شجاعة الإقرار بالخطأ
﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة يوسف، الآية: 53]
لو سألت أيّ إنسان: هل تدّعي العصمة لنفسك؟، لأنكر ذلك.
لا أحد يدّعي أنه معصوم، فكلّ إنسان يدرك بوجدانه أنه معرّض للخطأ، إمّا بسبب الجهل، أو الغفلة، أو ضعف الإرادة أمام الإغراءات.
هذا ما يعرفه كلّ إنسان عن نفسه، لذلك لا أحد يدّعي لنفسه العصمة، لكن معظم الناس ـ مع أنهم في الجانب النظري لا يدّعون العصمة لأنفسهم ـ يكادون أن يثبتوا العصمة لأنفسهم عمليًّا!
حين تسأل شخصًا: هل أنت معصوم؟
يقول: أنا لستُ معصومًا.
لكنك إذا ناقشته حول بعض أخطائه وتصرفاته، يدافع عن أخطائه، ولا يعترف بها!
يصعب على معظم الناس الإقرار والاعتراف بأخطائهم، وخاصة تجاه الآخرين، إلّا إذا اضطروا تحت ضغط القوة.
لماذا يصعب على الإنسان الإقرار بخطئه؟
تجنب آثار الخطأ
السبب الأول: يريد أن يتجنب آثار الخطأ.
الخطأ له ثمن وآثار، والإقرار يعني تحمل تلك الآثار، وعادة ما يتجنب الإنسان لحظات الحساب ودفع الثمن، فينكر أنه قام بهذا العمل، أو ينكر أن ما فعله كان خطأ، فيبرر لنفسه حتى يتجنب آثار الخطأ.
ولكن هل يستطيع الإنسان أن يتجنب آثار الخطأ؟!
الخطأ له ارتدادات وتداعيات، ومن الممكن أن يتجنب الإنسان بعض الآثار مؤقتًا، لكنه لا يستطيع أن يتجنب كلّ الآثار، فماذا يفعل مع تأنيب الضمير وتوبيخه؟!
أنت تستطيع أن تنكر خطأك أمام الناس، لكن في داخل نفسك ووجدانك تدرك أنك ارتكبت خطأ.
من جهة أخرى، ماذا تصنع مع آثار الحساب الإلهي؟!
حينما تنكر الخطأ، هل يدفع عنك الحساب الإلهي؟!
الله سبحانه وتعالى يعلم ما في نفسك، يقول تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [سورة غافر، الآية: 19].
فهل تستطيع أن تمرر إنكارك على الله تعالى؟!
وحتى من الناحية الاجتماعية، قد يتصور الإنسان أنه يستطيع استغفال الناس!
إذا تمكن من استغفال وخداع بعض الناس في بعض الأوقات، فإنه لن يستطيع أن يخدع كلّ الناس في كلّ الأوقات، فمن يتصور أنّ إنكاره للخطأ سيجنبه كلّ النتائج والآثار، فهو غير واقعي في تفكيره.
الإقرار بالخطأ ليس ضعفًا
السبب الثاني: يتصور الإنسان أنّ الإقرار بالخطأ نوع من النقص والضعف.
قد يكون ذلك صحيحًا للوهلة الأولى، لكن الحقيقة، أنّ ذلك يكشف عن ثقة بالنفس، وشجاعة في الموقف، وهو ينتشل الإنسان من موقع الضعف الذي انحدر إليه بخطئه، إلى موقع القوة الذي يرتقيه باعتذاره، وبالتالي فإنه كسب وانتصار للإنسان على المدى البعيد.
إنّ التعالي والشعور بالرفعة والتفوق، وخاصة إذا ما أخطأ الإنسان تجاه من يعتقد أنهم أقلّ منه شأنًا ومكانة، يجعل الإنسان يأنف ويستثقل طلب المعذرة منهم.
كيف أعتذر لزوجتي، أو لأحد أبنائي، أو لموظف عندي؟!
وفي الواقع فإنّ جوهر الأخلاق الفاضلة، وحقيقة النبل والسمو، إنّما تتجلى في مثل هذه المواقف، إذ ليس فخرًا كبيرًا أن يعتذر الإنسان لمن هم أقوى منه، وأرفع شأنًا ومنزلة، فقد تكون الظروف تفرض عليه ذلك، أو تدفعه بهذا الاتجاه، لكن الفضل والمجد هو في حسن التعامل مع الضعفاء، وأداء حقوقهم، والتزام مكارم الأخلاق تجاههم.
البعض يعتبر خطأه جزءًا من ذاته، فإذا اعتذر عن الخطأ كأنه تنكر لنفسه، وهذا غير صحيح، فالإنسان الواعي هو الذي يعتبر الخطأ غبارًا عارضًا يزيله عن نفسه، لتبقى ذاته أقوى وأنقى.
المكابرة والإصرار
السبب الثالث: البيئة المشجعة على المكابرة والإصرار.
