مجالس عاشوراء للمعرفة والإرشاد
﴿الَّذينَ يَستَمِعونَ القَولَ فَيَتَّبِعونَ أَحسَنَهُ أُولئِكَ الَّذينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُم أُولُو الأَلبابِ﴾[الزمر: ١٨].
من نِعم الله تعالى على مجتمعنا الإقبال على إحياء المناسبات الدينية، فهي زاخرة بمختلف البرامج النافعة المحركة للأجواء الثقافية والاجتماعية، وأبرز برنامج في هذا الموسم العظيم هو المجلس الحسيني، حيث يجتمع الناس ليستفيدوا مما يُطرح عليهم من أمور دينهم ودنياهم.
هذه المجالس الحسينية إلى جانب البرامج العاشورائية الأخرى، كالمواكب والتمثيل والأنشطة الفنية المختلفة، كلها تعود بالنفع والخير على المجتمع، حيث تقوّي وتعزّز التزامه الديني، وتوثق العلاقة والصلة بين أفراد المجتمع وشرائحه.
إنّ مشاركة الناس في مجتمعاتنا الشيعية في هذه المجالس أمرٌ يُلفت النظر!
كيف يحتشد الناس بهذه الأعداد الهائلة بدافع ذاتي؟!
وكيف يقبلون على هذه المجالس ولمدة عشرة أيام، ومن مختلف شرائحهم وطبقاتهم ومستوياتهم؟!
هذا مكسب عظيم يمثل فرصة إيجابية مهمة لتقوية المجتمع وتنميته، إنْ أحسنَّا الاستفادة من هذه البرامج.
والسؤال المهم هنا: كيف نستثمر هذه المجالس، على الصعيدين الفردي والاجتماعي؟
يمكن الإشارة إلى عدة أمور مهمة:
أولاً: الحرص على حضور هذه المجالس
إنّ توفر وسائل التواصل والإعلام لمتابعة هذه المجالس لا ينبغي أن يكون بديلًا عن الحضور الشخصي.
صحيح أنّ هناك بثًّا مباشرًا لبعض المجالس، وهناك فضائيات تنقل كثيرًا من المجالس على المستوى العالمي، وليس على المستوى المحلي فقط، ولكن الحضور في حدّ ذاته أمر مطلوب؛ لأنه يمثل مظهرًا لإحياء هذه الشعيرة، فلو بقي معظم الناس في بيوتهم يتابعون برامج عاشوراء عبر الوسائل المختلفة، فإنّ ظهور هذا الإحياء سيكون خافتًا وضعيفًا، وهذا أمر غير إيجابي في تربية أبنائنا وأجيالنا على الالتزام بانتمائهم الديني والولائي، ولذلك ينبغي الحضور في المجالس وعدم الاكتفاء بالمتابعة عن بُعد.
ثانيًا: المشاركة الفاعلة
على كلّ واحدٍ من أبناء المجتمع أن يجد له دورًا في خدمة هذه المجالس والبرامج العاشورائية، فلا يكون مستهلكًا أو متفرجًا فقط، فهذه البرامج تُقام بِجُهدٍ أهلي، وقوتها تُرسِّخ حالة العمل الأهلي والتطوع الذاتي في أبناء المجتمع.
لذلك ينبغي لكلّ إنسان أن يجد له طريقًا للمشاركة في هذه المجالس، بشيءٍ من وقته أو ماله أو جهده.
أن تدعو أقرباءك، أن تدعو الآخرين وتحفزهم على الحضور، أو تصرف شيئًا من مالك، أو تشارك في إدارة هذه المجالس وحُسن جريان أمورها.
إذا كانت هناك ملاحظة أو نقص أو خلل، فإنّ ذلك يحتاج إلى مبادرة للتطوير والإصلاح، ومع وجود المبادرات الإيجابية في هذا المجال، نأمل أن تتوسع هذه الحالة، وأن تتعمق في المجتمع.
ثالثًا: الاستفادة المعرفية الثقافية
على كلّ فرد أن يفكر في الاستفادة الشخصية من هذه الموائد الثقافية، فهي فرصة من فرص الخير، لا يكفي أنْ يحضر الإنسان هذه المجالس بدافع تعبّدي، من أجل الثواب فقط، فمقدار الثواب يتحدد بمستوى الفائدة التي يكسبها من المجلس.
