بمناسبة يوم السعادة العالمي
إسعاد الناس سعادة للذات
﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [سورة هود، الآية: 105]
تحقيق السعادة في الحياة، وتجاوز التعاسة والشقاء، حلم وطموح لكلّ بني البشر، منذ أن وعى الإنسان وجوده على هذه الأرض، فكلّ إنسان يتطلع أن يكون سعيدًا، ويسعى لتجنب الشقاء والتعاسة.
ولكن ما هي حقيقة السعادة؟ وكيف يمكن الوصول إليها؟
هذا ما اختلفت حوله آراء الناس، وفي طليعتهم العلماء والفلاسفة والمفكّرون، فالجدل والنقاش حول هذه المسألة موجود من قديم الزمن.
علماء اليونان
العلماء والفلاسفة اليونانيون الذي سبقوا أرسطو، رأوا أنّ أساس السعادة الإنسانية تكمن في أربع صفات نفسية، هي: الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة.
من كان واجدًا في نفسه لهذه الصفات الأربع فهو سعيد، ولا يضرّه ما قد يصيب جسمه أو حياته المادية.
وقد نقل عنهم ابن مسكويه في كتابه (طهارة الأعراق): إنّ الإنسان إذا حصَّل تلك الفضائل، لم يضرّه في سعادته أن يكون ناقص الأعضاء مبتلى بجميع أمراض البدن.
فلا ربط للسعادة ـ حسب رأيهم ـ بالجوانب المادية، وإنّما هي صفات نفسية، من توفرت فيه يكون سعيدًا، ومن نقصت عنده فهو شقي، مهما كان وضعه، ومهما كانت مقوماته الأخرى!
المرتاضون
بينما يرى بعض المرتاضين أنّ السعادة تتحقق بالكمال النفسي، والسمو في الجوانب الروحية، وأنّ ذلك يتناسب طرديًّا مع حرمان الجسم من الراحة واللذات والشهوات، فإذا أراد الإنسان أن يحقق السعادة، عليه أن يسعى لكمال روحه، ويرون أنّ التكامل الروحي نقيض الراحة الجسمية، فإذا أردت أن تتكامل روحيًّا ينبغي أن تعرّض جسمك للآلام، حتى إنّ بعضهم كان ينام على المسامير، أو كان يتعلق بأغصان الأشجار!
كانوا يقلّلون من الطعام والشراب، ويعيشون الخشونة في الحياة!!
الحضارة المادية
أغلب الناس في الحضارة المادية الحديثة، يرون أنّ السعادة تتحقق بالوفرة المالية، والرخاء الاقتصادي، والانغماس في الملذات والرغبات والشهوات.
الدين والسعادة
اهتمت الأديان الإلهية بالسعادة، واعتبرتها الغاية والمقصد من نزولها وتشريعها، فهي إنّما جاءت من أجل سعادة الإنسان، وخاصة خاتمة الأديان الإلهية السماوية، والصيغة الأخيرة منها وهي الإسلام، فقد جاء هذا الدين من أجل أن يوصل الإنسان إلى السعادة الحقيقية وبأفضل السبل والطرق.
بالطبع إنّ الدين يرى أنّ حياة الإنسان لا تقتصر على دار الدنيا فقط، وإنّما تمتدّ إلى دار الآخرة، وهي دار الخلود والبقاء، وبالتالي فالدين معنيٌّ بإرشاد الإنسان إلى توفير السعادة في الدارين، وليس في الدنيا فقط.
ففي الآخرة ينقسم الناس إلى صنفين: أشقياء وسعداء، يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾[سورة هود، الآيات: 105 -108]، من هنا فإنّ الدين معنيٌّ بإرشاد الإنسان إلى السعادة في الدارين، وحين تتحدث النصوص الدينية عن السعادة في هذه الحياة فإنّها لا تحصرها في بُعْدٍ واحدٍ من شخصية الإنسان وجوانب حياته.
السعادة ليست مجرد صفات نفسية كما قال فلاسفة اليونان، ولا مجرّد رهبنة وارتياض روحي كما تقول بعض توجهات المرتاضين، وليست هي الانغماس في الملذات والشهوات والرغبات، بل هي حالة تكاملية، تشمل مختلف أبعاد حياة الإنسان.
