تنمية روح العطاء
﴿قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً﴾[سورة الإسراء، الآية: 100].
حبّ الإنسان لذاته يجعله حريصًا على حيازة المكاسب والمنافع لها، وهو أمر طبيعي مقبول ومشروع.
أن يسعى الإنسان لجلب المكاسب والمنافع لنفسه، ويحرص على تحصيلها، لكنه يدرك حدود حاجته، في حدها الأدنى والأقصى، يستطيع أن يحدد كم يحتاج من المال والمكاسب المادية المختلفة.
ما زاد على ذلك، ماذا يصنع به؟
على سبيل المثال: هو يحتاج في كلّ سنة مليون ريال، وربما يرفع المبلغ إلى مليون ونصف أو مليوني ريال من باب الاحتياط، فإذا كان لديه ما يزيد عن ذلك، ماذا يصنع بهذا المبلغ الزائد على حاجته وهو يرى إلى جانبه محتاجين لشيء من هذا المال؟
مثال آخر: من يجلس على مائدة طعام، يعرف كم هي الكمية التي يحتاج إلى أكلها، كم هو المقدار الذي يشبعه، فهو ـ بالتأكيد ـ لا يستطيع أن يأكل بلا حدود!
الطعام موجود، لكن كم يستطيع أن يستهلك من هذا الطعام؟!
ماذا يفعل بالزائد عن حاجته؟
إذا كان حوله أُناس جائعون، والطعام أكثر من حاجته، لماذا لا يعطي باقي الطعام للمحتاجين؟!
هنا تبدو الطبيعة الأنانية المفرطة، الأنانية نزعة ذاتية، لكنها في بعض الأحيان تكون مفرطة، هذه الأنانية المفرطة تجعل الإنسان بخيلًا دون مبرر.
تارة يكون الإنسان محتاجًا للمال، وتارة يكون المتوفر لديه أكثر من حاجته بكثير، ما زاد على حاجته الفعلية والمحتملة، لماذا يبخل به؟!
هذا ما عالجته الآية الكريمة، بقوله تعالى: ﴿قُل لو أنتم تَملِكُونَ خَزَآئِنَ رَحمَةِ رَبي﴾ حتى لو أنّ الله أعطاكم كلّ الخزائن التي في الكون، مع ذلك ﴿إذاً لأمسَكتُم خَشيةَ الإنفاقِ﴾ خزائن رحمة الله كلها تحت يده، ومع ذلك يبخل، خوفًا من الفقر ﴿خَشيةَ الإنفاقِ وكانَ الإنسانُ قَتُوراً﴾ الإنسان في طبيعته غير المهذبة، غير الواعية (قتور)، ويقال في اللغة عاشَ عِيشَةَ تَقْتِيرٍ وَشَظَفٍ، أي عِيشَةَ بُخْلٍ وَشُحٍّ، حالة من البخل والحرص.
كيف يُخفّف الإنسان هذه النزعة الأنانية؟
وكيف يتجاوز حالة البخل غير المبرر؟
إنه بحاجة إلى ثلاثة أمور:
أولًا: الالتفات إلى حاجاته الأخروية
من يؤمن بأنّ هناك حياة أخرى، وبأنّ هناك قيامة وبعثًا، يستعد لذلك اليوم وتلك الحياة، فكما أنك توفر احتياجاتك في هذه الحياة الدنيا، من زواج وسكن ومواصلات...إلخ.
كذلك أنت في الدار الآخرة لك احتياجات.
كيف توفر احتياجاتك في الدار الآخرة؟
النصوص الدينية تبيّن أنّ الإنفاق في الدنيا هو ما يوفر لك متطلبات حياتك في الآخرة، هذا المال الذي بيدك لا ينبغي أن تحصره لتوفير احتياجاتك في هذه الدنيا فقط، فلك احتياجات في دار أُخرى، والمشكلة أنك لا تعلم موعد الرحيل إليها، ربما بعد لحظه أو بعد ساعة أو بعد يوم وربما بعد سنة أو سنين!
فعلى الإنسان أن يلتفت إلى هذا الجانب، حتى يعالج حالة الحرص والبخل في نفسه.
