تقديم لكتاب الشيخ محمد آل عبد الجبار القطيفي للباحث نزار آل عبد الجبار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين.
الشيخ محمد آل عبد الجبار، قامة دينية شامخة، ووجه علمي مشرق في تاريخ المنطقة الخليجية، فهو من أغزر علمائها إنتاجاً وتصنيفاً، حيث يربو عدد مؤلفاته على (128) كتاباً ورسالة، منها ما يقع في عدة مجلدات، كشرحه لأصول الكافي، (هدي العقول إلى أحاديث الأصول) خمسة عشر مجلداً، وكتاب (البارقة الحسينية) في العقائد يقع في مجلدين، وكذلك كتابه (الرد على النصارى) مجلدان.
ويبدو أن الكتابة والتأليف كانت جزءاً أساساً من برنامجه اليومي، لا يقطعه سفر ولا حضر، حيث يشير في بعض مؤلفاته إلى أنه كتبها في طريق سفره براً أو بحراً، أو في بعض المناطق التي سافر إليها، بعيداً عن مكتبته ومصادر بحثه، وكان كثير الترحال والسفر.
وكما رصد باحثنا العزيز الأستاذ نزار آل عبد الجبار، تواريخ إنجاز بعض مؤلفاته، ملفتًا إلى أنه ربما ألّف عدة كتب ورسائل في شهر واحد، بل وفي أسبوع واحد، فقد أرخ إنهاء كتابه (الشهب الثواقب لرجم شياطين النواصب) بتاريخ 10/2/1246هـ، وإنهاء كتابه (الشوارق الحسينية) بتاريخ 12/2/1246هـ، وإنهاء تصنيفه رسالة (العمدة في استنباط الحلال والحرام) بتاريخ 15/2/1246هـ.
إن إنجاز ثلاث كتب ذات مادة علمية، في مجالي علم الكلام وعلم أصول الفقه، في زمن قصير، وفي حال السفر، يدل على تمتعه بدرجة عالية من النشاط، ومستوى متقدم من استحضار المطالب العلمية، حتى لو افترضنا أن تلك التواريخ كانت لإتمامها، وأن البدء فيها كان قبل ذلك.
وقد شملت اهتماماته وكتاباته العلمية مختلف مجالات المعرفة الدينية، وما يرتبط بها من علوم القرآن، والحديث، والفقه، وأصول الفقه، وعلم الكلام، والعرفان، والمنطق، والفلسفة، والفلك، والحساب..
ويلفت النظر انشغاله واهتمامه الكبير بالنص الديني، قرآناً وحديثاً، لجهة التأمل في مضامين النصوص، واستنباط المعاني الكامنة فيها، وايراد مختلف الاحتمالات لمدلولاتها، ومعالجة الاختلاف فيما بينها، وخاصة فيما يرتبط منها بالقضايا العقدية والعرفانية.
ففي قائمة مؤلفاته نجد (تفسير سورة الفاتحة) و (تفسير سورة القدر) وعدداً من الرسائل تختص كل واحدة منها بتفسير آية من القرآن الكريم، كرسالته في تفسير قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾، ورسالته في تفسير الآية: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾، ورسالته في تفسير الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، ورسالته في تفسير الآية: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾. وكتابات في تفسير آيات أخرى.
أما الحديث فكانت له المساحة الأوسع في مؤلفاته وكتاباته، وفي طليعتها شرحه الكبير لأحاديث أصول الكافي (هدي العقول إلى أحاديث الأصول) 15 مجلداً وهو من أوسع شروح الكافي وأعمقها.
وله عشرات الكتب والرسائل التي أفرد كل واحدة منها لشرح حديث من الأحاديث الواردة عن النبي وعن أئمة أهل البيت ، كرسالته في (شرح حديث الثقلين)، ورسالته (خلسة الأنس في معرفة حديث النفس، من عرف نفسه فقد عرف ربه) ورسائل كثيرة أخرى.
وقد لا تتفق معه في بعض استنتاجاته من النصوص أو في تسامحه في قبول الأحاديث والروايات، لكنه يبهرك بالغوص في المعاني، والاجتهاد في التأويل.
وبعض كتاباته ورسائله كانت للإجابة على أسئلة وجّهها إليه بعض العلماء والفضلاء، من بلدان مختلفة، مما يدل على تبوئه لمكانة مرموقة في الوسط العلمي، بحيث يُرجع إليه في فهم مرادات النصوص، ومعالجة إشكالاتها واختلافاتها.
وهو من الفقهاء القلائل في منطقته الذين امتدت مرجعيتهم الدينية إلى مناطق أخرى، فله مقلدون في عدد من مدن: إيران، والعراق، والبحرين، ومسقط، والأحساء، والقطيف.
