الموروث التاريخي بين النقد والتسليم
﴿سَيَقولونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُم كَلبُهُم وَيَقولونَ خَمسَةٌ سادِسُهُم كَلبُهُم رَجمًا بِالغَيبِ وَيَقولونَ سَبعَةٌ وَثامِنُهُم كَلبُهُم قُل رَبّي أَعلَمُ بِعِدَّتِهِم ما يَعلَمُهُم إِلّا قَليلٌ فَلا تُمارِ فيهِم إِلّا مِراءً ظاهِرًا وَلا تَستَفتِ فيهِم مِنهُم أَحَدًا﴾[سورة الكهف، الآية: 22].
في حديث القرآن الكريم عن قصص الأنبياء والأولياء وأحداث التاريخ، يركز على مواقع الاعتبار والاستفادة من دروس تلك القصص والأحداث، ولا يسترسل في بيان جزئيات وتفاصيل الوقائع التاريخية والسير الشخصية.
القرآن الكريم تحدث عن عدد من الأنبياء، وحديثه كان عن مواقع العبرة في سيرهم، ولم يتحدث عن تفاصيل أو جزئيات أحداث حياتهم، وكذلك في حديثه عن بقية الوقائع التاريخية، كما في قصة أهل الكهف.
لماذا يوجز القرآن سرد القصة، ولا يذكر تفاصيل الأحداث؟
القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ حتى يهتم بالجزئيات والتفاصيل، إنه كتاب هداية، ومنبع رؤى وتوجيه، لذلك يأخذ من التاريخ ما يخدم وظيفته وهدفه، أما التفاصيل الجانبية حول حياة الأنبياء والوقائع التاريخية فهي ليست مهمة لخدمة الهدف من ذكر القصة في القرآن، يقول الله تعالى: ﴿لَقَد كانَ في قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِأُولِي الأَلبابِ﴾[سورة يوسف، الآية: 111].
الهدف من القصص هو تقديم العبرة للناس، ويقول تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيكَ مِن أَنباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ في هذِهِ الحَقُّ وَمَوعِظَةٌ وَذِكرى لِلمُؤمِنينَ﴾ [سورة هود، الآية: 120].
لكن طبيعة الفضول المعرفي عند الإنسان تدفعه للبحث عن التفاصيل، يتشوق لمعرفة أحداث القصة، وهو أمر مشروع، وبإمكانه أن يبحث عبر الآثار والوثائق، إذا كان الأمر يهمه، فكلّ المجتمعات فيها باحثون في مجال التاريخ عبر مختلف وسائل البحث، وقد تكون فيه فوائد متعددة، لكن لا ينبغي أن يكون الاهتمام بالتفاصيل على حساب الحقيقة الأساسية في تلك القصة، صارفًا عن التركيز على الهدف الأساس وهو العبرة و القدوة، وألّا يصبح الجدل حول التفاصيل سببًا للنزاع والخلاف، وإنما توخّ للحصول على المعلومة الأدق، وهذا ما يمكن استنتاجه من الآية الكريمة في سياق قصة أصحاب الكهف، التي أرادت إبراز قيمة تجاوز الإنسان لتأثير أجواء الفساد والانحراف السائد في المجتمع، وفراره بدينه ومبدئه، لكن هناك من يشغل ذهنه بالبحث عن أسماء أصحاب الكهف وعن أعمارهم وعددهم.
تفاصيل تشغل عن الهدف
في بعض الأحيان، ينشغل الإنسان بالتفاصيل وينصرف عن الدرس والرسالة المقصودة من القصة!
حين تنصح شخصًا وتحذّره من استخدام العنف مع أبنائه، وتستشهد في نصيحتك بما حدث لأحد الآباء حين استخدم العنف مع أبنائه، وتذكر النتيجة السيئة لذلك، من فقد السيطرة على الأبناء وانحرافهم، أنت تريد أن تبلغه رسالة حتى يأخذ عبرة، وهو ينشغل بسؤالك عن تفاصيل ما حدث لذلك الأب وأبنائه، وما هي نهاية القصة!!
القرآن الكريم حينما يتحدث عن قصص الأنبياء بهذا المنهج، إنما يهدف لأخذ العبرة من هذه القصص، وكأنه يقول لنا إنّ التفاصيل أشياء ثانوية لا تنشغلوا بها عن الهدف الأساس، ولا ينبغي أن يحدث بينكم نزاع حول تفاصيل القصة.