إنّ التأمل في النصوص الدينية التي تناولت موضوع السعادة يكشف عن ثلاثة أبعاد للسعادة:
الأول: البعد الروحي والنفسي
ويتمثل في الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والثقة به، والتوكل عليه، والرضا بقضائه وقدره، وهو ما يعطي لحياة الإنسان معنى وقيمة.
فمن المشاكل الكبيرة التي يعاني منها إنسان الحضارة المادية، أنّ الحياة عنده ليست ذات معنى، ولا قيمة لها ولا هدف، فمع كلّ الرفاه الذي يعيشه، والرخاء الاقتصادي الذي ينعم به، وتوفر كلّ الملذات والشهوات، إلّا أنه يعيش الفراغ الروحي المعنوي!!
والإيمان هو الذي يمنح الحياة قيمة ومعنى وهدفًا، لذلك نجد في بعض أوساط المجتمعات الغربية إقبالًا على الديانات، وبعضها خرافية أسطورية، لكنهم يقبلون عليها؛ لما يعانونه من فراغ روحي، وتشوّش فكري حول معنى الحياة وهدفها وقيمتها.
بالإيمان يتوفر الإنسان على هذه المعاني، كما أنّ الصفات النفسية التي تتولد من خلال الإيمان، تمنح الإنسان التفاؤل والأمل والرجاء، فتكون إمكانيته للصمود أمام المشاكل و الصعوبات و الأزمات إمكانية عالية، وتشير النصوص الدينية إلى هذا البعد ، كما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: (ثَلاثٌ مَن حافَظَ عَلَيها سَعِدَ : إذا ظَهَرَتْ عَلَيكَ نِعمَةٌ فَاحمَدِ اللهَ، وإذا أبطَأَ عَنكَ الرِّزقُ فَاستَغفِرِ اللهَ، وإذا أصابَتكَ شِدَّةٌ فَأَكثِر مِن قَولِ: «لا حَولَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ»)[1] .
ويوثق الإيمان ارتباط الإنسان بالقدرة المهيمنة على الغيب من أجل أن يستلهم الثبات والصمود، وأن يكون لحياته معنى وقيمة، وفي كلمة أخرى للإمام علي : «بِالإيمانِ يُرتَقى إلى ذِروَةِ السَّعادَةِ»[2] ، وعنه : «سَعادَةُ المَرْءِ اَلقَناعَةُ وَاَلرِّضا»[3] .
الثاني: الانسجام الاجتماعي
كلما كان الإنسان أكثر توافقًا وانسجامًا مع بيئته ومحيطه الاجتماعي كان أقدر على تحقيق السعادة في حياته، بينما إذا كان يعيش الأزمات والتنافر في بيئته و مجتمعه، فإنّ ذلك يسبب له التعاسة والعناء والشقاء، من هنا فإنّ على الإنسان أن يسعى لتحقيق الانسجام مع من حوله، بالمودة وحسن المعاشرة، ورد عن الإمام علي أنه قال: «خُلُوُّ الصَّدْرِ مِنَ الغِلِّ وَالحَسَدِ مِنْ سَعادَةِ العَبْدِ»[4] ، إذا كان قلب الإنسان صافيًا من الغلّ والحسد، خاليًا من المشاعر السلبية تجاه من يعيش معهم، فإنّ ذلك يحقق له السعادة والرضا، وورد عن النبي الأكرم محمد أنه قال : «أربَعَةٌ مِن سَعادَةِ المَرءِ: الخُلَطاءُ الصّالِحونَ، وَالوَلَدُ البارُّ، وَالمَرأَةُ المُؤاتِيَةُ، وأن تَكونَ مَعيشَتُهُ في بَلَدِهِ»[5] . وفي حديث آخر عنه : «أسْعَدُ النّاسِ مَنْ خالَطَ كِرامَ النّاسِ»[6] ، الإنسان الذي يعيش ضمن مجموعة طيبة من الأصدقاء والزملاء، ممن تكون نفوسهم كريمة، وسلوكهم صالحًا، يكون من أسعد الناس.
الثالث: الرفاه المادي
توفر الرفاه المادي، والرخاء الاقتصادي أحد عوامل تحقيق السعادة، وفي الحديث عنه : «مِن سَعادَةِ المَرءِ المُسلِمِ الزَّوجَةُ الصّالِحَةُ، وَالمَسكَنُ الواسِعُ، وَالمَركَبُ الهَنيءُ»[7] ، والمركب هو وسيلة المواصلات المناسبة حسب كلّ زمن.
