الأسرة ومواجهة الضغوط الاقتصادية
﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾[سورة الطلاق، الآية: 7].
لا شك أنّ استقرار الأسرة وانسجامها الداخلي عامل أساس في تحقيق السعادة، فالإنسان الذي يعيش ضمن أسرة مستقرة منسجمة يكون أقرب إلى السعادة، حيث تتوفر له أجواء السكينة والاطمئنان والإشباع العاطفي، فيكون أقدر على الإنتاج والتفاعل مع الحياة، أما إذا كان الإنسان يعيش في أسرة مضطربة، تعيش مشاكل وتوترات داخلية، فسيكون ذلك مبعثًا للقلق وحصول مختلف الأمراض والعقد النفسية، مما يؤثر على سلوك الإنسان وإنتاجه وتعامله مع الحياة، وكذلك يجري الأمر على الصعيد الاجتماعي، فإنّ الاستقرار الأسري يُحصّن الأمن الاجتماعي؛ لأنّ الاضطراب والتفكك الأسري قد يدفع أفراد الأسرة إلى مهاوي الانحراف والإجرام والفساد.
وتشير الإحصاءات والتقارير إلى أنّ نسبة كبيرة من المتورطين في الجرائم والانحرافات الأخلاقية، ينتمون إلى أسرٍ تعاني من التفكك والاضطراب، فلا تقدّم لأفرادها الرعاية والتربية.
أثر اليسر المالي
من العوامل الأساس في تحقيق الاستقرار الأسري اليسر المالي، بحيث تتوفر مستلزمات الحياة لأفراد الأسرة ضمن العرف والظرف السائد في المجتمع، وعلى العكس من ذلك إذا كانت الأسرة تعاني ضغوطًا اقتصادية، حيث تحصل توترات واضطرابات داخل الأسرة، فالزوجة التي لا يوفر لها الزوج متطلبات الحياة لا ترى نفسها تعيش في مستوى قريناتها، وقد تتأثر بهذه الحالة، وكذلك الأبناء الذين لا تتوفر لهم النفقات ومستلزمات الحياة مثل أقرانهم، لن يكون وضعهم العائلي وعلاقتهم مع أسرهم علاقة مستقرة.
إنّ نسبة كبيرة من المشاكل العائلية التي قد تؤدي إلى انهيار الأسرة، هي بسبب العامل الاقتصادي، كما أنّ الحاجة المالية قد تدفع بعض أفراد الأسرة إلى الانحراف والإجرام، بحثًا عن المال وتوفير مستلزمات الحياة، لذلك أوجب الله تعالى على الإنسان أن يتحمل مسؤولية الإنفاق على أسرته، حيث يذكر الفقهاء وجوب الإنفاق على الزوجة والأولاد والوالدين، وتأمين مستلزمات الحياة وفق المتعارف في بيئتهم ومجتمعهم، كما يجب السعي للاكتساب من أجل توفير نفقات الأسرة، فلا يصح للإنسان أن يقتّر على عائلته ما دام قادرًا على الكسب.
لماذا تعيش عائلتك في ضغط اقتصادي؟!
لماذا لا تتوفر مستلزمات الحياة لعائلتك؟!
إذا كان دخلك الشهري محدودًا عليك أن تبحث عن عمل إضافي.
البعض يصيبه الكسل فيكتفي بعمل محدود!!
نحن نرى كيف أنّ الناس في البلدان الأخرى يكدحون، يعمل الواحد منهم في أكثر من عمل حتى يوفر موارد مالية كافية لأسرته، وهذا هو الصحيح، فما دام الإنسان قادرًا على العمل، لماذا تعيش عائلته ضمن وضع محدود ؟!
توفير الحياة الكريمة للأسرة
عليك أن تتعب من أجل توفير حياة كريمة لأسرتك، ورد عن الإمام زين العابدين 
أنه قال: «أَرْضَاكُمْ عِنْدَ اللهِ أَسْبَغُكُمْ عَلَى عِيَالِهِ»[1] ، رضا الله تعالى لا يقتصر على الأمور العبادية!
وكلما استطعت أن توسّع على عيالك فأنت أقرب إلى رضا الله سبحانه.
ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا أنه قال: «صاحِبُ النِّعمَةِ يَجِبُ عَلَيهِ التَّوسِعَةُ عَلى عِيالِهِ»[2] أحد المفسّرين تأمل في الآية الكريمة ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ أي ما دام عنده مال عليه أن ينفق ولا يقتر على عياله، ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ أي إذا كان محدود الدخل﴿فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللهُ﴾ أي مما آتاه الله من قوة، وهذا يعني أن يجتهد ويكدح، فلا يكتفي بدخل محدود، ورد عن رسولِ اللهِ 
أنه قال: «إنَّ اللهَ تَعالى يُحِبُّ أن يَرى عَبدَهُ تَعِبًا في طَلَبِ الحَلالِ»[3] .