يذكر القرآن الكريم مثلًا قصة نبي الله نوح ، وقصة نبي الله لوط ، مع زوجتيهما حتى نأخذ العبرة من ذلك، فحين نناقش ونختلف حول اسم زوجته!!، ومن أيّ قبيلة؟ هذا انحراف عن الهدف الأساس لذكر القصة!
فتتحول القصة العبرة إلى سبب للاختلاف والنزاع، وهذا ما لا يريد القرآن أن ينشغل به مجتمع المتدينين.
لذلك تلاحظ قصة أصحاب الكهف، قصة لها رسالة، أنّ الإنسان إذا عاش في مجتمع يسوده الانحراف والفساد، فلا يصح له أن يذوب في ذلك المجتمع، وإنّما يفر بدينه ومبادئه خارج هيمنة ذلك المجتمع، فأصحاب الكهف ﴿فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ﴾ وسط مجتمع مشرك منحرف، يسوده الفساد والظلم، وأرادوا أن يحموا أنفسهم من هذه الأجواء، فلجؤوا إلى الكهف، هذه رسالة القصة.
البعض انشغل عن هدف القصة وأخذ يتساءل: كم عددهم؟! ما هي أسماؤهم؟! ما اسم الكلب الذي كان معهم؟! وما لونه ؟!
هذه تفاصيل ليست لها أهمية، لذلك يخبر الله تعالى نبيّه أنّ الناس سينصرفون عن الهدف الأساس للقصة، ويختلفون حول عدد أصحاب الكهف ﴿سَيَقولونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُم كَلبُهُم﴾ ومجموعة أخرى ﴿وَيَقولونَ خَمسَةٌ سادِسُهُم كَلبُهُم رَجمًا بِالغَيبِ﴾ ومجموعة ثالثة ﴿وَيَقولونَ سَبعَةٌ وَثامِنُهُم كَلبُهُم﴾، ويوجه الله تعالى نبيّه بعدم الدخول في مثل هذه الجدليات غير المفيدة ﴿فَلا تُمارِ فيهِم إِلّا مِراءً ظاهِرًا وَلا تَستَفتِ فيهِم مِنهُم أَحَدًا﴾، أي لا تدخل في مثل هذا النقاش، إلّا بأسلوب يوقف الجدال.
هذه الآية تعطينا منهجًا في بحث قضايا التاريخ، هو استجلاء مواقع العبرة، والتعرف على الرسالة والدرس، وعدم الانشغال بالتفاصيل.
التاريخ ليس جزءًا من الدين
يمكن للإنسان من أجل مزيد من المعرفة أن يبحث، لكن أحداث التاريخ ليست جزءًا من الدين والعقيدة، من الناحية الشرعية أنت لا تُسأل أمام الله عن تفاصيل أحداث التاريخ، مطلوب منك كمسلم أن تقر بنبوة النبي محمد ، ومطلوب منك كشيعي أن تقرّ بإمامة الأئمة الطاهرين .
لكن هل مطلوب منك أن تعرف تفاصيل حياة النبي والأئمة؟!
هل يجب أن تعرف تاريخ الولادة والوفاة وكيفيتها؟!
لا أحد من المسلمين يقول بوجوب معرفة تفاصيل سيرة رسول الله ، ولا أحد من علماء الشيعة يقول بوجوب معرفة تفاصيل حياة الأئمة . فهي ليست جزءًا من العقيدة، وليس مطلوبًا منك أن تعرفها.
نعم، إذا كان لديك مجال للبحث لمزيد من المعرفة، فذاك أمر حسن، ومعرفة التاريخ فيه فوائد إضافية، لكن إذا بحثت ليكن بحثك موضوعيًّا منهجيًّا، انطلاقًا من الآية الكريمة ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾[سورة الإسراء، الآية: 36].
إذا أردت أن تأخذ برأي، ليكن ذلك بمنهج علمي، وعن طريق أدلة وبراهين ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾.
من جهة أخرى، إذا كان هناك نصٌّ ثابتٌ عن المعصوم بحيث يكون إنكارك لذلك الحدث تكذيبًا لرسول الله أو تكذيبًا للمعصوم فهذا لا يجوز، أما إذا لم تكن المسألة نصًّا ثابتًا عن المعصوم، فهي محلّ بحث ونقاش وإثبات ورد.