ثانيًا: التوجه للمكاسب المعنوية
حاجات الإنسان في الدنيا ليست حاجات مادية فقط، فكما يقال (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان)، هناك جانب معنوي، فكّر في أن يكون لك دور في هذه الحياة، أن يكون لك تأثير في مجتمعك، أن تُبقي لك ذكرًا حسنًا، هذه الأمور إذا توجه لها الإنسان، تحدّ من نزعة البخل والحرص عنده، فينفق على مجالات أخرى، غير حاجاته المادية التي يستهلكها.
ثالثًا: تنمية النزعة الغيرية
على الإنسان أن يجاهد نفسه، ويفكر خارج ذاته، كما هو يريد أن يعيش مرتاحًا، هناك بشر حوله، من حقهم أن يعيشوا مرتاحين، وعليه أن يعرف بأنّ المال الذي جعله الله تحت يديه، لا لكي يتصرف فيه وحده وإنما كما يقول تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾.
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾.
وورد عن علي : «إنَّ اللهَ سُبحانَهُ فَرَضَ في أموالِ الأَغنِياءِ أقواتَ الفُقَراءِ، فَما جاعَ فَقيرٌ إلّا بِما مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ ، وَاللهُ تَعالى سائِلُهُم عَن ذلِكَ»[1] .
هذا المال الذي بيدك ليس لك وحدك، وإنما للمحتاجين والفقراء، وللحاجات العامة نصيب فيه.
سترحل عن هذه الثروات
نحن نرى ونسمع عن أصحاب ثروات وممتلكات تركوها ورحلوا عنها!!
النهاية هي أن يكون الإنسان تحت التراب، في قبر محدود، وهذه حقيقة يعرفها الإنسان، ويراها ماثلة أمامه، سيأخذ هذه الأموال آخرون، قد يكون هؤلاء أحباء لك وقد تكون لا تحبهم.
ينقلون عن مليونير كان يعيش في أمريكا سنة 1919م، لم يرغب أن تنتقل ثروته التي جمعها طيلة حياته إلى أفراد عائلته، لأنه لم يكن يحبّهم!!، لذا نصَّ على شيءٍ غريب في وصيته، أن يُحظر توزيع ثروته إّلا بعد مرور واحد وعشرين عامًا على وفاة آخر حفيد من أحفاده.
في عام 2011م، وحين استوفيت هذه الشروط الغريبة، تقاسم اثنا عشر شخصًا من أحفاد الأحفاد الثروة التي كانت تقدر بـ 100 مليون دولار[] .
لديه أموال، وفي حياته لم ينفقها، ويعلم أنه لن يحتاج إلى هذا المبلغ الضخم، لكنه لا يحب أولاده وأحفاده، ولا يرغب أن يأخذوا من هذا المال شيئًا!!
لماذا لا ينفق الإنسان على أمور الخير والشؤون العامة في المجتمع؟!
أعرف إحدى الحالات بصورة مباشرة، عند تقسيم التركة طلبنا حضور أحد أقارب المتوفى، لاستلام حصته من التركة، فقال: إنني على خلاف مع هذا الرجل، لم أكن أتكلم معه ولا هو يتكلم معي!!
لكن الحكم الشرعي خوّله أخذ حصة كبيرة من تركة ذلك الرجل.
هذه حقائق يراها الإنسان ماثلة أمامه، فلماذا لا يستحضر هذه الحقائق، حتى يتجاوز الحالة الذاتية ويفكر في الغير؟!
رجال محسنون
بالطبع نحن نرى في مجتمعنا رجالًا محسنين ينفقون من ثرواتهم، ويهتمون بالحاجات الاجتماعية، وقد نقلت وسائل الإعلام في الأيام الماضية أنّ رجل أعمال من المملكة تبرع بمليار ريال لإنشاء 75 عيادة ريفية متنقلة في المناطق الفقيرة في عدة بلدان[3] .
كما تبرع رجل أعمال من الإمارات بمليار دولار لتثقيف الشباب العربي[4] .