لا شك أنّ أصل الحضور فيه ثواب، وكلما كانت الاستفادة من هذه المجالس أكثر كان الثواب أكبر، بمستوى التفاعل والاستفادة من هذه المجالس.
والاستفادة لها ألوان، من أبرزها الاستفادة المعرفية، فقد ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال: «تَذاكُرُ العِلمِ ساعَةً خَيرٌ مِن قِيامِ لَيلَةٍ»[1] .
فهذه المحاضرات والخطب زاخرة بالعلم والمعرفة، وإن كان في المجمل قد تكون هناك ملاحظات على بعض الخطب أو بعض الخطباء، فهناك في الساحة ولله الحمد مَن ارتقى بأسلوب الخطابة، وبالمواضيع النوعية التي تطرح، لذلك ينبغي للإنسان أن يذهب إلى هذه المجالس بِنِية الاستفادة منها، وعليه أن يختار من بينها المجلس الذي يستفيد منه وينتفع به أكثر، وهذا يعني أن ينتبه لما يُطرح.
ما هي الفكرة التي يطرحها الخطيب؟
ما هي الرسالة التي يريد إيصالها من خطابته؟
البعض قد يجلس ويستمع، لكنه لا يركز، لا يحاول أن يتأمل وأن يهتم بمعرفة ما يريد الخطيب قوله، لذلك يمكن تُلفِت نظره نكتة قالها الخطيب أو قصة أوردها على سبيل الاستشهاد، أما الفكرة الأساسية التي يريد الخطيب عرضها، قد لا يهتم بالتركيز عليها، ومن أجل أن يستفيد الإنسان معرفيًّا، عليه أن يتابع الفكرة التي يسمعها، ويقيمها في تفكيره حتى بعد المجلس.
يمكنك أن تناقشها مع نفسك ومع الآخرين، وقد تحتاج الفكرة إلى إثراء وإشباع.
بعض الأشخاص حينما يستمع محاضرة تثير في ذهنه استفهامًا، تثير سؤالًا واهتمامًا، وهذه هي من أهم المحاضرات، المحاضرة التي تدفعك إلى التفكير، التي تدفعك إلى السؤال والبحث، لعلّ البعض من الناس يُعجبُه أن يجد وجبة جاهزة، يأخذ فكرة جاهزة وكفى.
لكن الأفضل أن تكون المحاضرة دافعًا لك للبحث حتى تعمق الفكرة وتتضح أمامك الصورة، كما يمكن أن تُدوّرها فيمن حولك؛ لأنّ زكاة العلم نشره، وقد أصبحت وسائل النشر متاحة للجميع، بإمكان الإنسان حينما يسمع فكرة أن يبعثها إلى الآخرين عبر رسالة أو تغريدة، عبر أيّ طريقة من الطرق، فَيُفَعِّل الفكرة ويُسهِم في نشر المعرفة ونشر الهدى في أوساط الناس.
ألم يَقُل الله تعالى وهو يُلهِمُنا هذا التطلّع: ﴿رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾، الإنسان ينبغي أن يتطلّع إلى زيادة علمه ومعرفته، وهذه المجالس وسيلة من وسائل زيادة العلم والمعرفة.
نصوص كثيرة تؤكد أهمية المعرفة والوعي، من هنا على الإنسان أن يحرص في هذا الموسم المميز على الاستزادة من العلم والمعرفة، فهي فرصة ينبغي استثمارها.
أين تجد في أيّ مجتمع من المجتمعات كثافة هذه المجالس والمحاضرات؟!!
قد لا نبالغ إذا قلنا إنّ في منطقتنا ألف مجلس تقريبًا في كلّ يوم من أيام عاشوراء، ليلًا ونهارًا، نساءً ورجالًا، ألف محاضرة هذه بإمكانها أن تخلُق تموُّجًا معرفيًّا في المجتمع إذا أُحسِن الاستفادة منها.
رابعًا: الاستعداد للتفاعل الروحي والسلوكي
يقول الله تعالى: ﴿الَّذينَ يَستَمِعونَ القَولَ فَيَتَّبِعونَ أَحسَنَهُ﴾.
حينما تستمع محاضرة تناقش موضوعًا سلوكيًّا أو اجتماعيًّا، فَكِّر كيف تستفيدُ مما سَمِعت.
