الأسوأ من الخطأ تبريره
﴿بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾[سورة القيامة، الآيتان:14- 15]
من الوارد أن يرتكب الإنسان الخطأ في عمله وسلوكه، ذلك أمرٌ لا يكادُ يسلمُ منهُ أحد، إلّا من عصم الله، فقد يضعف الإنسان أمام أهوائه وشهواته، وقد يغفل عن خطورةِ نتائج الخطأ وتداعياته، أو يستهين بتلك النتائج!
يعلم أنه خطأ، ويعلم أنّ هذا الخطأ ستكون له تداعيات، لكنه يستهين بتلك النتائج والتداعيات، فيقدم على ارتكاب الخطأ لذلك ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ»[1] .
وقد أودع الله في نفس الإنسان قوة رقابية، تنبهه إلى خطئه، وتحفّزه على التراجع عنه، وهي قوة الضمير والوجدان، التي عبّر عنها القرآن بالنفس اللوامة في قوله تعالى: ﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾[سورة القيامةالآية: 2].
إنها كأجراس الإنذار التي تكون في السيارة لعدم ربط الحزام مثلًا، أو كمؤشر زيادة السرعة.
و﴿اللَّوَّامَةِ﴾ صيغة مبالغة، أي كثيرة اللوم، تلوم الإنسان كلّما ارتكب خطأً، وتوبخه وتؤنبه على ارتكاب الذنب والمعصية، فهي قوة إلهية رقابية في داخل نفس الإنسان.
وإلى جانبها منح الله تعالى الإنسان عقلًا يفكر به، ويفرّق به بين الخير والشر، مما يقوّي مناعة الإنسان ضدّ الأهواء الدافعة للأخطاء والمعاصي والذنوب، هذه القوة الرقابية الداخلية تشكل مناعة للإنسان عن الاستمرار في الانحراف وطريق الخطأ، ولعلّ ذلك ما يشير إليه الحديث الشريف المروي عن وابصة بن معبد أنّ النبي قال له :«جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي، وَيَقُولُ: يَا وَابِصَةُ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ»[2] .
هذه إشارة إلى أنّ الإنسان يتمتع بقدرة على التمييز، ومستوى من الممانعة تجاه الأخطاء والانحرافات، كما أنّ الله تعالى بعث رسلًا وأنبياء، وجعل بعدهم أئمة وهداة، حتى يعظوا الناس ويرشدوهم، لكي ينتبهوا إلى أخطائهم، ولا يسترسلوا في انحرافاتهم، لكنّ الإنسان قد يعطل جهاز المناعة في داخله، ويبطل مفعول المضادات الحيوية، التي تقف أمام الجراثيم والمكروبات!
كيف يكون ذلك؟
إذا سلك طريق التبرير للخطأ.
من الطبيعي أن يصدر الخطأ من الإنسان، لكنّ المشكلة تكمن في تبرير الخطأ وشرعنته، فالتبرير أسوأ من الخطأ ذاته؛ لأنّ الإنسان إذا أخطأ وتنبّه إلى خطئه يتراجع عنه، لكنه إذا تربى على التبرير، فذلك أمر خطير، يجعله يكرر الخطأ ويستمر فيه، ولعلّ من أهم مظاهر تبرير الخطأ ما يلي:
إلقاء مسؤولية الخطأ على الغير
حين يخطئ الإنسان يؤنّبه ضميره، ويعاتبه الناس، (لماذا أقدمت على هذا الفعل؟!)
فيقع في الحرج ويبحث عن مخرج، فيلقي المسؤولية على الغير، (أخطأت بسبب هذه الجهة أو تلك، وليس مني) وبذلك يسعى لتبرئة نفسه.
ومن أمثلة هذه الحالة ما يطرح من تبرير لتخلف المجتمعات الإسلامية، وأنّ السبب في ذلك هو الاستعمار والمؤامرات الأجنبية. دون اعتراف بدور للأسباب الذاتية التي مكنت الاستعمار من الهيمنة على هذه المجتمعات، وأطلق عليها مالك بن نبي (1905-1973م) مصطلح (القابلية للاستعمار).
ويتحدث القرآن الكريم عن هذا المنحى التبريري لتبرئة الذات وتحميل المسؤولية للغير، في اعتذار الضالين والمنحرفين لله تعالى يوم القيامة، بأنّ الشيطان هو من يتحمل مسؤولية كفرهم وضلالهم، لكنّ الشيطان يردّ عليهم بأنهم المسؤولون عن استجابتهم لدعوته، دون قدرة منه على إجبارهم. يقول تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم﴾.
وفي أحيان أخرى يبرّر الإنسان خطأه وتقصيره بـ (الظروف القاهرة)، الظروف ألجأتني إلى هذا العمل!
