الميزان في توقعاتك من الآخرين
عَنْ أَبِي عَبْدِ الله قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ : رَحِمَ اللهُ مَنْ أَعَانَ وَلَدَهُ عَلى بِرِّهِ»، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ يُعِينُهُ عَلى بِرِّهِ؟ قَالَ: «يَقْبَلُ مَيْسُورَهُ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ مَعْسُورِهِ، وَلا يُرْهِقُهُ، وَلَا يَخْرقُ بِهِ»[1] .
في علاقة الإنسان وتعامله مع المحيطين به، تكون له رغبات وطلبات يتوقع منهم تحقيقها وتنفيذها كما يريد، فإذا لم يستجب أحد منهم لشيء من طلباته، أو لم يكن وفق توقعاته، فإنّ ذلك يسبب له انزعاجًا، قد يؤثر على علاقته بالطرف الآخر.
شخص يتوقع من ولده عملًا ما، فإذا لم يقم به ينزعج وتتوتر علاقته مع ولده، وكذلك في العلاقة مع الزوجة أو الأصدقاء والزملاء.
يمكن للإنسان أن يتلافى كثيرًا من المشكلات في علاقاته مع من حوله، إذا اعتمد ميزانًا في طلباته وتوقعاته منهم.
ماذا تطلب ممن حولك، وماذا تتوقع منهم؟
ينبغي أن يكون لك ميزان ومعيار في هذه التوقعات والطلبات، ويمكن تصنيف طلبات الإنسان ممن حوله على ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: عمل سهل يكون القيام به ميسورًا على الطرف الآخر.
المستوى الثاني: عمل فيه مشقة وعسر، جسميًّا أو نفسيًّا، ماديًّا أو معنويًّا.
المستوى الثالث: ما يكون متعذرًا، لا يمكن القيام به.
عليك أن تعرف وتصنف طلباتك ضمن أيّ مستوى من هذه المستويات؟
حينما تريد من أحدٍ شيئًا أو تتوقع منه عملًا، عليك أن تعرف تصنيف ذلك في أيّ دائرة بالنسبة له، وبالنظر إلى وضعه وظروفه، فلا تطلب من أحدٍ أو تتوقع منه إلّا ما كان سهلًا ميسورًا عليه، وبذلك تتحقق توقعاتك وتستقيم علاقاتك، وتريح نفسك من تداعيات أيّ تعقيد في تعاملك مع المحيطين بك.
البعض قد لا يفكر في هذا التصنيف، ويرغب أن يقدم له صديقه خدمة ما، فإذا اعتذر أو تأخر، اعتبره مقصّرًا في حقّه، وربما ساءت علاقته به، بسبب ذلك الأمر!
بينما يجد الطرف الآخر مشقة في تلبية طلب صديقه.
وهنا يحدث الخلاف في الرأي، يقال لصاحب الطلب: إنّ الرجل لا يتمكن، ويجد مشقة وعناء فيما طلبت! ويكون ردّه: أنا أعلم، أنه يستطيع ذلك!!
تُرى من الذي يحدد إمكانية الطرف الآخر؟
التفهم لظروف الآخرين
في المسائل الشرعية، يطلق الفقهاء على الحرج المعفي عنه (حرج شخصي) فالمكلف هو الذي يُقدّر الحرج بنفسه.
فعلى سبيل المثال: إذا كان في الصوم حرج على الإنسان، فإنه يسقط وجوبه عليه، وينتقل تكليفه إلى القضاء أو الكفارة ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾، وهو المعني بتقدير الحرج ونسبته، والشرع يأخذ بتقديره، يقول تعالى: ﴿بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾[سورة القيامة، الآية: 14].
البعض لا يستوعب هذه القاعدة الشرعية العقلية، فيرفض اعتذار الطرف الآخر ولا يقدّر ظروفه، وهو ما يؤدي إلى توتر العلاقات مع الآخرين!!
على الإنسان أن يقبل تقويم الآخرين لظروفهم، لا أن يفرض تقويمه عليهم ويلزمهم به.
ما يطلبه الزوج من زوجه، والصديق من أصدقائه، والوالدان من أبنائهما، ينبغي أن يكون ضمن دائرة الممكن، ويراعى فيه ظرف الطرف الآخر وأوضاعه، فلا يكون تحقيق الطلب على حساب ظروف الآخرين وأحاسيسهم ومشاعرهم، فهذا ليس إنصافًا، وسيؤدي إلى تعقّد العلاقات معهم، كما يمكن أن يصيب الإنسان بعقدة نفسية؛ لأنه لم يتحقق له ما أراد، ولهذا ورد عن علي : «إذا أرَدتَ أن تُطاعَ فَاسألْ ما يُستَطاعُ»[2] .
على الإنسان أن يخفض سقف توقعاته من الآخرين، ولا يلقي بعبئه على غيره، حتى ولو كانوا قريبين منه، ورد في الحديث عن رسول الله في وصفه للمؤمن «قَليلُ المَؤونَةِ، كَثيرُ المَعونَةِ»[3] .
