون والعلماء والخطباء في تقديم الإجابات وسرد التبريرات، في سبيل إقناع جمهور المؤمنين بسلامة تصرف الأئمة، وتتراوح التبريرات بين اعتبار تصرف الإمام نابعًا عن أمر إلهي، وبموجب ذلك ليس على الإمام سوى التقيّد بما أمره الله به، دونما اعتبار إلى مدى فهم الجمهور للحكمة من وراء ذلك أو عدمه. كما قد يأتي تبرير موقف الإمام، سواء الحسن أو الرضا، باعتبارات الاضطرار وأنّ كلًّا منهما كان مجبرًا على اتخاذ موقفه ذاك وإلّا تعرض للقتل. ولكن هذا التبرير غير كافٍ لحلّ الإشكال القائم؛ لأنّ القتل لم يكن بالأمر المخيف لمن هو في مقامهما، فلم يكن أيٌّ منهما يهرب من الشّهادة.
وحقيقة الأمر، يكمن منشأ التساؤلات آنفة الذكر عن موقف الإمامين الحسن والرضا (عليهما السلام) في وجود قناعة مسبقة بشأن القيم والمبادئ التي ينبغي أن تحكم المجال السياسي العام. وأنّ أيّ واقع سياسي يخالف تلك القيم والمبادئ التي نؤمن بها لا يصح لنا أن نتعامل معه، وإذا ما تعامل أحد مع واقع سياسي من هذا القبيل، فلا بُدّ وأن تبرز بوجهه علامات الاستفهام وتثار بشأنه التساؤلات. من هنا تبرز الحاجة لتقديم الإجابة عن هذه التساؤلات ومعالجة هذه الإشكالية.
التصلب في الموقف السياسي
في هذا المقام ينبغي أن نتساءل أولًا، حول ما إذا كان مطلوبًا التقيد والالتزام التام، في كلّ الأحوال وفي جميع الظروف، بجميع القيم والمبادئ والتشريعات التي نؤمن بها، بصرف النظر عن الواقع القائم. أم أنّ هناك مرونة دينية حيال التعاطي مع الواقع القائم. واستجابة لهذا التساؤل، تتراوح المواقف العامة في وسط المؤمنين إزاء هذه الإشكالية، فهناك من يكون لهم مسلك متصلب إزاء أيّ واقع سياسي ليس منسجمًا مع المبادئ والقيم التي يؤمنون بها، وبذلك لا مجال للتعامل معه، وليس هناك من خيار- وفق هذا المنطق- إلّا الاصطدام مع ذلك الواقع السياسي والثورة عليه والاحتراب معه، بصرف النظر عن تبعات هذا الخيار من القتل والسجن وشتّى الكوارث المتوقعة. أما الخيار الآخر المطروح فهو خيار الاعتزال، فلا يذهب أصحاب هذا الخيار للصدام مع الواقع السياسي، كما لا يسعون للتعامل معه، ويتلخص هذا الخيار في التزام حالة العزلة والانكفاء على الذات، والقبول بحالة التهميش إلى أن تتغير الأوضاع. هذان المسلكان هما السّائدان في الواقع الاجتماعي عند المسلمين في العصور المتأخرة خاصة.
منهج الواقعية السياسية
غير أنّ هناك مسلكًا آخر في مقابل هذين المسلكين، لكنه منهج مغيّب وجرى التعتيم عليه طويلًا، ألا وهو منهج الواقعية السياسية. ويكمن جوهر هذا المنهج الواقعي في إثبات الوجود، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإصلاح ما يمكن إصلاحه، وبناء القوة، وتنمية الحضور في واقع الأمة، والسعي باتجاه تغيير الواقع الفاسد قدر الإمكان، دون الذهاب إلى الصّدام بأيِّ ثمنٍ ولو أدّى للإبادة والفناء كما في الخيار الأول، ولا القبول بالتهميش والعزلة كما الخيار الثاني. إنّ منهج أئمة أهل البيتB غني بالواقعية السياسية، لكن هذا المنهج مغيّب ومعتم عليه، وغير مطروح للتداول ولم يجر التنظير له، كما لم يتحول إلى رؤية ونظرية ومنهج.
إنّ من المهم أن نعالج فهمنا للدين. إذ من الصحيح أنّ الدين جاء بغرض أن يأخذ مداه على أرض الواقع، لكن هناك مراتب لهذا التطبيق، فتارة يمكن تطبيق قيم الدين في مرتبتها العليا، كما في قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، وتارة أخرى ليس من المتيسر تطبيق هذه القيم في مرتبتها العليا، فيجري تطبيق ما هو أدنى من ذلك حسب الإمكان، كما في قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّـهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾، وهذا المعيار يكاد ينطبق على كلّ حالة دينية.
