العتاب وحماية العلاقات الاجتماعية
علي : العِتابُ حَياةُ المَوَدَّةِ[1].
في علاقة الإنسان مع الآخرين، من القريبين كأفراد العائلة وزملاء العمل، أو البعيدين ممن تربطه بهم أيّ علاقة تعامل، قد يواجه تصرفاً لا يعجبه، ويتأذّى منه، وقد يبلغه عن أحدٍ ما يزعجه ويسيئه. وهنا غالباً ما ينفعل الإنسان، ويرتب أثراً، ويتخذ موقفاً، يبدأ بإدانة ذلك الطرف والحكم عليه بالخطأ، ويقوده ذلك للسّخط عليه والزعل منه، ثم مقاطعته ومعاداته، وأخيراً اتخاذ إجراءات عملية ضدّه.
العتاب أولاً
لكن هناك مرحلة ينبغي أن تسبق هذه الخطوات والإجراءات وهي ما يطلق عليها مرحلة (العتاب).
عن أمير المؤمنين في وَصِيَّتِهِ لِمُحَمَّدِ بنِ الحَنَفِيَّةِ ـ: لا تَصرِمْ أخاكَ عَلَى ارتِيابٍ، ولا تَقطَعْهُ دونَ استِعتابٍ، لَعَلَّ لَهُ عُذراً وأنتَ تَلومُ [2].
والعتاب يعني إشعار الطرف الآخر بعدم الارتياح مما حصل منه، ومساءلته عن الدافع لذلك. ومن خلال ردّ فعله على عتابك تتضح لك الصورة لتتخذ الموقف المناسب.
1/ فقد يتبيّن لك براءته من الخطأ المتصور، فهو لم يقل ما بلغك أنه قال، أو لم يعمل ما تصورت أنه عمله.
ورد عن علي أنه قال: رُبَّ مَلُومٍ ولا ذَنْبَ لَهُ.[3]
2/ وقد يتضح لك أنّ هناك سوء فهم لقوله أو تصرفه. وأنه لم يقصد الإساءة.
حدث أنّ جماعة في مجلس تناولوا شخصاً لعدم مساهمته في مشروع خيري، فدافع عنه صديقه بأنّ ظروفه المالية صعبة، فذهب من أخبره أنّ فلانًا يقول عنك أنك في أزمة مالية، غضب وجاء منفجرًا في وجه صاحبه، هل شكوت لك الفقر؟ هل أنا محتاج إليك؟ أنا وضعي المادي أحسن منك، وكادت أن تنقطع العلاقة بينهما، وقد يحصل مثل هذا الموقف كثيرًا عندما يُنقل الكلام أو الفعل مفصولًا عن سياقه وخلفياته.
3/ وقد يظهر لك أنّ له عذرًا في تصرفه الذي أزعجك، فهو لم يزرك في مرضك أو لم يحضر مناسبتك؛ لأنه لم يعلم أو لأنه مسافر، أو لأنه مريض.
4/ وقد يتراجع عن خطئه ويعتذر عمّا صدر منه، وعليك أن تقبل عذر أخيك وصديقك، لتستمر العلاقة والمودة، وتعود الأمور إلى طبيعتها معه.
حيث ورد عن رسول الله أنه قال: مَنْ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ مُتَنَصِّلٍ عُذْراً، صَادِقاً كَانَ أَوْ كَاذِباً، لَمْ يَنَلْ شَفَاعَتِي.[4]
وعن علي : اِقبَلْ مِن مُتَنَصِّلٍ عُذرًا، صادِقًا كانَ أو كاذِبًا.[5]
وعن الإمام زين العابدين : لا يَعتَذِرُ إلَيكَ أحَدٌ إلاّ قَبِلتَ عُذرَهُ؛ وإن عَلِمتَ أنَّهُ كاذِبٌ.[6]
وبهذا يظهر دور العتاب في تلافي القطيعة والعداوة، وضمان استمرار المودة والعلاقة، كما أشار الإمام عليّ فيما روي عنه: العتاب حياة المودة.