ويظهر من كتاباته ومؤلفاته اهتمامه بقراءة الفكر الآخر والرأي الآخر، ومناقشته والرد عليه في موارد الخلاف، نجد ذلك ضمن دائرته المذهبية التي ينتمي إليها، حيث جادل مخالفيه في الداخل الشيعي حول بعض المعتقدات والآراء الفقهية والأصولية، كما في انتصاره لآراء السيد الرشتي ـ مثلاً ـ، وفي رده على صاحب القوانين حول حجية الظنون، وله أكثر من رسالة في مسألة تقليد الميت، والجمع بين الفاطميتين، ووجوب الاخفات بالتسبيح في الأخيرتين للمصلي سواء قرأ أو سبح، ومسألة تقليد الأفضل.
وضمن الدائرة الإسلامية، له كتاب في الردّ على الصوفية، وآخر في الردّ على الزيدية، وكتاب في الردّ على ابن تيمية.
وضمن دائرة الأديان له كتابان في الردّ على النصارى، أحدهما يقع في مجلدين، ذكر في مقدمته أنه اطّلع على الأناجيل الأربعة، وكتب العهد القديم والجديد.
هكذا نجد له حضوراً علمياً برسائله وكتاباته في مختلف ميادين الخلاف والصراع العقدي والأصولي والفقهي. مما يدل على سعة معرفته واطلاعه، واهتمامه بالآراء والتيارات القائمة في عصره، ويحكي خوضه لتلك المعارك الفكرية عن ثقة متجذرة بما يتبناه من رأي وموقف، وعن جرأة في المنازلة والمواجهة، متسلحًا بمنطق الدليل والبرهان.
ويبدو من مجمل كتاباته التي يردّ فيها على مخالفيه، في الدين أو المذهب أو الرأي، أن شدة حماسه لمتبنياته كانت تنعكس في كثير من الأحيان على عباراته وألفاظه لتأتي قاسية عنيفة تجاه الآخر المخالف.
لقد خلّف الشيخ آل عبد الجبار ثروة علمية كبيرة، وتراثًا معرفيًا قيّمًا، لكنه لا يزال مبعثرًا، في بلدان ومكتبات وأيدٍ مختلفة، لم يجمع شتاته بعد، ولم ينشر إلا قسم منه بمبادرات مشكورة من بعض الفضلاء الباحثين، جزاهم الله عن العلم والدين خير الجزاء، وأخصّ بالذكر هنا جهود الأخ الفاضل الشيخ مصطفى الشيخ عبد الحميد آل مرهون والإخوة العاملين معه في دار المصطفى لإحياء التراث، على قيامهم بتحقيق ونشر أهم كتب الشيخ آل عبد الجبار وهو (هدي العقول إلى أحاديث الأصول).
ونأمل أن يوفق الله الباحثين والمهتمين بالتراث، وخاصة من أهل المنطقة، لجمع تراث هذا العالم المعطاء، وتحقيقه ونشره ضمن موسوعة تضم أعماله الكاملة.
ويأتي الجهد المشكور الذي بذله الباحث المخلص نزار آل عبد الجبار، في إعداد هذا التوثيق البيبلوغرافي، لكل آثار الشيخ آل عبد الجبار المخطوطة والمطبوعة، خطوة مهمة على طريق تحقيق تلك الأمنية المنشودة التي طال انتظارها.
والأستاذ نزار ـ كما عرفته ـ باحث صبور جادّ في جمع مادة بحثه، واستقصاء أطرافها، يتابع المعلومة التراثية ويقتنصها من مظانّها ومصادرها المختلفة، ثم يُجيد تقديمها للمهتمين بمنهجية سليمة، وأسلوب شائق، وهذا ما يلحظه القارئ في هذا الكتاب القيّم، حيث استوفى في ترجمة الشيخ آل عبدالجبار أهم ما ورد في المصادر عن حياته، بتنظيم منهجي للمعلومات، وتدقيق في بعض تفاصيلها، من خلال متابعته وبحثه، مستفيداً من الوثائق التي أطّلع عليها بجده واجتهاده، وبذلك قدّم لنا أوضح صورة عن حياة الشيخ وسيرته، تتضمن جداول بيانية، ورصداً وثائقياً قلّ أن تجده فيما يُكتب من تراجم العلماء.
وفي رصده لآثار الشيخ ومؤلفاته، يظهر مدى الجهد الذي بذله لجمع أكبر قدر من المعلومات عن كل كتاب ورسالة، تشمل بيان موضوع الكتاب، وتاريخ تأليفه، وأماكن نسخه، وأشخاص الناسخين، وتواريخ نسخهم، وأنه مطبوع أو مخطوط، ونصّ الوقفية المكتوبة على الكتاب إذا كان موقوفاً، وبعض الأسطر من بداية الكتاب.
حقًّا إنه جهد توثيقي رائع، يقدم شهادة جديدة على الكفاءة المتميزة للأستاذ نزار آل عبد الجبار في خدمة تراث وطنه ومجتمعه.
فجزاه الله خير الجزاء ووفقه للمزيد من العطاء، والحمد لله رب العالمين.
حسن الصفار
16 جمادى الأولى 1438هـ
13 فبراير2017م