إنّ الفهم المتصلب للدين هو الذي قاد الحالة الدينية إلى التطرف والتشدّد، والعزلة والتهميش، وذلك ما لم يكن في مصلحة الإسلام ولا مصلحة الأمة. ذلك أنّ الدين يؤكّد على التزام الواقعية؛ لجهة عدم اعتبار تطبيق القيم الدينية أمرًا مثاليًا، بمعزل عن الواقع وعدم الأخذ به بعين الاعتبار، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وعلى غرار ذلك يمكن القول إنّ الله لا يكلف أمة إلّا وسعها، ولا مجتمعًا فوق طاقته، إنّ المجتمعات مطالبة في التزامها بالقيم بأن تحسب حسابًا لمصالحها وحفظ ورعاية وجودها. وقد جاء في الآية الكريمة: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾، إنه لا تكليف بما لا يطاق، وفي ذات السّياق جاء في آية أخرى قوله تعالى: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّـهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾. وورد عن الإمام جعفر الصادق E عن رسول الله A أنه قال: "رفع عن أمتي أربع خصال: خطؤها ونسيانها وما أُكرهوا عليه وما لم يطيقوا"[3]. وبذلك يغدوا تطبيق القيم والمبادئ أمرًا بعيدًا عن المثالية والصّرامة.
تنوع الحكم الشرعي
واستطرادًا، يقسّم الفقهاء الحكم الشّرعي إلى عدة تقسيمات تختلف ظروف تطبيق أحدها عن الآخر. فهناك ما يعتبر حكمًا أوليًّا، وآخر حكمًا ثانويًّا، وثالث حكمًا ولائيًّا. ويعرّف الحكم الأولي بأنه الحكم المجعول للشيء وبالذات، دون لحاظ لأيِّ عارض أو طارئ يطرأ عليه، ومن ذلك مثلًا اعتبار شرب الماء مباحاً، فيما شرب الماء النجس حرام، وهذا حكم أولي، غير أنّ بروز عارض موضوعي قد يجعل من شرب الماء - بالحكم الثانوي- واجبًّا شرعيًّا إذا توقف عليه إنقاذ النفس من الهلاك، وكذلك الحال مع حرمة شرب الماء النجس، الذي قد يصبح بالحكم الثانوي جائزًا، وربما كان واجبًا عندما يتوقف عليه إنقاذ حياة الإنسان، وهنا يتضح أنّ شارب الماء النجس في هذه الحال ليس خارجًا عن الدين، وإنّما هو متقيّد بصميم التشريع، بل لو لم يقدم على شرب الماء النجس إنقاذًا لنفسه لكان مخالفًا للدين.
وهكذا تأتي في الشريعة أحكام مندرجة تحت بند الاضطرار؛ ومن ذلك رفع الحرج، ومصلحة النظام، وأهون الضررين، وهذه بأجمعها عناوين موجودة ومقرّة في الشّرع.
وهناك نوعا الثالث من الأحكام وهو الحكم الولائي، وهو الحكم الصادر عن القيادة الدينية مراعاة لظرفٍ من الظروف، فقد يحكم الفقيه بوجوب أمر من الأمور التي هي ليست واجبة من حيث الأصل، وذلك لمصلحة معينة، وعلى هذا النحو قد يحرّم أمرًا هو ليس حرامًا من حيث الأصل، لكنه يرى مصلحة في المنع والتحريم، وهذا ما يعرف بالحكم الولائي.
وعليه يمكن القول إنّ الفكر الديني غنيٌّ بالمرونة التشريعية، والنأي عن الجمود والخشبية والتصلب. ومردّ حالة التصلب هذه، إمّا لوقوع البعض في حالة من سوء الفهم للمبادئ والقيم الدينية، وطريقة التعامل معها، وإنزالها في مجال التطبيق والعمل، وإمّا لدوافع أخرى تجعلهم يتعاطون مع المبادئ والقيم الدينية على نحو متشدّد ومتطرّف.
نماذج من سيرة أهل البيت
إنّ سيرة أئمة أهل البيت غنية بالنماذج التي قدّم من خلالها الأئمة أمثلة حية على المنهجية المرنة في التعاطي مع الوقائع المختلفة. وقد قدّم أمير المؤمنين عليٌّ E نموذجًا مشرقًا في التعامل مع الخلفاء، فقد كان يحضر الجمعة والجماعة، وكانوا يستشيرونه، وهو يمحضهم النصيحة ويقدّم لهم الرأي، وقد وثقت مختلف المصادر ومنها "نهج البلاغة" لهذه المنهجية التي كان عليها الإمام E كقوله E: (لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي وَوَاللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَفَضْلِهِ وَزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ)، وكحديثه E عن مشاركته في جلسة الشّورى التي شكّلها الخليفة عمر بن الخطاب عند إصابته لاختيار الخليفة من بعده، حيث عيَّن ستة من الصحابة كان الإمام عليٌّ واحدًا منهم إلى جانب عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، ورغم أنّ الإمام ينتقد هذه التشكيلة إلّا أنه لم يرفض الانضمام إليها، يقول E: (فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا).