وأما تفاصيل الأحداث والوقائع، كتاريخ ولادة الإمام ووفاته وكيفية الوفاة، أو الأحداث التي وقعت في كربلاء، وما جرى على العباس بن علي والسيدة زينب ، وكيف كان وضعها في السبي، فهي أمور متروكة للبحث، ومن يصل فيها إلى قناعة يأخذ بها، لكن الإنسان غير مكلف ببحث هذه المسائل، ولا يجب الاعتقاد بهذه التفاصيل، فمن اقتنع بشيءٍ منها فله ذلك، ومن لم يقتنع فلا حرج عليه.
الاختلاف حول الأحداث التاريخية
من الطبيعي أن يحصل اختلاف حول تفاصيل الأحداث التاريخية، وذلك لعدة عوامل:
أولًا: ضعف الاهتمام بكتابة التاريخ وتوثيقه
لم يكن هناك اهتمام بتدوين التاريخ، فهذه الكتب والروايات التاريخية المنقولة عن الأحداث، معظمها ـ إن لم يكن كلها ـ كُتِبت بعد عقود أو قرون من وقوع تلك الأحداث.
ليس لدى المسلمين شيء أعظم من سيرة رسول الله ، وأول تدوين لها هو (سيرة محمد بن إسحاق) المتوفى سنة (150 هجرية)، أي بعد وفاة النبي بمئة وأربعين سنة، وهذا الكتاب غير موجود بين أيدينا.
أما أقدم كتاب متوفر عن السيرة النبوية فهو (سيرة ابن هشام) نقلًا عن (سيرة ابن إسحاق)، فقد اطَّلع المؤرخ ابن هشام ـ المتوفى سنة 208ه ـ على سيرة ابن إسحاق عبر بعض الرواة، ونقل منها ما يتناسب مع الظروف السياسية الاجتماعية، كما يذكر في مقدمة كتابه، أنه حذف منها أشياء؛ لأنه يسوء بعض الناس ذكرها[1] .
وهكذا نجد أنّ كثيرًا من الأحداث والوقائع التاريخية لم تدوّن، فلم يكن عند العرب اهتمام بالتدوين.
ونرى اليوم أنّ عددًا كبيرًا من المواطنين في المملكة العربية السعودية، لا يعلمون تاريخ ميلادهم في أي يوم من السنة بالتحديد، وقد تعارفت إدارة الأحوال المدنية على تسجيل ولادة من يجهل تاريخ يوم ولادته باليوم الأول من شهر رجب (1/7)؛ لكونه منتصف العام، وهذا ينطبق على أكثر من ولد قبل 50 سنة من الآن.
وكان الناس يؤرخون بالأحداث المشهورة في بعض السنوات، فيقولون: حدث ذلك سنة حدوث الكارثة الفلانية، أو تولي الملك الفلاني.
والأحداث عادة ما تُتناقل شفهيًّا، وإلى الآن نجد ضعفًا في تدوين أحداث التاريخ القريب، فكيف بقضايا حدثت قبل ألف وأربع مائة سنة، فهل نتوقع أن تصلنا بدقة؟!
من الطبيعي أن يدخل فيها التغيير والتبديل، وتطرأ عليها الإضافات، أو تنقص منها بعض التفاصيل.
ثانيًا: ضياع كثير من الوثائق والمصادر
لقد فقد العالم العربي والإسلامي الكثير من الكتب والوثائق والمصادر، وتعرضت للإحراق والإتلاف المتعمد، أثناء الحروب الخارجية، أو المواجهات الداخلية بين المسلمين.
ولعلّ من أشهر حوادث إحراق الكتب والمكتبات (إحراق مكتبة الحكمة في بغداد التي أسسها هارون الرشيد ورعاها ابنه المأمون. وتم تدمير المكتبة على أيدي المغول عند اجتياحهم بغداد، إذ ألقوا بجميع محتوياتها وأكثر من 300 ألف كتاب في نهر دجلة، حتى حوّله مداد الكتب إلى اللون الأسود، هذا إلى جانب ستة وثلاثين مكتبة عامة أخرى ببغداد تم إغراقها.