بالتأكيد لو أنّ أكثر الناس يحرصون على الاستفادة العملية مما يسمعون من هذه المجالس، لأصبحنا في كلّ عام بعد الموسم في حال أفضل من الناحية السلوكية، والاجتماعية العامة، وهذا ما ينبغي التركيز عليه.
حينما تستمع للخطيب وهو يتحدث عن حُسن التربية، راجع نفسك، هل أنت تقوم بواجب التربية تجاه أبنائك بالوجه الصحيح؟
هل فيما قاله الخطيب ما يدفعك لتصحيح شيء من تعاملك مع أبنائك؟
حينما يتحدث الخطيب عن العائلة أو العلاقة مع الجيران والناس بشكل عام، فكِّر فيما يرتبط بك، هذا الكلام موجه إليك أنت، فينبغي للإنسان أن يستفيد عمليًّا، وليس فقط معرفيًّا من حضوره في هذه المجالس.
عليك أن تتفحّص نفسك، ماذا أستفيد من هذه المحاضرة، ماذا أستفيد من هذه الموعظة، حتى يخرج الإنسان من كلّ مجلس بفائدة عملية، علي عليه السلام فيما روي عنه يقول: «العلم يَهتِفُ بِالعَمل، فَإن أجابَ وَإلّا ارتَحَل»[2] .
وكان من دعاء رسول الله : «اللهمَّ إني أَعوذُ بكَ مِن عِلمٍ لا يَنفَع»[3] .
حينما تسمع عِلمًا، معرفة، فكرة تُقدّم إليك، عليك أن تستفيد منها، لكن في بعض الأحيان يضع الإنسان بينه وبين الموعظة حواجب وحواجز، يفكر أن الموعظة تعني غيره، وأنّ الكلام مُوجَّه لِسِواه، وأنّ ظرفه يختلف عن هذا الكلام، يحاول أن يبرّر لنفسه، وهذا من الجهل، علي عليه السلام يقول فيما روي عنه: «الجاهلُ لا يَرتَدِع وبِالمواعِظِ لا يَنتَفِع»[4] .
خامسًا: تأكيد وتوثيق الصلات الاجتماعية
يقول الإمام علي : «عليكم بالتواصل والتباذل وإيّاكم والتدابر والتقاطع»[5] .
في حضورك لهذه المجالس فكِّر في أن تكسب أصدقاء جددًا، وأن تُوَثّق علاقتك بآخرين من أبناء مجتمعك لم تكن لك بهم علاقة في السابق، أو لم تكن علاقتك بهم وثيقة، وهذا من فوائد هذه المجالس.
تتجلى هذه الفائدة بصورة أكثر في المؤمنين المقيمين في مناطق بعيدة نائية، طالب مبتعث في مكان، موظف منتدب، إنسان ذاهب إلى بلد لعمل، يأتي موسم عاشوراء فيبحث عن مجلس، فيكون حضوره سببًا في تَعرُّفِه على إخوانه المؤمنين هناك، وفي مناطقنا أيضًا، علينا أن نستفيد هذه الفائدة، نُوَثّق علاقتنا مع مَن نعرف، ونتعرف على من لم نتعرف عليه سابقًا.
روي عن رسول الله أنه قال: «استكْثِروا مِن الإخوانِ؛ فإنَّ لكلِّ مؤمنٍ شَفاعةً يومَ القيامةِ»[6] .
وورد عن لُقْمَانَ أنه قال لابْنِهِ: «يَا بُنَيَّ، اتَّخِذْ أَلْفَ صَدِيقٍ، فَإِنَّهُ قَلِيلٌ، وَلا تَتَّخِذَنَّ عَدُوًّا، فَإِنَّهُ كَثِيرٌ»[7] .
وعن الإمام علي : «أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الْإِخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ»[8] .
وعنه : «المَرءُ كثيرٌ بأخيهِ»[9] .
وعن الإمام الصّادقُ : «مَن لَم يَرغَبْ في الاستِكْثارِ مِن الإخوانِ ابتُليَ بالخُسْرانِ»[10] .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإيّاكم لإحياء هذا الموسم على أفضل وجه، وأن يجعلنا وإيّاكم من المتمسكين بولاية رسول الله وأهل بيته الأطهار وأن يحشرنا في زمرتهم.