بالطبع لم يغفل الشرع الحالات الخاصة التي يكون الإنسان فيها معذورًا يقول تعالى:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾
ويقول تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾
ويقول تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾
لكنّ الإنسان يعرف الحقيقة من نفسه، وهل هو مضطر أم لا؟!
في رواية عن ابْنِ أُذَيْنَةَ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَسْأَلُهُ مَا حَدُّ الْمَرَضِ الَّذِي يُفْطِرُ صَاحِبُهُ، فَقَالَ: «﴿بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ وَقَالَ: ذَاكَ إِلَيْهِ هُوَ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ»[3] ، وفي رواية أخرى: «وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُطِيقُهُ»[4] .
هو يعرف قدرة نفسه، يستطيع الصوم أم لا.
يقول أحد المكفوفين: كنت في إحدى المدن المقدسة في شهر رمضان المبارك، وكنت صائمًا، سألني أحدهم: هل تأكل؟
قلت: لا، أنا صائم.
قال: كيف تصوم وأنت مكفوف؟!، الله تعالى يقول: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى? حَرَجٌ﴾
أنا أفقد عينًا واحدة ولا أصوم، فكيف تصوم أنت وقد فقدت عينيك؟
شرعنة الخطأ
هناك من يفعل الخطأ ويختلق المسوغات لذلك، بل ويتحدث عن مقصده النبيل لما ارتكبه من ذنب، ومن أمثلة ذلك:
من يسيء إلى عائلته ويقصّر في حقوقهم، ويبرر ذلك بأنه يريد تربيتهم وإصلاحهم!
من يشوّه سمعة منافسيه ويسعى إلى إسقاط شخصياتهم، بمبرر مواجهة البدع والانحرافات!
من يكذب ويفتري على الدين، بحجة جذب الناس إلى الالتزام والتدين!
وفي كتب الحديث هناك نسبة من الأحاديث الموضوعة لم يضعها ولم يختلقها أُناس فاسقون فاسدون، بل وضعها أناس صالحون يتصفون بالعبادة والزهد، بحجة جذب الناس إلى الدين، بعضهم يريد أن يحفّز الناس على قراءة القرآن الكريم فيختلق أحاديث في فضل قراءة سور القرآن!
قِيلَ لأَبِي عِصْمَةَ (نوح بن أبي مريم توفي 173هـ): مِنْ أَيْنَ لَكَ عِنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ سُورَةٍ سُورَةٍ وَلَيْسَ عِنْدَ أَصْحَابِ عِكْرِمَةَ هَذَا؟
فَقَالَ: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ، وَاشْتَغَلُوا بِفِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَغَازِي مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فَوَضَعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ حِسْبَةً»[5] ، أي وضَعَ الحديث واختلقه احتسابًا للأجر من الله!!
وهناك كثير من الرواة أخذوا هذا المنحى المخالف للشرع، أحدهم يقول: (وضعناها لنرقق بها قلوب العامة)[6] .
وآخر «كان يضع الحديث على رسول الله ، وَلا يضع إلّا ما فيه أدب، أو زهد، فيقال له في ذلك، فيقول: إنّ فيه أجرًا»[7] .
وقد ذكر الشيخ النوري في كتابه (اللؤلؤ والمرجان) أنّ بعض الخطباء يأتون بأكاذيب حتى يُبكوا الناس على الحسين وعلى أهل البيت!
كيف يجوز أن تنقل الكذب من أجل الإبكاء؟!
مع أنّ الإبكاء مستحب والكذب حرام و (لا يطاع الله من حيث يعصى) لكن هذا من شرعنة وتبرير الأخطاء.
أما لماذا يمارس الإنسان هذا الدور ويسلك هذا الطريق لتبرير أخطائه؟! فيمكن الإشارة إلى عدة أسباب:
السبب الأول: معالجة مشكلة نفسية
من يصدر منه الخطأ حين يعيش حالة من تأنيب الضمير، ويعاني من توتر داخلي، يأتي بالتبرير حتى يسكت صوت ضميره، فيرتاح من التوبيخ الذاتي.
السبب الثاني: الدفاع عن النفس
ذلك أنّ المخطئ ىواجه ضغطًا اجتماعيًّا، فيلجأ إلى التبرير دفاعًا عن نفسه أمام المجتمع.
السبب الثالث: التملّص من المسؤولية أمام الله
فالموقف عند الحساب صعب عسير، والتبرير يكون وسيلة أمام المذنب، كي يتخلص من صعوبة الموقف أمام الله تعالى.
ونركز الحديث هنا حول المورد الأول، فحين يستيقظ الضمير ويتحرك يؤذي الإنسان، ولهذا يعيش بعض الناس معاناة مع ضمائرهم ووجدانهم بعد ارتكاب الخطأ أو ظلم أحد من الناس، يبدأ يعاتب نفسه، ويحاكم نفسه، فيلجأ إلى اختلاق التبريرات.