وفي مصر أحرقت مكتبة دار العلم التي أنشأها الخليفة العزيز بالله الفاطمي في قصره في القاهرة حتى بنى لها ابنه الحاكم بأمر الله مبنى خاصًّا بجوار القصر، وتحتوي المكتبة على ثلاثة ملايين ومئتي مجلد، وشهدت مصر مجاعة كبيرة منعت الخليفة آنذاك من دفع رواتب الجنود الأتراك والسودانيين، ما دفعهم إلى الهجوم على المكتبة فنزعوا أوراقها واتخذوا من جلودها أحذية، ليتم تدمير بقية المكتبة في عهد صلاح الدين الأيوبي، فتم توزيع الكتب على رجال الدولة، وتجار الكتب، وكان هناك يومان من كلّ أسبوع لبيع الكتب الذي استمر عشر سنوات ليقضي على خزائن ممتلكات الفاطميين.
ومن حوادث إحراق الكتب في سورية، إحراق المكتبة السورية التي حوت ثلاثة ملايين كتاب على أيدي الصليبيين في القرن العاشر الميلادي، وكان للمكتبة أكثر من مئة وثمانين ناسخًا يتناوبون على العمل فيها ليلًا ونهارًا)[2] .
ثالثًا: طروء حالات النسيان والاشتباه
النسيان والاشتباه طبيعة بشرية، فمن الطبيعي أن تُنسى كثير من الأحداث أو تفاصيلها، ونحن نرى ونعايش مثل هذه الحالة في حياتنا، فقد تسافر مع صديق إلى إحدى البلدان، وبعد مرور بضع سنوات تُذكره ببعض الحكايات والذكريات، فتراه نسي بعضها.
وهكذا الرواة الذين نقلوا لنا أحداث التاريخ يعرض لهم النسيان والاشتباه، فهم بشر مثلنا.
رابعًا: تدخل الأغراض المصلحية والأيديولوجية في كتابة التاريخ
وهو العامل الأخطر، فالذي يكتب التاريخ، ينقل ما يخدم مذهبه وتوجهه وجماعته، ويتجنب ما يتعارض مع مصالحه، فإذا كانت هناك أحداث تظهر نقاط ضعف لدى جماعته لا يكتبها، أو إذا رأى أنّ نقل حدثٍ معيّن يغضب السلطات الحاكمة يتجنب كتابته، وفي بعض الأحيان تحدث زيادات وإضافات مختلقة ومصطنعة.
لكلّ ذلك من الطبيعي أن يكون التاريخ والموروث التاريخي يتضمن هذا الخليط من القصص والحكايات.
فمثلًا حين يكتب ابن إسحاق السيرة النبوية بأمر من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، كما ذكر الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد[3] ، فإنّ من الطبيعي أن تكون كتابته متأثرة برغبات وتوجهات السلطة التي أمرته بالتدوين، خاصة وأن السلطة العباسية كانت تعيش صراعًا مع الأمويين والعلويين.
تطور فرص البحث
في هذا العصر تتوفر أمامنا فرص أكبر من العصور الماضية، من أجل إعادة البحث في الموروث التاريخي، ويمكننا أن نعيد قراءة ما بأيدينا من هذا الكم الهائل، الذي يحتاج إلى إعادة بحث وتحقيق، ويساعد على ذلك عدة عوامل:
تطور مناهج البحث العلمي.
توفر المصادر، فقد طبعت كثير من الكتب التي كانت مخطوطة.
سهولة الحصول على المعلومة، فكثير من المخطوطات أصبحت في المتناول، عبر التواصل مع مكتبات العالم.
تراكم الخبرة والتجربة عند بني البشر في بحث التاريخ.
فيفترض أن تكون الفرصة متاحة أمام نقد الموروث التاريخي، والبحث في قضايا التاريخ.
لكن هناك مشكلتين أمام البحث التاريخي:
الأولى: الانحياز للتوجهات والانتماءات
في كثير من الأحيان، يميل الباحث إلى انتماء أو توجه، وتؤثر عليه العاطفة أو الانحياز، وهذه مشكلة تجعل البحث خارج جادة الموضوعية.
الثانية: عدم توفر حرية البحث العلمي
لا زالت مجتمعاتنا تعاني من وجود قوى تُرهب من يسعى أو يفكر في مراجعة الموروث التاريخي، هناك قوى تعتبر نفسها وصية على الدين والمذهب، فلا تتيح لأيّ باحث أن يحقق فيصل إلى نتيجة تخالف ما تراه هذه القوى.