قد يقول بعض من الناس: لماذا أتعب نفسي؟!
الله يريدك أن تتعب نفسك في طلب الحلال، فقد ورد عنه : «الكادُّ عَلى عِيالِهِ مِن حَلالٍ كَالمُجاهِدِ في سَبيلِ اللهِ»[4] .
إذا توفر لديك الوقت والقدرة عليك أن تعمل، وتجتهد، فلا تدع الوقت يمضي فيما لا ينفع، روي عن الإمام الصادق أنه رأى أحد أصحابه جالسًا عنده في المجلس، فسأله: «يَا مُعَاذُ، أَضَعُفْتَ عَنِ التِّجَارَةِ، أَوْ زَهِدْتَ فِيهَا؟ ».
قال: مَا ضَعُفْتُ عَنْهَا، وَلَا زَهِدْتُ فِيهَا.
قَالَ : «فَمَا لَكَ؟».
قال: عِنْدِي مَالٌ كَثِيرٌ وَهُوَ فِي يَدِي، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيَّ شَيْءٌ، وَلَا أَرَانِي آكُلُهُ حَتّى أَمُوتَ.
فَقَالَ : «لَا تَتْرُكْهَا؛ فَإِنَّ تَرْكَهَا مَذْهَبَةٌ لِلْعَقْلِ»[5] ، وفي رواية أخرى أنه قال له: «اُغْدُ إلى عِزِّكَ»[6] ، يعني السوق.
فالإمام يرجح العمل والكدح على الجلوس في مجلسه.
ومع الظروف الاقتصادية الجديدة، لا بُدّ وأن نحذر من انعكاساتها على استقرار الأسر، فقد تكون لها ارتدادات لا تبرز في الشهور الأولى، لكن مع مرور الوقت ـ إن لم نكن يقظين ـ ستكون هناك ارتدادات على أوضاع الأسر، حين لا يجتهد الإنسان في توفير المزيد من الدخل.
نلاحظ أنّ أسعار السلع ترتفع والامتيازات في الوظائف تقلّ، وهذا يعني ضرورة التعامل بحكمة وجد، وذلك عبر:
البحث عن دخل إضافي.
تطوير إدارة الأسرة للشأن الاقتصادي.
رسم الخطط الاقتصادية لنفقات ومصروفات الأسرة.
ثقافة حسن التدبير
وبصورة عامة يحتاج الناس إلى ثقافة حسن التدبير، وإعادة النظر في طريقة الصرف والإنفاق والاهتمام بالأولويات.
نحن نلاحظ أنّ الناس ما زالوا على الطريقة المعتادة المألوفة، لم يغيّروا من عادات الصرف والمشتريات!!
حينما تحصل الأزمات المالية والصعوبات الاقتصادية لا بُدّ من وجود فهم وتفاهم داخل الأسرة، بحيث يجلس ربّ الأسرة مع عائلته، ويتحدث لهم عن ضرورة التعامل مع المستجدات الاقتصادية، والجميع مهيأ لمثل هذا الحديث، فالأخبار تصلهم عبر مختلف الوسائل، والمطلوب هو تحويل هذه المعلومات إلى رؤية وسلوك، حتى لا تحصل ارتدادات سلبية.
إذا لم تتفهم الزوجة ظروف زوجها ومارست الضغوط عليه، كي تعيش كما كانت في الماضي، من الصرف على الكماليات والهدايا والسفر والتسوق، فإنّ ذلك يشكل أرضية لخلق المشاكل، وقد تدخل زوجها في مأزق نفسي حرج، خصوصًا إذا كان لديه شعور إنساني مرهف.
لاجئ يضرم النار في جسمه
تحدثت وكالات الأنباء عن لاجئ سوري عمره 43 سنة، لديه أربعة أطفال في شمال لبنان في طرابلس، أضرم النار في جسمه، أمام مركز تابع للأمم المتحدة، وذلك على أثر تقليص وكالة غوث اللاجئين مساعداتها، فقد قطعت المساعدات عن عشرين ألف عائلة، وقد أصيب بحروق بلغت 35 في المئة من جسمه[7] !!
الأسر المنتجة
في مواجهة الظروف الاقتصادية المستجدة برزت الحاجة إلى تشجيع ودعم فكرة (الأسر المنتجة) التي يسعى كلّ أفرادها للمشاركة في الإنتاج وتوفير دخل إضافي.
