روح العمل الجمعي في المؤسسات التطوعية
جاء في خطاب الحسين لأصحابه ليلة عاشوراء: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَصْحَابًا أَوْفَى وَلَا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِي، وَلَا أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ وَلَا أَوْصَلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَجَزَاكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا عَنِّي خَيْرًا»[1] .
فضل أصحاب الحسين ومكانتهم أمرٌ جليٌّ واضح، سجّله التاريخ في أنصع صفحاته، وطالما تحدث عنه الخطباء والشعراء، لكننا نريد أن نقف عند درس من دروس سيرة أنصار الإمام الحسين ، ذلك الدرس يرتبط بسلوكهم الداخلي مع بعضهم بعضًا، ذلك أنّ أيّ عمل جمعي كلما كان الأفراد المشاركون فيه أكثر انسجامًا وتفاهمًا فيما بينهم كان عملهم أنجح وأفضل وأبرك.
صحيح أنّ وجود رؤية للعمل ومقصد واضح شيء أساس، لكن التعامل الداخلي بين (أفراد الفريق) ـ حسب التعبير الإداري ـ له أثر كبير.
المؤسسة التي يكون موظفوها ومسؤولوها منسجمين متعاونين متفاهمين تكون مؤسسة أكثر نجاحًا وتقدّمًا.
والأمر نفسه ينطبق على المؤسسات العاملة في المجال الديني، فالتجمع الديني يُفترض فيه أن يتسم بسمات العمل بروح الفريق الواحد.
وحيث يزخر مجتمعنا بأنشطة ومؤسسات اجتماعية متعددة يعمل فيها متطوعون يشاركون بوقتهم وجهدهم ومالهم قربة إلى الله تعالى وخدمة لمجتمعهم، فهذا من المكاسب الكبيرة، لكن السعي إلى تطوير العمل وإنجاحه يتطلب تطوير السلوك الداخلي في التعامل بين هؤلاء الأفراد، حتى تكون المؤسسات أكثر بركة ونجاحًا، ونشير في هذا المجال إلى عدة أمور:
أولًا: رفع مستوى التعاون
بأن يرى كلّ واحد منهم نجاح الآخرين نجاحًا له، حتى يُنجحوا جميعًا أعمالهم التي يقومون بها، أما إذا كانت بينهم حساسيات أو تنافر، أو كان البعض يسعى لعرقلة جهد الآخر، فإنّ المؤسسة تسوء من داخلها، وبالتالي لا تستطيع أن تقوم بدورها.
ثانيًا: التنافس على العطاء الأداء
وذلك في مقابل التنافس على المواقع والمناصب، فإنّ حصول ذلك سيكون على حساب الإنجاز والعطاء، فينبغي أن تسود روح التنافس الإيجابي الذي يقدم العمل ويطوره.
ثالثًا: التحمل والاستيعاب المتبادل
الأفراد العاملون في العمل الجمعي بشر، يخطئ بعضهم على بعض، وقد تكون هناك شائبة في الفهم، أو ظروف نفسية خاصة في وقت ما، تنبعث كلمة من هذا أو تصرف من ذاك، فإذا كان هناك استيعاب وتحمل، فإنّ هؤلاء العاملين يستطيعون التغلب على هذه الهفوات الطبيعية.
إنّ العمل الجمعي والتعامل مع الناس امتحان، كما يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾[سورة الفرقان، الآية:20].
هل يتحمل بعضكم بعضًا؟!
بعض الناس لا يمتلك هذه القدرة، ولذلك لا يستطيع الانسجام مع الآخرين، لا يمتلك مهارة العمل الجمعي، يستطيع العمل بمفرده، لكن حينما يعمل مع الآخرين يجد صعوبة في الانسجام، نحن في حاجة إلى التأكيد على أخلاقيات التعاطي داخل الفريق العامل وخاصة في المؤسسات ذات الطابع الخيري الديني الاجتماعي.
مشاكل في مؤسسات دينية
وقد وجدنا مؤسسات دينية تحصل فيها مشاكل فتؤدي إلى تأخرها وعدم قيامها بدورها، وقد تؤدي إلى انهيارها، يحصل ذلك حتى في المساجد.
تحصل في بعض الأحيان نزاعات في مسجد!!
مع أنّ العمل في المسجد هو في إطار صلاة الجماعة (عمل عبادي)!
نعم .. العاملون في هذه المؤسسة الدينية العبادية هم أحوج إلى أن يتمثلوا قيم الدين والأخلاق في تعاملهم الداخلي، حتى يثبتوا جدارتهم في الانتساب لهذا العمل الديني، وحتى يكونوا قدوة للآخرين، ويتمكن العمل الديني أن يأخذ مداه في المجتمع.