وهو ما يُطلق عليه في علم النفس (الحيل الدفاعية)، إذا عجز الإنسان عن مواجهة مشكلاته بصراحة فإنّ ذلك يدفعه إلى أساليب من التكيف، يقصد بها تخفيف حدة التوتر الداخلية والشعور بالإثم.
فمثلًا: حينما يرتكب الإنسان الخطأ تحت تأثير الشهوة أو الغضب، تشغله في البداية سكرة الشهوة والانفعال، لكنه فيما بعد يفكر: لماذا فعلت هذا الخطأ؟!
فيجيب: كنت مضطرًا، والظروف دفعتني!
وقد يتطور التبرير فيقول: لا يعتبر هذا خطأ، فكل الناس يفعلون مثل ذلك!
وهو بذلك يسلّي نفسه، فهي من الحيل الدفاعية التي تعالج التوتر داخل الإنسان، لكن هل يستطيع الإنسان أن يسكت صوت ضميره ووجدانه؟!
كلّا، لا يستطيع أن يتحايل على ضميره ووجدانه؛ لأنه يعرف الحقيقة ﴿بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾.
هو يعرف تقصيره، ويعلم أنه مخطئ، الآية الكريمة تقول: ﴿بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾.
وجاءت كلمة ﴿مَعَاذِيرَهُ﴾ بالجمع لتؤدي معنى تفنّن الإنسان في خلق الأعذار، حتى يوهم نفسه بعدم الخطأ ليسكت صوت ضميره لكن هذا لا يجدي ولا ينفع.
جاء في رواية عن الإمام الصادق أنه قال: «مَا يَصْنَعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُظْهِرَ حَسَناً وَيُسِرَّ سَيِّئاً، أَلَيْسَ يَرْجِعُ إِلى نَفْسِهِ، فَيَعْلَمَ أَنَّ ذلِكَ لَيْسَ كَذلِكَ؟ وَاللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ يَقُولُ: ﴿بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾»[8] .
الطريق الصحيح ليس تبرير الخطأ، ولا شرعنة الخطأ، أو اختلاق الأعذار والحجج.
بل أن يكون الإنسان صريحًا صادقًا مع نفسه، يعترف بالخطأ ويتراجع عنه، وهذا هو ما يريحه من عذاب الضمير، حيث يقرّر عدم العودة إليه ويتلافى آثاره وتداعياته.
وهذا ما تريد الأدعية المأثورة الواردة، أن تربّي الإنسان عليه، على هذه الصراحة والصدق، (ظَلَمْتُ نَفْسِي).
لماذا أوهم نفسي وأخدعها؟!
الأفضل أن أكون صريحًا مع نفسي كماورد في دعاء كميل: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ وَبِحَمْدِكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَتَجَرَّأْتُ بِجَهْلِي، وَسَكَنْتُ إِلى قَدِيمِ ذِكْرِكَ لِي وَمَنِّكَ عَلَيَّ... إِلهِي وَمَوْلايَ أَجْرَيْتَ عَلَيَّ حُكْماً اتَّبَعْتُ فِيهِ هَوى نَفْسِي، وَلَمْ أَحْتَرِسْ فِيهِ مِنْ تَزْيينِ عَدُوِّي، فَغَرَّنِي بِما أَهْوى وَأَسْعَدَهُ عَلى ذلِكَ القَضاءُ، فَتَجاوَزْتُ بِما جَرى عَلَيَّ مِنْ ذلِكَ بَعْضَ حُدُودِكَ، وَخالَفْتُ بَعْضَ أَوامِرِكَ، فَلَكَ الحَمْدُ عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذلِكَ وَلا حُجَّةَ لِي فِيما جَرى عَلَيَّ فِيهِ قَضاؤُكَ، وَأَلْزَمَنِي حُكْمُكَ وَبَلاؤُكَ، وَقَدْ أَتَيْتُكَ يا إِلهِي بَعْدَ تَقْصِيرِي وَإِسْرافِي عَلَى نَفْسِي مُعْتَذِراً نادِماً».
إنّ هذه الفقرات تدريب على مكاشفة النفس، واعتماد نهج المصارحة والصدق، صحيح أنّ هناك من يغري الانسان بالمعصية، وهناك ظروف تشجع عليها، لكنّ المسؤولية تقع في الأساس على عاتق الانسان نفسه، كما يقول الدعاء: «اتَّبَعْتُ فِيهِ هَوى نَفْسِي، وَلَمْ أَحْتَرِسْ فِيهِ مِنْ تَزْيينِ عَدُوِّي، فَغَرَّنِي بِما أَهْوى وَأَسْعَدَهُ عَلى ذلِكَ القَضاءُ».
هذه الأدعية منهج تربوي، تربي الإنسان على أن يكاشف نفسه ولا يخدعها، ولا يبرّر الأخطاء والذنوب، وإنّما يعترف بها ثم يسعى لتصحيحها والتراجع عنها.