البعض يتصور أنّ هذا الحديث يطبق مع الآخرين البعيدين فقط!
إنّ مفاد الحديث يجري في تعامل الإنسان حتى مع الزوجة والأولاد، وكذلك الزوجة مع زوجها، ينبغي أن تكون قليلة المؤونة.
على الإنسان أن يلتمس الأعذار للآخرين حينما لا يستجيبون لطلباته وتوقعاته، ورد عن الإمام علي : «اِقْبَلْ أَعْذارَ النّاسِ تَسْتَمْتِعْ بِإِخائِهِمْ وَالْقَهُمْ بِالْبِشْرِ تُمِتْ أَضْغانَهُمْ»[4] .
وعنه : «أعْقَلُ النّاسِ أعْذَرُهُمْ لِلنّاسِ»[5] .
بل ورد عن الإمام زين العابدين : «وَلا يَعتَذِرُ إلَيكَ أحَدٌ إلّا قَبِلتَ عُذرَهُ، وإن عَلِمتَ أنَّهُ كاذِبٌ»[6] .
ينبغي أن تتفهم ظروف الآخرين وتعذرهم فيما هم فيه، فالتعاليم الدينية توجه الإنسان إلى تربية نفسه وتدريبها على أن يكون سهلًا متسامحًا ميسراً في تعامله مع الآخرين، وتحذّره من أن يكون سببًا لإيجاد أيّ حرج أو مشقة على من حوله.
ورد عن رسول الله أنه قال: «المُؤمِنُ لَيِّنٌ هَيِّنٌ سَمحٌ»[7] .
وهذه الصفات ينبغي أن يتلمّسها الإنسان في نفسه، ويطبقها داخل بيته، وفي تعامله مع عماله، وزملائه في وأصدقائه.
وعنه : «أَدْخَلَ اللَّهُ الْجَنَّةَ رَجُلًا كَانَ سَهْلًا مُشْتَرِيًا، وَبَائِعًا، وَقَاضِيًا، وَمُقْتَضِيًا»[8] .
فالإنسان الذي يكون مرنًا في تعامله مع الآخرين، في مختلف أموره، يتفضل الله عليه بدخول الجنة، كما ورد عنه : «حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ»[9] .
فالمؤمن الواعي يفتش في نفسه عن هذه الصفات، ليتأكد من صدق إيمانه ويطمئن إلى مستقبله الأخروي، فلا يكفي أن يتأكد الإنسان من صحة وضوئه وصلاته وصومه، وهي أمور مهمة، لكن تعامله مع الآخرين وخاصة القريبين منه يجب أن يكون في سلم أولوياته.
إنّ نهج التسامح الذي يأمرنا الله به في تعاملنا مع الناس، هو في الواقع نهج بدأ به في تعامله معنا، سواء في التشريع أو الحساب، يقول الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾.
واليسر هو الشيء الخفيف السهل، والعسر هو ما يقوم به الإنسان بكلفة ومشقة، ولهذا لم يفرض الله على الإنسان تكليفًا يصيبه بمشقة وحرج، حتى يربي الإنسان في تعامله مع الآخرين.
الأوامر التي تصدرها لأبنائك ولعائلتك، أو لعمالك وزملائك، عليك أن تريد بهم اليسر ولا تريد بهم العسر.
ونشير هنا إلى ثلاثة مجالات مهمة في تعامل الإنسان مع من حوله:
في العلاقة بين الزوجين
على الزوج أن يقرّر ويؤكد في نفسه وسلوكه بحيث يكون تعامله مع زوجته باليسر واللين، فللمرأة مشاعرها وظروفها وأحاسيسها، فينبغي التعامل معها على هذا الأساس.
لا تتوقع من زوجتك ولا تطلب منها ما يسبب لها حرجًا ومشقة، وعلى الزوجة أيضًا أن تراعي ظروف زوجها فلا تحرجه بطلباتها، وخاصة في الجانب الاقتصادي، وإذا كان الزوج يعاني من وضعٍ اقتصادي معيّن، فعلى الزوجة أن تراعي ظروف زوجها فلا ترهقه بالطلبات، ولا ترفع مستوى توقعاتها، فكم من المشاكل العائلية تحصل بهذا السبب؟!!
يقول الإمام زين العابدين في رسالة الحقوق: «وأمَّا حَقُّ الزَّوجَةِ: فأنْ تعلَمَ أنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَها لَكَ سَكَنًا وأُنسًا، فَتعلَمُ أنَّ ذلِكَ نِعمَةٌ مِنَ اللهِ عَلَيكَ، فَتُكرِمُها وَتَرفَقُ بِها»[10] .
في التعامل مع الأولاد
عَنْ يُونُسَ بْنِ رِبَاطٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله : (رَحِمَ اللهُ مَنْ أَعَانَ وَلَدَهُ عَلى بِرِّهِ.
قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ يُعِينُهُ عَلى بِرِّهِ؟
قَالَ: «يَقْبَلُ مَيْسُورَهُ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ مَعْسُورِهِ، وَلا يُرْهِقُهُ، وَلَا يَخْرَقُ بِهِ)[11] .