وكما قيل: العتاب صابون القلوب، أي يغسل ما يعلق بها من البغضاء والشحناء.
على ماذا نعاتب؟
ولكن هل كلّ أمر يستحقّ العتاب؟
هناك نصائح دينية وتربوية وإدارية توجه الإنسان إلى أن يتغاضى ويتغافل عن أشياء كثيرة، فليس كلّ شيءٍ يستحق أن تهتم به وأن تتخذ موقفاً من أجله، يقول أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: mخَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَشْرَ سِنِينَ، وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ، لِمَ فَعَلْتَ كَذَا، وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَاn [7].
وورد عن علي : mلا تُكْثِرَنَّ العِتابَ، فَإنَّهُ يُورِثُ الضَّغينَةَ، وَيَدْعُو إلَى البَغْضاءِn.[8]
وعنه : mمَن لَم يَتَغافَلْ عَن كَثيرٍ مِنَ الاُمورِ تَنَغَّصَت عِيشَتُهُn.[9]
وقال : mأشرف أخلاق الكريم كثرة تغافله عما يعلمn.
وكما قال الشاعر:
إذا كنت في كلّ الأمور معاتباً صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه
إنّ بعض الناس يبالغون في العتاب على كلّ شيء فيسببون الحرج للآخرين، مثلاً: يعاتب على عدم معرفته وتذكّر اسمه، حين يسألك بإلحاح: ألا تعرفني؟ ألا تذكرني؟
ولعلّ عهدك به بعيد، أو لقاؤك به كان عابرًا، لكنه قد يحرجك بالمحاسبة، كيف نسيتني وقد لقيتك في المكان الفلاني، أو قمت لك بتلك الخدمة؟
وبعضهم قد يعاتبك على عدم حضور مناسبته في فرح أو ترح. أو حتى على عدم تكرار حضورك. أو لأنك أغفلت دعوته في مناسبة ما!
ثانياً: فنّ العتاب
عليك أن تأخذ مستوى وظرف الطرف الآخر عند معاتبتك له، فلا تعاتب ولدك الصغير كما تعاتب الكبير الناضج المدرك، ولا تحاسب العامل الأجنبي إن أخطأ في فهم ما تريد كما تحاسب أبناء لغتك والعارفين بلهجتك..
لذلك ورد عن رسول الله أنه قال: mعَاتِبُوا أَرِقَّاءَكُمْ عَلَى قَدْرِ عُقُوْلِهِمْn.[10]
وينبغي أن تكون لبقًا في معاتبتك، تتحدث بهدوء دون صراخ أو انفعال، فذلك لن يكون عتاباً وإنما سيصبح مشاجرة.
ومن المفضل أن تبدأ عتابك بذكرك إيجابيات من تعاتبه ليكون أكثر تقبلًا وتجاوبًا مع عتابك، وكما قيل: امدح على قليل الصواب يكثر من الممدوح الصواب.
وتجنب الاستفزاز في معاتبتك والتعنيف والتوبيخ؛ لأنّ ذلك قد يدفع الطرف الآخر لردّ فعل سلبي، كما ورد عن الإمام علي : «الْإفْراطُ فِي الْمَلامَةِ يَشُبُّ نارَ اللَّجاجَةِ»[11]، وقال : mإِذا عاتَبْـتَ فَاسْتَبْـقِn.[12]
ومن الخطأ تكرار العتاب في ذات الموضوع؛ لأنه قد يثير في نفس من تعاتبه روح التحدّي، فيستمر على خطئه، مما يفقد العتاب تأثيره، حيث ورد عن الإمام علي : mإيّاكَ أن تُكَرِّرَ العَتبَ؛ فَإِنَّ ذلكَ يُغري بِالذَّنبِ، ويُهَوِّنُ العَتبَn.[13]