درس في التضحية بالحقوق لحفظ المصلحة العامة

 

جاء فيما أورده الشيخ المفيد في كتاب الإرشاد من خطبة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب خطبها (بذي قار) قال : «قَد جَرَت اُمورٌ صَبَرنا عَلَيها - وفي أعيُنِنَا القَذى - تَسليما لِأَمرِ اللّه ِ تَعالى فيمَا امتَحَنَنا بِهِ رَجاءَ الثَّوابِ عَلى ذلِكَ، وكانَ الصَّبرُ عَلَيها أمثَلَ مِن أن يَتَفَرَّقَ المُسلِمونَ وتُسفَكَ دِماؤُهُم»[1] .

 ونحن نستقبل يوم الغدير المبارك، نسأل الله أن يجعله علينا وعلى جميع المؤمنين والمسلمين وأبناء البشرية جمعاء، يوم خير وبركة وعزّة وانتصار.

نتحدث شيئاً وجيزاً مما يتعلق بهذه الواقعة العظيمة، التي رواها عشرات الصحابة، وتناقلها التابعون، ودوّنها المحدّثون والمؤرخون بمختلف توجّهاتهم، بأسانيد صحيحة معتبرة، ولم يختلف أحدٌ من المسلمين في وقوعها وحدوثها، وإنّما اختلفوا في دلالتها ومضمونها.

هذه الحادثة التي تتلخص في استيقاف رسول الله لجموع الحجيج من المسلمين بعد حجة الوداع، عند منصرفهم من أداء مناسك الحج، استوقفهم في منطقة يقال لها (غدير خم)، وخطب فيهم، وفي خطبته رفع يَدَ عليّ بن أبي طالب بيده، وقال: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا مَوْلَاهُ، اللَّهمّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ»[2] .

يرى الشيعة أنّ هذا الموقف يُشكّل إعلانًا من رسول الله بتنصيب عليٍّ إمامًا وقائدًا للأمة بعد رسول الله ، وذلك  بأمر من الله تعالى، في أعقاب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس، وهذه الواقعة جاءت تتويجًا لعددٍ من المواقف التي اتخذها رسول الله ، لتبيين الدور القيادي لعليِّ بن أبي طالب، بدءًا من حادثة الإنذار، حينما نزل قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وجمع رجال بني هاشم وقال: مَنْ منكم يبايعني فيكون أخي ووصي وخليفتي ووارثي من بعدي[3] ، ...إلى آخر الحادثة التي روتها المصادر الإسلامية فقام عليّ بن أبي طالب في عدّة مرات بشكل تفصيلي ذكرتها الروايات، وكذلك حديث المنزلة وقوله : «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي»[4]  وعشرات الأحاديث والروايات الواردة في المصادر الإسلامية بأسانيد صحيحة معتبرة.

لماذا لم يدافع عليٌّ عن حقّه؟

ما يهمّنا الآن فيما يرتبط بقضية الغدير، الإجابة عن تساؤل مُلِحٍّ يفرض نفسه، هذا التساؤل حول موقف الإمام عليّ من عدم الدفاع عن حقّه بعد رسول الله ، هذا الحقّ الذي تمسّك به الإمام عليّ وتحدّث عنه مرارًا، لكنه لم يتّخذ إجراءً عمليًّا حقّه في الخلافة بعد رسول الله ، زوي عنه هذا الحقّ، فلم يقم بإجراءات وخطوات عملية للدفاع عن هذا الحقّ، بل دخل فيما دخل فيه الناس، وعاش في ظلّ الخلفاء، وشاركهم برأيه وجهده في خدمة مصالح الدين والأمة.

بالتأكيد لم يكن شاكًّا أو متردّدًا في حقّه، ولم تكن تنقصه الشّجاعة والبطولة، وهو الذي نقل عنه أنه قال: «لَو تَظاهَرَتِ العَرَبُ عَلى قِتالي لَما وَلَّيتُ عَنها»[5] .

وهو القائل لما قبض رسول الله ـ وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب ـ في أن يبايعا له بالخلافة، وذلك بعد أن تمت البيعة لأبي بكر في السقيفة، وفي إطار ردّه على من فسّر سكوته بالخوف من الموت متعجّباً من ذلك وهو الذي ثبت حين نكصت الأبطال في بدرٍ وأحدٍ وحنين والأحزاب وخيبر التي أثبتت مدى ولهه وشغفه بالشّهادة ولَهَ الرضيع بثدي أمّه، قال : «وإِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ - هَيْهَاتَ  بَعْدَ اللَّتَيَّا والَّتِي واللَّه لَاَبْنُ أَبي طَالِبٍ آنَسُ بالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْي أُمِّهِ»[6] .

لماذا لم يتحرّك إذاً؟! لماذا لم يدافع عن حقّه؟!