وعن الإمام زين العابدين : «مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مَتْجَرُهُ فِي بَلَدِهِ»[8] ، أي يتوفر له رزقه في بلده، فلا يكون مضطرًّا للاغتراب والابتعاد عن وطنه ومجتمعه.
بالطبع لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ السعادة لا تتحقق بالرفاه المادي فقط، بل لا بُدّ من توفر البعدين الآخرين، الروحي والاجتماعي، فبالأبعاد الثلاثة يتكامل تحقيق السعادة في حياة الإنسان، ويضمنها في مستقبله الأخروي.
يوم السعادة العالمي
قبل بضع سنوات التفتت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى الاهتمام بموضوع السعادة في المجتمعات البشرية، وأصدرت عام2012م تقرير السعادة العالمي، وحددت يوم 20 مارس من كلّ عام يومًا للسعادة العالمي، وقد وضع الخبراء في الأمم المتحدة مقاييس ومعايير لتحديد مستوى السعادة في البلدان والمجتمعات، تدور معظمها حول جانبين: المادي والاجتماعي، منها:
1. متوسط العمر الذي يعيشه الفرد.
2. مدى توفر الرعاية الاجتماعية
3. مستوى الفساد في البلد.
4. الخدمات الصحية.
5. التكافل والسلم الاجتماعيَّان.
6. قياس نسبة العنف والجريمة.
هذه بعض المقاييس التي حدّدها تقرير الأمم المتحدة للسعادة في حياة الإنسان.
وبحسب معهد غالوب الأمريكي لاستطلاعات الرأي، فإنّ من بين العناصر التي يتسبب فيها الشعور بالسعادة على الإطلاق (أن تكون حياة الإنسان ذات مغزى، وأن تكون فيها حوافز، وكذلك نوعية العلاقات الاجتماعية ونوعية الحياة في المجتمع والأمان المالي والسلامة الجسدية).
إنّ الفقرة الأولى من استطلاع المعهد (أن تكون حياة الإنسان ذات مغزى) إشارة إلى البعد القيمي والروحي المعنوي.
تقرير السعادة العالمي
في تقرير السعادة العالمي لسنة 2018م، تقدّمت فنلندا لتنتزع لقب أسعد بلد في العالم، متفوقة بذلك على النرويج التي تصدرت قائمة العام الماضي(2017م)، بينما جاءت سوريا واليمن بين الدول الأقلّ سعادة، واحتلت الدنمارك المركز الثالث، تليها أيسلندا رابعة، ثم سويسرا في المركز الخامس.
وجاءت بريطانيا في المركز التاسع عشر، وتراجعت سعادة الأميركيين من المركز الرابع عشر في تقرير العام الماضي إلى المركز الثامن عشر في التقرير الجديد.
وجاءت دولة الإمارات العربية المتحدة في المركز(20) وقطر في المركز (32) والمملكة العربية السعودية في المركز(33) في القائمة التي تحتوي 156 بلدًا[9] .
وقد لاحظ مايك وايكنغ، الرئيس التنفيذي لمعهد أبحاث السعادة، أنّ فنلندا أفقر بكثير من البلدان المتطورة الأخرى على القائمة، التي يُفترض أن تكون في موقع أفضل لتحويل ثروتها الكبيرة إلى مصدر للسعادة.
ومن المقارنات اللافتة الأخرى أنّ لدى فنلندا وبريطانيا مستوى متقاربًا لنصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي، لكن فنلندا تحول ثروتها إلى سعادة أفضل بكثير من بريطانيا.
وقد أشار التقرير إلى ثلاث مشكلات صحية راهنة تهدّد السعادة، هي:
أ/ البدانة.
ب/ تعاطي المسكنات الأفيونية.
ج/الكآبة.
وقال التقرير إنّ هذه المشكلات الثلاث تتفاقم في الولايات المتحدة أكثر وأسرع منها في البلدان الأخرى.
علمًا أنّ الرفاه والوفرة المالية في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من معظم الدول العربية والإسلامية، لكن تحقيق السعادة لا يقتصر على الرفاه والوفرة المالية، فالحالة النفسية لها دور رئيس في سعادة الإنسان، وحين تسيطر الكآبة على الإنسان، أو يصاب بالأمراض النفسية فإنه يفقد الأمل، ويجد أنَّ حياته لا قيمة لها ولا معنى.