الموضوعية تقتضي مناقشة رأي الباحث، فقد يصح وقد يخطئ، ولا نقول أنّ كلّ رأي جديد فهو صحيح، وأنّ النقد يطلب للنقد، لكن ينبغي أن يفسح المجال أمام الباحثين، ليمارسوا دورهم في البحث العلمي، وليعلنوا رأيهم الذي يتوصلون اليه، مع إتاحة الفرصة لمناقشتهم والردّ عليهم ضمن إطار البحث العلمي.
لماذا يوجد إرهاب فكري؟!
لماذا يجرّم البحث في تفاصيل أحداث التاريخ، أو في حياة أيّ نبي أو إمام أو ولي من الأولياء؟!
هذا خلاف ما عهدناه في منهج علمائنا، فقد اختلفوا حول تواريخ الأنبياء والأئمة كلّهم، بدءًا من نبي الله أبينا آدم، وأولاده، حيث ناقش العلماء ـ مثلًا ـ كيف تزاوج أبناء آدم؟، وكيف حدث التناسل بينهم؟
بعض العلماء يرون أنّ كلّ أخٍ تزوج إحدى أخواته، وبعضهم يرى أنهم تزوجوا حورًا من الجنة، والبعض من العلماء يرى أنهم تزوجوا من جنيات، وبعضهم يقول من بقايا النسل البشري السابق، كما في الرواية (قد خَلقَ اللهُ ألْفَ ألفِ آدمَ)[4] .
وكذلك الحال في سيرة نبينا محمد ، هناك اختلاف حول ولادته، وهل للنبي بنات من خديجة غير فاطمة الزهراء ؟
رقية وأم كلثوم وزينب هل هنَّ بنات النبي أم ربائبه؟!
هناك نقاش بين العلماء، إلى كثير من التفاصيل، وهذا لا ضير فيه.
المشكلة أنّ هناك أناسًا ضيقي الأفق، يريدون البقاء على السائد والموروث من حكايات التاريخ، مع أنها لا ترتبط بالعقيدة.
إذا جاء باحث وتفرغ للبحث ووصل إلى نتائج معينة، علينا أن نناقشه في آرائه، أما المنع أو اعتبار أنّ مجرد البحث في الموروث التاريخي يضعف المذهب، فهذا خطأ فادح؛ لأنه يمنع من الوصول إلى الحقائق، ويصادر حق البحث وإبداء الرأي.
المذهب القوي لا يضعفه البحث، والعقيدة الصحيحة لا يضيرها النقاش وطرح مختلف الآراء، والقول بأنّ مناقشة بعض الأحداث والحكايات التاريخية يزعزع العقيدة في النفوس، رأي غير صحيح، بل هو إرهاب فكري، وممارسة للوصاية على أفكار الناس، وتجاوز لأخلاقيات التعامل داخل مجتمع المؤمنين.
والمؤسف في الأمر حين تصل الحالة إلى اتّهام النّوايا والتشهير بالأشخاص، والتشكيك في أديانهم، والنيل منهم، والتعدي عليهم، لا لشيء، إلّا لأنهم ناقشوا حادثة تاريخية!!
يتم التهويل والتضخيم، وكأنّ هذه الحادثة هي أساس وأصل المذهب!!
إنّ المجتمع ـ بما يمتلك من وعي ـ يدرك طبيعة هذه المحاولات، وبعدها عن روح الدين وسلوك التدين، كما أنّ انتشار العلم والمعرفة مكنت شباب اليوم من التعرف على أدوات البحث، وبدؤوا يطرحون تساؤلاتهم بكلّ ثقة وجرأة.
علينا أن نشجع الباحثين ونقدّر جهودهم في مجال التاريخ كما في سائر المجالات، وفي الوقت ذاته نناقش أبحاثهم ونبين ما يظهر لنا من مواطن الضعف والخطأ.
على العلماء المتخصصين المهتمين بالدفاع عن العقيدة والمذهب أن يظهروا علمهم بالنقاش العلمي، وليس عبر الاتهام أو التشكيك، فمن يمارس هذا الأسلوب إنما يثبت ضعف حجته وعدم التزامه بأخلاق الدين وقيمه.
إنّ الورع يحجب الإنسان عن انتهاك حرمات الناس والتعدي على حقوقهم المعنوية.
مطلوب منا أن نؤمن بمعرفة وعلم، وليس بتقليد أعمى وبدون تفكير، فهذا ليس منهج الدين.