هذا السؤال كان مطروحًا على عليٍّ وقد أجاب عنه، ليس في موقف واحد، ولا مرة واحدة، بل إنّ الأحاديث والمصادر تنقل عدة مواقف أجاب فيها الإمام عن هذا التساؤل، ومضمون إجابة الإمام كما سننقل بعض الشواهد منها، أنه راعى المصلحة العامة للدين والأمة؛ لأنه رأى أنّ دفاعه عن حقّه في ذلك الوقت، والأمة ناشئة حديثة التكون، وقد فقدت للتوِّ نبيها وقائدها رسول الله ، وهناك ثارات، وهناك أعداء يتربصون بالأمة الدوائر، وقد بدأت بعض الفئات ترتدّ عن الدين، وتشيع حالة الارتداد، رأى الإمام عليٌّ أنه إذا دافع عن حقّه واستخدم القوة، ونهض وثار، فسيحدث انقسام في الأمة، وستكون هناك حرب أهلية، تسفك فيها الدماء، ويتحيّن الأعداء فيها الفرصة، ويصبح دليلًا عند المرتدين والمشككين بأنّ المسألة نزاع على السّلطة، وليس هناك دين، وليس هناك حقيقة، وإنّما هو صراع قبلي سلطوي، رأى نفسه أمام هذا الموقف، له حقّ لكن الدفاع عن هذا الحقّ سيؤدي إلى انهيار الكيان الإسلامي، وإلى احتراب ومشاكل كبيرة تواجه الدين والأمة، لو أنّ شخصا آخر غير عليٍّ لعله ما كان يهمّه ماذا ستكون النتائج، بل يهمّه أن يجد طريقًا للوصول إلى السلطة والحكم، لكن عليًّا كان يعيش هَمَّ الدين، ويفكر في مصلحة الأمة، لذلك لم يتحرك دفاعًا عن حقّه، بما يؤدي إلى تخريب مصلحة الأمة، وضياع مصلحة الدين، وهذا ما يظهر من نصوص كثيرة نقلتها المصادر التاريخية وكتب الحديث.

عليٌّ يتحدّث عن موقفه:

جاء في الشافي أنّ بريدة، وكان من الصحابة الأجلاء، وقد سمع مباشرة من رسول الله أنه قال له: يا بريدة، عليٌّ وليّكم من بعدي، لذلك جاء حتى ركز رايته في وسط قبيلته (أسلم) ثم قال: لا أبايع حتى يبايع عليّ، قال عليّ له: «يا بريدة، ادخل فيما دخل فيه الناس، فإنّ اجتماعهم أحبَّ إليَّ من اختلافهم اليوم»[7] .

وخطبته في (ذي قار) التي قال فيها: «قَد جَرَت اُمورٌ صَبَرنا فيها، وفي أعيُنِنَا القَذى؛ تَسليما لِأَمرِ اللّه ِ تَعالى فيمَا امتَحَنَنا بِهِ؛ رَجاءَ الثَّوابِ عَلى ذلِكَ، وكانَ الصَّبرُ عَلَيها أمثَلَ مِن أن يَتَفَرَّقَ المُسلِمونَ، وتُسفَكَ دِماؤُهُم»[8]  لاحظوا.. الإمام يقول الصبر على ضياع هذا الحقّ أمثل، أي أولى وأفضل من أن يتفرّق المسلمون وتسفك دماؤهم، هذا يقوله من يهتمّ بوحدة المسلمين، وحماية دمائهم، أمّا أصحاب النزعات السّلطوية والمطامع الدنيوية فلا يهمّهم ذلك، تفرّق المسلمون أو اتّحدوا، لا يهمّهم، سفكت الدماء أو صينت لا يهمهم، لكن عليًّا يهمّه ذلك.

وعنه من خطبة له قبل حرب الجمل: «إنَّ النَّبِيَّ حينَ قُبِضَ كُنّا نَحنُ أهلَ بَيتِهِ، وعُصبَتَهُ، ووَرَثَتَهُ، وأولِياءَهُ، وأحَقَّ خَلقِ اللّهِ بِهِ، لا نُنازَعُ في ذلِكَ . . . إلى أن قال: فَانتَزَعوا سُلطانَ نَبِيِّنا مِنّا، ووَلَّوهُ غَيرَنا، وَايمُ اللّه ِ فَلَولا مَخافَةُ الفُرقَة بَينَ المُسلِمينَ أن يَعودوا إلَى الكُفرِ لَكُنّا غَيَّرنا ذلِكَ مَا استَطَعنا»[9] .

وفي كتاب له إلى أهل مصر مع مالك الأشتر: «تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّد فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ»[10] .

وفي تاريخ الطبري ومصادر أخرى:

 لَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ، أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى عَجَاجَةً لا يُطْفِئُهَا إِلا دَمٌ يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ، فِيمَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أُمُورِكُمْ؟ أَيْنَ الْمُسْتَضْعَفَانِ؟ أَيْنَ الأَذَلانِ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ؟ وَقَالَ: أَبَا حَسَنٍ ابْسُطْ يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ، فَأَبَى عَلِيٌّ عَلَيْهِ فَجَعَلَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ الْمُتَلَمِّسِ:

وَلَنْ يُقِيمَ عَلَى خَسْفٍ يُرَادُ بِهِ

                                      إِلا الأَذَلانِ عِيرُ الْحَيِّ وَالْوَتَدُ

هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَعْكُوسٌ بِرُمَّتِهِ

                                      وَذَا يُشَجُّ فَلا يَبْكِي لَهُ أَحَدُ

قَالَ: فَزَجَرَهُ عَلِيٌّ، وَقَالَ: إِنَّكَ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ بِهَذَا إِلا الْفِتْنَةَ، وَإِنَّكَ وَاللَّهِ طَالَمَا بَغَيْتَ الإِسْلامَ شَرًّا، لا حَاجَةَ لَنَا فِي نَصِيحَتِكَ) [11] .