وقد سجّل له التاريخ أنه لعب دورًا حيويًّا فقام بالوساطة بين الثائرين والخليفة، في الفتنة التي حصلت في عهد عثمان بن عفان، فلم يكن E منعزلًا ولا منكفئًا على نفسه.
وكذلك الحال مع الإمام الحسن E في قبوله الصلح، والإمام الرضا في قبوله منصب ولاية العهد، فقد كان جميع ذلك ضمن هذه المنهجية المرنة في التعامل مع الواقع السّياسي في عصرهم، انطلاقًا من رؤية مفادها ضرورة حفظ مصالح الأمة من خلال المسلك الواقعي، لا خوفًا على أنفسهم من القتل أو ما أشبه ذلك. وحينما يعبّر الإمام الرضا E بقوله: (وأنا أجبرت على ذلك)، فإنّما يقصد أنّ الظروف اقتضت منه ذلك من أجل المصلحة العامة، وهذا الموقف الواقعي نفسه هو الذي كان سيتخذه أيّ إمامٍ آخر من أئمة أهل البيت لو مرّ بالظروف ذاتها التي مرّ بها الإمام الرضا أو الإمام الحسن، فلو كان الخليفة الرشيد في تعامله مع الإمام موسى الكاظمE انتهج نهج المأمون في تعامله مع الإمام الرضا، وكانت الظروف متطابقة لكان موقف الإمام الكاظم مشابهًا لموقف الإمام الرضا، ولكان اختار تولي منصب ولاية العهد على دخول السجن، وكذلك الحال مع الإمام الصادق والإمام الحسين وسائر الأئمة، ومردّ ذلك إلى أنّهم جميعًاB يمتحون من ذات المنبع وينتهجون ذات المسار، ولا ينطلقون من مزاجية مختلفة.
وحينما يستشهد الإمام الرضاE بموقف نبيّ الله يوسف Eفي توليه إدارة التخطيط الاقتصادي في سلطة حاكم مشرك، وموقف جدّه الإمام عليّ في دخوله الشورى التي لم يكن مقتنعًا بصحة تشكيلها، إنّما ليشير إلى أنّ هذه هي منهجية الأنبياء والأئمة في التعامل مع الواقع السياسي القائم بما يخدم مصلحة الرسالة والأمة.
نحو قراءة جديدة لسيرة الأئمة
من هنا كان لزامًا أن نعيد قراءة سيرة أئمة أهل البيتB لغرض الوقوف على منهج الواقعية السياسية عندهم. ذلك أنّ منهج أهل البيت السّياسي قد تم حصره ضمن نطاق شديد الضيق بين قراءة قديمة وأخرى متأخرة، يتلخص في حصرهم ضمن خيار العزلة السّياسية التامّة والانكفاء على الذات وفق القراءة القديمة، فلا شغل لهم غير الدعاء والعبادة، ولا يكاد يذكر لهم دور في الحياة الاجتماعية والسّياسية في عصرهم. وفي مقابل ذلك انتعشت القراءة الثورية لحياة الأئمة، بالتساوق مع صعود التيارات الثورية في العصور المتأخرة، حتى يكاد يصوَر الأمر وكأن المنهجية السّياسية الوحيدة التي انتهجها الأئمة في حياتهم هي الثورة والصدام مع الواقع السياسي القائم وحسب، بخلاف ما كانت عليه سيرتهمB. وقد كان الاستثناء الوحيد، الذي يؤكد القاعدة، يتمثل في حالة واحدة وهي ثورة الإمام الحسين وقيامه في وجه الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، وتلك حالة استثنائية كان لها ظروفها وملابساتها، وإلّا فالإمام الحسين E نفسه وبعد وفاة أخيه الإمام الحسن، عاش تحت حكم معاوية بن أبي سفيان نحوًا من عشر سنين دون أن يخلع معاوية أو يعلن الثورة عليه.
وبذلك نخلص إلى أنّ المنهج السّياسي العام لأئمة أهل البيت B هو منهج الواقعية السّياسية، والتعاطي الواقعي مع النظام السّياسي القائم. ولو شئنا تقريب الفكرة أكثر فلنا في مواقف العلماء والمراجع والقيادات الدينية العصر الحديث الكثير من الأمثلة التي لا تعدّ ولا تحصر والتي تقوم في مجملها على مراعاة الواقع الراهن الذي يعيشه المؤمنون، فالدين لا يريد تدمير مصالح المجتمع المسلم، من خلال الانعزال والانزواء والقبول بالتهميش. وإنّما على العكس من ذلك يريد أن يعمل المؤمنون من أجل تنفيذ القيم والمبادئ بمقدار استطاعتهم، ويعملون على التعايش مع واقعهم ضمن سياق السّعي لإثبات الوجود وتنمية الحضور ونيل سبل الاقتدار، وهذا هو جوهر السّيرة السّياسية الواقعية لأئمة أهل البيتB.