قبل أيام حدثني أحد الأطباء النفسيين عن شابّ تتوفر له كلّ المقومات المادية للسعادة، لكنه حاول الانتحار 42 مرة!!
مثل هذه الحالات تؤكد ضرورة التوازن في توفير مقومات السعادة، وعدم الاقتصار على جانب واحد.
توصيات ثلاث
الأولى: علينا في مثل هذه المناسبة ـ ونحن نتحدث عن يوم السعادة العالمي ـ أن ننظر في أوضاع شعوبنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية، وماذا تعاني من فقر واحتراب ومشاكل وأزمات!!
المؤسسات العالمية تتحدث عن يوم السعادة العالمي، ومعظم شعوبنا العربية والإسلامية تعيش هذه الأزمات الفادحة، ففي كلّ عام يقضي عشرات الآلاف من أبناء هذه البلدان حياتهم غرقًا في البحار والمحيطات؛ لأنّهم يبحثون عن مكان يتمتعون فيه بالرفاه، أو تتوفر لهم مقومات الحياة الكريمة.
الثانية: علينا أن نتوجه إلى البعد الروحي والنفسي في سعينا لتحقيق السعادة، فمع ضرورة توفر متطلبات الحياة المادية، إلّا أنّ الجانب الروحي هو العنصر الأساس في تحقيق السعادة.
وحين يتمتع الإنسان بمعنويات رفيعة، وقدرات نفسية عالية، فإنه يستطيع أن يواجه النواقص المادية في حياته، وأن يعيش السعادة في داخله؛ لأنّ السعادة قرار داخلي قبل أن تكون واقعًا خارجيًّا.
الثالثة: على كلّ إنسان أن يفكر كيف يكون سببًا لإسعاد الآخرين، كما يفكر في إسعاد نفسه.
أنت تريد أن تكون سعيدًا، ومن طرق السعادة أن تكون سببًا في إسعاد غيرك، كلما سعيت إلى إسعاد من حولك أفاض الله السعادة في نفسك، فكر كيف تسعد زوجتك وأبناءك، وكيف تسعد جيرانك وكلّ من حولك.
إنّ تفكيرك في سعادة الآخرين يمنحك رسالة، ويعطي حياتك قيمة، ويجعلك أكثر قدرة على أن تعيش السعادة في داخل نفسك، وتشعر بالاطمئنان والرضا.
من هنا وردت نصوص دينية كثيرة تحت عنوان: (إدخال السرور على المؤمنين) [10] وهذا لا يخصّ البعيدين، يقول الإمام علي في وصيته لولده الحسن : «ولَا يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ»[11] عليك أن تسعد أهلك أولًا، أن يفكر الزوج في سعادة زوجته، وتفكر الزوجة في سعادة زوجها.
إنّ حالة الأنانية إذا استحكمت في الإنسان، وفكّر في إسعاد نفسه فقط، تفقد السعادة جزءًا كبيرًا من حقيقتها ومعناها، لو كنت سعيدًا كفرد ولكن من حولك يعيشون التعاسة، هل ستهنأ بسعادتك؟!
أخبرني أحد الأصدقاء وهو في حالة مادية ممتازة، أنه وزوجته يعيشان مشكلة ومعاناة كبيرة، وذلك أنّ ابنتهما تعرضت لمشكلة نفسية، ورغم توفر النواحي المادية للعائلة، إلّا أنّ ما تعانيه هذه الفتاة ألقى بظلاله على العائلة كلّها!
يقول: حياتنا تحولت إلى جحيم، بسبب ما نحمله ونعيشه من همّ ابنتنا!
حين تبتلى العائلة بولد يتورط في قضايا الإجرام، هل يمكنها أن تعيش بالسعادة؟
كلّا!!
من هنا فإنّ السعادة ليست حالة أنانية، بل تتأثر بالبيئة والجوّ الذي يعيشه الإنسان، كما هو حال الصحة، مهما كانت حالتك الصحية جيدة، فإنّها تتأثر بالجوّ الذي تعيش فيه، الهواء الذي تتنفّسه إذا لم يكن صحيًّا، يؤثر على صحتك.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنحنا السعادة في الدنيا والآخرة، بطاعته ورضاه وبمغفرته وسعة رزقه، إنه على كلّ شيء قدير.