الدرس العظيم

إنه درسٌ عظيم يقدّمه الإمام عليّ صلوات الله وسلامه عليه للأمة، أنّ الأولوية يجب أن تكون لحفظ المصلحة العامة، مع أنه مطلوب من الإنسان، أن يدافع عن حقوقه، وكذلك الجماعات الفئات والشعوب مطلوب منها أن تطالب بحقوقها، فهو أمر مشروع، لكن يجب أن يكون ذلك تحت سقف حفظ المصلحة العامة، أمّا إذا كان الدفاع عن بعض الحقوق يؤدي إلى ضياع مصالح الشعوب والأوطان، فإنّ الشرع والعقل يتوقف في ذلك؛ لأنّ هناك أولويات، وهذا هو ما فعله عليّ بن أبي طالب.

 ما نراه الآن في عددٍ من بلاد المسلمين من دمار وتخريب، وفقدان للأمن، وسفك للدماء، وانتهاك للأعراض، وتسليط للأجانب على الأوطان والشعوب، يوجب علينا التأمّل في هذا الدرس العلويّ.

 ماذا يحدث في الصومال؟!

 ماذا يحدث في أفغانستان؟!

 ماذا يحدث في سوريا؟!

ماذا يحدث في ليبيا؟!

ماذا يحدث في العراق؟!

ماذا يحدث في بلدان كثيرة بدرجات متفاوتة؟!

أطراف متناحرة، كلُّ طرفٍ يرى أنّ له حقًّا فيتشبث بموقفه، دفاعًا عن حقّه، والنتيجة هذا الدمار، وهذا الخراب الذي نراه، لو كان هناك وعي عليّ بن أبي طالب، لو كان هناك إخلاص عليّ بن أبي طالب، الذي يجعل المصلحة العامة نصب الأعين والأفكار، ويجعلها حاكمة على المواقف والتصرفات، لما آلت الأمور إلى ما تعيشه بلداننا الإسلامية في هذا العصر.

صحيح أنّ هناك حقوقًا مشروعة، حكومات تدافع عن سلطاتها وما تعتقد أنه شرعية لها، شعوب تدافع عن حرياتها وكرامتها وحقوقها، أحزاب وجماعات، كلّ جماعة ترى أنّ منهجها وأن طريقتها هي الأحقّ وهي الأصوب، وأنّ لها حصة وأنّ لها دورًا، وقد يكون الحقّ مع هذا الطرف أو ذاك، أو متوزّعًا بين الأطراف، ولكن هل يبرّر لهم ذلك ما يحدث في بلدانهم من دمار وخراب؟!!

أصبحنا فرجة لكلّ العالم!!

أصبح العالم يتفرّج على خلافاتنا ونزاعاتنا وحروبنا، وأصبحت القوى المختلفة تستثمر في هذه الحروب والخلافات، تنشط مصانع أسلحتها، وتعزّز وجودها ونفوذها، وتنسف ما حصل من تنمية في هذه البلدان، فإلى متى تستمر هذه الحالة في بلاد المسلمين؟!!

إننا في حاجة إلى وقفة تعقّل وتأمّل، على كلّ إنسانٍ أن يدرس موقف عليّ بن أبي طالب ، وأن يكون التضحية بالحقوق الخاصة من أجل حماية الحقوق العامة، وهذا هو ما يمليه علينا موقف عليّ بن أبي طالب، وهذا ما يجب أن يعمل ويدعو له جميع الواعين المخلصين، ونسأل الله تعالى أن يحقق ذلك وأن يكشف هذه الغمّة عن هذه الأمّة.

* كلمة الجمعة بتاريخ 17 ذو الحجة 1438هـ
[1]  الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، الشيخ المفيد، ج1، ص249.
[2]  سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج4، ص330، حديث1750.
[3]  أخرجه بهذا اللفظ أو قريب منه: تفسير الطبري: ج11، ج19، ص121، تاريخ الطبري ج2، ص319، الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج2، ص62.
[4]  صحيح مسلم. كتاب فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، بَابُ مِنْ فَضَائِلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
[5]  نهج البلاغة. الكتاب 45. ‏ومن كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وهو عامله على البصرة.
[6]  نهج البلاغة. خطبة 5.
[7]  الشافي في الإمامة. الشريف المرتضى، ج 3، ص 243.
[8]  الإرشاد. ج1، ص249.
[9]  الأمالي للمفيد. ج1، ص155، حديث6.
[10]  نهج البلاغة، ومن كتاب له إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها، رقم (62).
[11]  تاريخ الطبري. ابن جرير الطبري، ج 2، ص 449.