هناك أسر منتجة تعمل وتسوق البضائع في مختلف المجالات، سواء الملابس وما يرتبط بالخياطة، أو إعداد الطعام والحلويات، بل وحتى الأعمال الإلكترونية المختلفة، لقد أصبح العمل من البيت فرصة مناسبة لزيادة الدخل، ينبغي أن نشجع عوائلنا عليه.
مشاركة المرأة الموظفة
هناك نساء موظفات لهنّ دخل شهري، يمكن لهنّ المشاركة في الصرف على شؤون المنزل، وهي مشاركة مستحبة غير واجبة، لكنها ستسهم في تخفيف الأعباء عن ربّ الأسرة، وتوفر أسباب الراحة والسعادة لأبنائها وزوجها، وفي ذلك مصلحة للجميع، بالطبع ليس للزوج حق التصرف في مال زوجته إلّا بإذنها، لكن بعض النساء لا ترى نفسها معنية بالمشاركة، وتصرف مالها على الكماليات والأمور الثانوية!!
على الزوجة أن تعتبر نفسها شريكة مع الزوج في تحمل المسؤولية، ما دامت قادرة على الإنتاج وتوفير الدخل.
دور أثرياء المجتمع
التجار والأثرياء، ورجال الأعمال، عليهم أن يقفوا مع محدودي الدخل في مجتمعهم، من يتمكن من التخفيف عن الناس، ويقلل مقدار الربح في تجارته مساعدةً لمجتمعه فلن يخسر، وهذا التاجر الذي يقول (خلّي الضريبة علينا) أي ضريبة القيمة المُضافة لا يخسر، بل يربح ويتوسع في تجارته، وسيكون الإقبال عليه أكثر، كما أنّ الله تعالى يبارك له ويوسّع عليه، ما دام يعمل للتوسعة على الناس.
والمؤسف أنّ بعض أصحاب العقار يستغلّ ارتفاع الأسعار، ويطالب المستأجرين بزيادة الإيجارات!!
في الوقت الذي يتوقع الناس منه أن يقف مع مجتمعه ويخفف الأعباء عنهم.
مبادرة سامح تؤجر
هناك مبادرة إنسانية جميلة تتحدث عنها الأخبار في غزّة، أطلق عليها (سامح تؤجر) تدعو إلى تخفيض الإيجارات، وقد أعلنت مجموعة من التجار وأصحاب المحلات إسقاط الديون عن كلّ المطلوبين بديون من قبلهم.
أعرف أحد المؤمنين الأخيار (رحمه الله) كان لديه محل للأجهزة الكهربائية المنزلية، في إحدى السنوات شطب كلّ الديون المسجلة على الناس، ومثل هذا العمل لا يقلّ ثوابًا عن بناء المساجد والحسينيات أو الذهاب إلى الحج والزيارة، ورد في حديث عن رسول الله : «خَصْلَتَانِ لَيسَ فَوْقَهُمَا مِنَ الْبِرِّ شَيءٌ: الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالنَّفْعُ لِعِبَادِ اللَّهِ»[8] ، وفي حديث آخر عنه : «مَنْ نَفَّسَ عَنْ أخيهِ المؤمِنِ كُربَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنهُ سَبعينَ كُربَةً مِن كُرَبِ الآخِرَةِ»[9] .
ففي نفع الناس ثواب عظيم، إضافة إلى النتائج الفعلية التي يجدها الإنسان في حياته، حيث يدفع الله عنه البلاء والأسواء والمكاره.
من موارد الصدقة
يعيش البعض حالة من التشدد في دفع الصدقة، ويظنّ أنّ مستحق الصدقة هو ذلك الفقير المدقع الجائع فقط!!
بينما النظرة الدينية أشمل وأرقى من ذلك، فهي تراعي الحالة الاجتماعية العامة، كي يعيش الإنسان في مستوى أبناء زمانه ومجتمعه، فحتى لو كان الإنسان يعمل وله مصدر دخل، لكنه لا يتمكن من توفير احتياجات عائلته، فهو مستحق للدعم والمساعدة.
فعلى العاملين في مجال الجمعيات الخيرية، أو من بيدهم حقوق شرعية، أن يعيدوا النظر في التعامل مع الحالات التي تقدم لهم.
نحن نقرأ في سيرة أئمتنا أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، ونسمعها كفضائل يذكرها الخطباء، فالإمام يأتيه السائل فيقول أعطوه سبعين ألفًا .. خمسين ألفًا .. أعطوه ثلاثين ألفاً!!
وذلك من أجل أن يرفع مستوى السائل إلى الحالة العامة التي يعيشها المجتمع، ولا يرى نفسه أقلّ من الآخرين.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوسّع علينا وعليكم وعلى الجميع من واسع رزقه، وأن يوفّقنا وإيّاكم للعطاء والإنفاق والبذل في سبيله.