وبحسب القائمة التي نشرتها «العربية. نت» والتي تضم أكبر عشرة متبرعين ومحسنين في العالم، وهم بالضرورة من بين أثرى أثرياء العالم، فإنَّ العربي الوحيد الذي ظهر اسمه في هذه القائمة هو رجل الأعمال السعودي سليمان بن عبدالعزيز الراجحي، الذي تكشف شركة أبحاث أجنبية أنه قدم تبرعات وأموالًا لدعم أعمال الإحسان في العالم بلغت قيمتها 5.7 مليار دولار حتى الآن[5] .
وهكذا نسمع عن نماذج مشرقة في العمل الخيري الاجتماعي، لكنها تبقى نماذج محدودة.
كيف يمكن أن تكون هذه الحالة هي السائدة في المجتمع؟
بحيث يفكر كلّ إنسان في أن يسهم في بناء ونهضة مجتمعه، في مساعدة المحتاجين، سواء في وطنه أو على مستوى العالم والكرة الأرضية، كما نرى آخرين يبادرون لمثل هذه البرامج والمشاريع العالمية.
في مجتمعنا المحلي توجد حاجات، سواء على مستوى الأفراد، أو على الصّعيد الاجتماعي العام، وهناك خيرات وثروات متوفرة.
ما الذي يمنع هؤلاء الميسورين المتمكنين من العطاء؟!
ما الذي يجعل هؤلاء محرومين من التوفيق لصرف أموالهم فيما ينفعهم، يقول تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾ هم سيستفيدون من هذا الإنفاق، سواء كان في الدنيا حيث يبقي لهم الذكر الحسن، ويصبح المجتمع الذي ينتمون إليه أقوى، ويكونون ذوي تأثير في محيطهم، أو الثواب والأجر في الآخرة.
لدينا أندية رياضية في المنطقة فيها كفاءات عالية، استطاعت أن تحقق بطولات على مستوى العالم، وهي إطار لاستيعاب أبنائنا وشبابنا وحفظهم عن الانفلات والانحراف. كما تنمي طاقاتهم ومواهبهم.
في مختلف المناطق نجد رجال الأعمال الأثرياء يتنافسون على دعم الأندية الرياضية في مناطقهم.
لماذا لا يكون هناك دعم لهذه الأندية الرياضية في المجتمع؟!
البعض قد لا يعجبه مثل هذا المجال، حسنًا هناك مجالات إنسانية يمكن الإسهام فيها.
أعرف مؤسسة إنسانية لتأهيل الأطفال المعاقين في مدينة صفوى، تأسست منذ20سنة، وهي قائمة بالفعل، حدود إمكانياتها الحالية 66طفلًا معاقًا، ولديهم قائمة انتظار بعدد 25طفلًا، لا يستطيعون استقبالهم، أعرف هذه المؤسسة عن قرب، يبحثون عن أرض يقيمون عليها مبنى لهذا المشروع الإنساني، أطفال معوقون يحتاجون إلى رعاية وتأهيل، بل أكثر من ذلك كانوا يحتاجون إلى حافلة حتى ينقلوا الأطفال من بيوتهم إلى المركز، فكنا نعاني حتى نجد من يتبرع بقيمة الحافلة أو من يوفر لهم وسيلة النقل!
لماذا توجد مثل هذه الحاجات في مجتمعنا؟!
ملتقى الصحة النفسية
تأسس بالمحافظة مركز للصحة النفسية، وهي مبادرة مهمة، يحتاج المجتمع إلى وجود مثل هذه المؤسسات؛ لأنّ المشاكل والأمراض النفسية في هذا العصر أصبحت كثيرة، وتحتاج إلى جهات تدرس هذه المشكلات وتضع لها الحلول، وتتواصل مع المصابين بها، وتضع لهم برامج لتجاوز الحالات النفسية التي يعيشونها.
هذه المؤسسة لا تزال تشكو من قلة الموارد وقلة الدعم.
مكتبة عامة
أحد الأدباء وهو من المؤمنين الأخيار صرف عمره في جمع واقتناء الكتب على حساب حاجاته الشخصية وعلى حساب رفاهية عائلته، حتى تجمعت لديه مكتبة فيها آلاف الكتب، صار يفكر كيف يستفيد الناس منها، في قريته لا توجد مكتبة عامة.
أوقف هذه المكتبة الكبيرة الضخمة الثرية بأنواع الكتب، جعلها وقفًا يستفيد منه أبناء البلدة، لكنه يحتاج إلى مكان يستوعب هذه الكتب.