بينما إذا حصلت مشاكل في إدارات المساجد أو إدارات الحسينيات، أو إدارات المواكب العزائية أو الجمعيات أو الأندية أو اللجان المختلفة، فإنّ لذلك تداعيات سلبية على العمل ذاته، وعلى الحالة العامة في المجتمع.
وهنا لا بُدّ من الإشارة إلى الطبيعة البشرية لهؤلاء العاملين، فهم ليسوا ملائكة، ويتوقع منهم الاشتباه والخطأ، ولكن لا ينبغي أن نغفل عن التأكيد على هذه الجوانب وعلى مراعاة أخلاقيات التعامل.
أنصار الحسين قدوة
حينما نتحدث عن أنصار أبي عبد الله الحسين علينا أن نلتفت إلى هذا الجانب.
كيف كانوا فريقًا منسجمًا متجانسًا؟!
إنهم من مناطق وقبائل مختلفة، وفي أعمار مختلفة، فيهم الشيخ الطاعن في السن، والشاب اليافع، والمولى الأسود كجون مولى أبي ذر الغفاري، وفيهم من صميم قبائل العرب وقريش، ومن الكوفة والحجاز ومن مختلف المناطق، وهناك دراسات حول أصحاب الإمام الحسين تبيّن تصنيف شرائحهم وانتماءاتهم، لكنهم مع ذلك كانوا فريقًا واحدًا منسجمًا، كانوا يؤثرون بعضهم على بعض، ويتنافسون على التضحية، كلّ شخص يريد أن يكون هو أسبق إلى التضحية من الآخر.
بعض الروايات تنقل أنّ أصحاب الإمام الحسين من غير بني هاشم كانوا يصرّون أن يكونوا واجهة المعركة، حفاظًا على أهل البيت ، فيقولون: لا يصاب أحد منهم وفينا عين تطرف، نحن نتقدم في الدفاع عنهم.
في ليلة عاشوراء وبعد أن أخبرهم الإمام الحسين بمصيرهم، وأنّ المصير هو الشهادة والقتل، كانت نفوسهم مطمئنة، لم يصبهم التوتر، بل كانوا يعيشون الاطمئنان والثبات.
يقال إنّ حبيب بن مظهّر خرج إلى أصحابه ليلة عاشوراء وهو يضحك، قد غمرته الأفراح بقرب الشهادة فأنكر عليه يزيد بن الحصين التميمي قائلًا:
ما هذه ساعة ضحك؟!
فأجابه حبيب: أيّ موضع أحقّ من هذا بالسرور؟!
والله ما هو إلا أن تميل علينا هذه الطغام بسيوفهم فنعانق الحور العين.
وداعب برير عبد الرحمن الأنصاري فاستغرب منه وقال له:
ما هذه ساعة باطل!!
فأجابه برير: لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل كهلًا ولا شابًّا، ولكني مستبشر بما نحن لاقون.
أنا مستبشر بالشهادة التي ألاقيها.
وكلنا نعرف كيف كان العباس ابن أمير المؤمنين وهو مع شديد عطشه كان يفكر في عطش أخيه الحسين وعطش النساء والأطفال.
كما نسمع عن تعامل الجيش الأموي مع أسارى أهل البيت وأنهم كانوا يقدمون لكلّ واحدة من النساء واليتامى والأطفال طعامًا محدودًا، قرصًا من الشعير وشيئًا من الماء، فكانت العقيلة زينب تؤثر الأطفال على نفسها، حتى أصيب جسمها بالضعف.
صحيح أنّ هذه القصص التي تروى تنبئنا عن عظمة هؤلاء الأشخاص وطيبهم وصدقهم، لكن المطلوب منا أن نستفيد من كلّ ذلك درسًا في تعاملنا مع إخوتنا، حين نتعاون في عمل ديني أو اجتماعي، أن نكون حريصين أن تسودنا روح الانسجام والتفاهم والإيثار، روح التسابق نحو العمل والإنجاز، ليكون العمل أقرب وأخلص لله سبحانه وتعالى، وبهذا الخلوص منح الله الإمام الحسين وأصحابه هذه الدرجة العالية، حتى شهد الحسين في حقّهم (لا أعْلَمُ أصْحابًا أوْفَى وَلا خَيْرًا مِنْ أصْحابي).
فأصبحوا قبلة للزائرين، كلّ المؤمنين يتوجهون إلى زيارة الشهداء حينما يزورون الإمام الحسين ، حتى الحرّ بن يزيد الرياحي، مع أنّ مدفنه بعيد عن مدفن الإمام الحسين، لكن الزائرين يحرصون على زيارة قبره، وهذا دليل أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى هؤلاء المقام الكبير.