عليك أن تعين ابنك وتشجعه وتساعده على أن يكون بارًّا بك، بأن تقبل ميسوره، ولا تتوقع منه ما يسبب له كلفة أو حرجًا في ظروفه العائلية أو العملية أو الاجتماعية.
إنّ جيل الأبناء يعيشون اليوم ظروفًا جديدة، ولهم سلوكهم وآراؤهم وعلى الآباء أن يقدّروا ذلك.
لا تتوقع أن يكون ابنك نسخة طبق الأصل منك، أو أن ينجز كلّ ما تتوقع وكلّ ما تريد، وهناك كلمة مشهورة تروى عن الإمام علي يقول: «لا تَقسِروا أولادَكُم عَلى آدابِكُم، فَإِنَّهُم مَخلوقونَ لِزَمانٍ غَيرِ زِمانِكُم»[12] .
عليك أن تتفهم ذلك، وإذا رأيت أمرًا فيه كلفة ومشقة على ابنك لا تلزمه به، وفي مقابل ذلك هناك توصيات دينية للابن أن يتفانى في خدمة والديه، ففي ذلك مصلحته دنيا وآخرة، ورصيد من التوفيق والبركة يسعده في حياته.
توصيات وتعاليم كثيرة توجه الابن أن يبذل جهده في خدمة والديه، ومن جانب آخر توجيه للأب أن يتجاوز عن تقصير أو قصور ابنه، حتى يبقيه في دائرة البر، ولا ينزلق به إلى دائرة العقوق.
وقد أثبتت الدراسات والتقارير أنّ الشدة على الأبناء والبنات، وخاصة في هذا العصر لها نتائج خطيرة، حيث تتحدث الإحصائيات عن هروب بعض الفتيات من عوائلهن بسبب ما يحصل لهن من عنف وشدة في التعامل، وطبق إحصائية لوزارة العمل والتنمية الاجتماعية في المملكة العربية السعودية: تم تسجيل 1750 حالة هروب لفتيات من أهاليهن سنة 1436هـ![13] .
ووفقًا لتقرير صادر عن برنامج الأمان الأسري الوطني لعام 1438هـ، فإنه تم تسجيل 692 حالة إيذاء داخل الأسر في مقابل 422 حالة في العام الذي قبله، علمًا بأنّ الحالات التي سجلت للعام 1438هـ ضد 676 طفلًا في المنشآت الصحية في المملكة!![14] .
فيما كشف الاستشاري النفسي والأسري الدكتور مسفر المليص، أنّ «الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان استقبلت أكثر من 2000 شكوى خلال عام واحد، تتعلق بالعنف الأسري»[15] .
هذه الحالات التي ترصد ويبلغ عنها وهناك حالات كثيرة لا يعرف عنها.
ما الذي يدفع الفتاة لتهرب من بيت أهلها؟!
هناك عوامل كثيرة، والعنف الأسري أحدها، إذا لم تستوعب عاطفيًّا، أو لم تؤخذ ظروفها بعين الاعتبار، فإنّ لذلك نتائج خطيرة جدًّا.
التعامل بين الأصدقاء والزملاء
أصدقاؤك وزملاؤك يمثلون حلقة من أهم حلقات العلاقات الاجتماعية، ولا يمكن أن تنجح في استمرار هذه العلاقة دون أن تكون واقعيًّا في طلباتك وتوقعاتك منهم، لتكن طلباتك ضمن دائرة الميسور، ولا تشقّ على أصدقائك وإخوانك بتوقعاتك وطلباتك.
مجتمعنا من المجتمعات التي تقوى فيها العلاقات الاجتماعية، وبذلك تزداد درجة التوقعات والطلبات، فكلّ فرد يطلب من أصدقائه زيارته وحضور مناسباته الاجتماعية، ولا يمكن أن تبقى هذه العلاقات في الإطار الصحيح ما لم يكن هناك تقدير لظروف الآخرين.
وفي بعض الحالات أنت تريد أن تكرم صديقك وتقدم له خدمة، لكن هذا العمل فيه مشقة وكلفة عليه!!
والكثير منا يغفل عن هذه الزاوية.
الإمام الحسن العسكري له كلمة جميلة، نحتاجها كثيرًا في مجال علاقاتنا الاجتماعية، يقول : «لا تكرم الرجل بما تشق عليه»[16] أنت تريد أن تكرمه، لكن عليك أن تراعي ألّا يسبب له حرجًا وكلفة لجهة من الجهات!
ومن أمثلة ذلك الولائم والدعوات، فقد يدعو أحدهم صديقه لحضور مناسبة مع بعد المسافة وحصول المشقة، ولا يقدّر ظروفه، أو يطلب منه تناول ما لا يناسبه من أنواع الطعام!!
ينبغي أن نأخذ كلّ هذه الأمور بعين الاعتبار.
نسأل الله أن يوفقنا للالتزام بمكارم الأخلاق، وأن يجعلنا ممن يحسنون التعامل مع الناس حتى نستحق حسن التعامل من الله تعالى يوم القيامة.