وكم من الحاجات المتعددة في المنطقة، لكن الإنفاق ليس بالمستوى بالمطلوب، ومن ناحية أخرى أنّ أولويات الإنفاق مختلطة عند الناس.
ترتيب سلم الأولويات
توجد في المنطقة ـ ولله الحمد ـ مشاريع وأنشطة دينية واسعة، في كلّ قرية وفي كلّ مدينة لدينا حسينيات ومساجد، وهي في ازدياد وتوسّع، وبطبيعة تفاعل الناس مع الأنشطة الدينية يسهمون بسخاء في مثل هذه المجالات، وهو أمر نحمد الله عليه، ونشكر كلّ من بذل جهودًا في إنشاء الحسينات والمساجد، لكن إلى جانب ذلك نحتاج إلى مشاريع ثقافية وعلمية وإنسانية.
المجتمع بحاجة إلى مكتبات ومتاحف ومراكز لتأهيل المعوقين.
العائلة تعاني من بقاء الطفل السوي في البيت إذا كانت لديه مشاكسات، فكيف بالطفل المعاق؟!
لماذا لا نلتفت إلى هذه الحاجات؟!
إدارة الأموال العامة
تارة يبخل الإنسان بماله الشخصي وهذا أمر مذموم، لكن المشكلة حينما تكون تحت تصرف الإنسان أموال عامة، هو ولي عليها، ومع ذلك يبخل بها، من لديه حقوق شرعية، يستلمها من الناس باعتباره معبرًا لإيصالها إلى مستحقيها وموارد صرفها، لماذا حينما تصل بيديه يتمسك بها ويبخل ويقتر؟! ويضع المبررات والأعذار؟!
المال الشخصي لا يحقّ للإنسان أن يبخل به، فما بالك بالحقوق الشرعية!
وكذلك الأوقاف! كم لدينا من الأوقاف في المنطقة؟!
ثروات هائلة، بعض أصحاب الأوقاف أخبروني أنّ الدخل أكثر بأضعاف من حاجة ما وُقف عليه، أحدهم يقول: لديّ وقف للحسينية، لكن ما أصرفه أقل من 10% من دخل الوقف!
قلت له: والباقي؟!
أجاب: في البنك.
لماذا هذه الأوقاف الهائلة الطائلة لا تتلمس من خلالها حاجات المجتمع؟!
كذلك في الجمعيات الخيرية بعض المسؤولين يقومون بدور كبير جزاهم الله خيرًا، ولكن يحدث بعض الأحيان عندما يأتي الفقير للمسؤول في الجمعية الخيرية يطلب سدّ حاجته، يعيش المعاناة وكأنه ينتزع منه المساعدة انتزاعًا!!
صحيح أنه لا بُدّ من ضوابط ودراسة حالة، لكن في بعض الأحيان تكون هناك مبالغة في الموضوع.
علينا، أيّها الأحبّة، أن نفكر في هذا الأمر وأن نعرف الأولويات، ما نصرفه على الأمور والمسائل الدينية أمر جيّد، لكن إذا كنا نريد الثواب والمنفعة علينا أن نلتفت إلى الحاجات الإنسانية والثقافية والمعرفية أيضًا.
مركز علمي
قبل أيام جاءني مجموعة من الشباب الأكاديميين الواعين لديهم فكرة لتأسيس مركز للعلم في المحافظة، لتشجيع الحالة العلمية في مجال العلوم الطبيعية كالطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء، ولديهم خطة لإنشاء مركز لتنشيط هذا الجانب في المجتمع، لكن المشكلة التي تقف أمامهم هي التمويل.
كيف يجدون مكانًا مناسبًا؟
كيف يوفرون مبلغ الأثاث؟
علينا أن نوسع من آفاق التفكير في مجالات البذل والعطاء، ونرتب الأولويات، لتشمل مناطق الفراغ والحاجات الماسة في المجتمع.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوسع على الجميع من فضله، وأن يزيد ثروات وأموال جميع أبناء المجتمع، ونسأله تعالى أن يوفقنا جميعًا للبذل والعطاء، وأن يوفقنا لترشيد حالات البذل، وتلمس الأولويات حتى نتجه إليها.