إذا عاش الإنسان في بيئة ترى أنّ الاعتراف بالخطأ ضعف، بل قد يُعيّر الإنسان بأنه أذلَّ نفسه، فإنّ ذلك يدعوه للمكابرة، كما أنّ عدم تقبل الآخرين المتراجع عن خطئه يجعله يكابر، أو يبحث عما يغطي خطأه، بينما البيئات الصحية المتحضرة تشجع حالة الاعتذار، وتستقبل من يعترف بخطئه بكلّ تقدير واحترام.
نتائج عدم الإقرار بالخطأ
النتيجة الأولى: الإغراء بتكرار الخطاء.
إذا لم يعتذر الإنسان عن خطئه تجرأ على تكراره، كما ورد عن الإمام علي أنه قال: «الإقْرارُ اعْتِذارٌ، الإنْكارُ إصْرارٌ»[1] .
إنّ الاعتذار والإقرار بالخطأ فيه نوع من الجهد النفسي، فكأنه عقوبة اختيارية يفرضها الإنسان على نفسه، تدعوه لعدم تكرار الخطأ.
أمّا إذا لم يعتذر واستهان بخطئه، أو ألقى المسؤولية على غيره، فإنّ ذلك يغريه بتكرار الخطأ.
النتيجة الثانية: فقدان المصداقية الذاتية وتكريس الازدواجية في أعماق النفس.
يعلم الإنسان داخل نفسه أنه أخطأ، لكنه لا يعترف ولا يعتذر، مما يفقده المصداقية داخل نفسه، ويكرّس لديه حالة الازدواجية، لكنّ العاقل يدرك أنّ ذلك يضرّ بشخصيته، ورد عن الإمام علي أنه قال: «المَعذِرَةُ بُرهانُ العَقلِ»[2] .
فصاحب التفكير السليم يرى أنّ الاعتذار مصدر قوة لشخصيته.
النتيجة الثالثة: الحرمان من فضيلة الاعتراف وتجاوز آثار الخطأ.
فكما قيل (الاعتراف بالخطأ فضيلة) فهو خلق نبيل، ومن يترفع عن الاعتذار يحرم نفسه هذه الصفة الأخلاقية الرفيعة، ورد عن الإمام علي أنه قال: «شافِعُ المُذْنِبِ إِقْرارُهُ، وَتَوْبَتُهُ اعْتِذارُهُ»[3] .
وعن الإمام الباقر : «وَاللّهِ مَا يَنْجُو مِنَ الذَّنْبِ إِلاَّ مَنْ اَقَرَّ بِهِ»[4] .
وفِي رواية أخرى جميلة عن الإمام الباقر : «لا وَاللَّهِ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النَّاسِ إِلَّا خَصْلَتَيْنِ أَنْ يُقِرُّوا لَهُ بِالنِّعَمِ فَيَزِيدَهُمْ وَبِالذُّنُوبِ فَيَغْفِرَهَا لَهُمْ»[5] .
وهكذا فإنّ الدين يربي الإنسان على التراجع عن أخطائه، ويحفّزه على شجاعة الإقرار بذنبه، وهو ما تؤكد عليه (منهجية الاستغفار) في برنامج الإنسان المسلم، فهو من مستحبّات البرنامج اليومي حسب التوجيهات الدينية، وهو ليس مجرد ألفاظ خالية من المضمون، بل تربية أخلاقية، تنعكس على تصرفات الإنسان وسلوكه.
المتقون والطبيعة البشرية
حين نتأمل قول الله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى? مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، ونتساءل: من هم هؤلاء المتقون؟
تجيب الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[سورة آل عمران، الآية: 134].
إنّ الله تعالى يعدد صفاتهم: ينفقون في السراء والضراء، يكظمون الغيظ، يحسنون للناس، ومع ذلك يقع منهم الخطأ حيث تقول الآية بعدها: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾.
سبحان الله! بعد هذه الصفات الرفيعة، يذكر الله تعالى احتمال وقوع الفاحشة منهم!
نعم.. المتقون بشر يصدر منهم الخطأ، لكنهم يبادرون بالاستغفار، كما يقول الله ﴿ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى? مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، ولأنهم يمتلكون شجاعة الاعتراف بالخطأ، يكافئهم الله بالمغفرة والجنة ﴿أُولَ?ئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.
نوعان من الأخطاء
الذنوب والأخطاء نوعان:
الأول: خطأ وذنب تجاه الله.
وهذا النوع يقرّ الإنسان به بين يدي ربه فقط، فمن الناحية الشرعية يكره للإنسان أن يتحدث عن ذنوبه أمام الناس.
البعض يتحدث مع أصدقائه عن ذنوبه، أو يتصل بأحد طلبة العلم ويخبره بما حدث منه، وهو أمر منهي عنه، هناك نصوص كثيرة تنهى الإنسان عن ذلك.
النوع الثاني: الخطأ تجاه الناس
هذا النوع من الأخطاء يوجب الاعتذار وطلب الصفح من الشخص الذي أخطأت بحقه، فلا يكفي أن يستغفر الإنسان ويطلب العفو من الله تعالى.
عن الإمام جعفر الصادق ، فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ?إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ? قَالَ: «قَنْطَرَةٌ عَلَى الصِّرَاطِ لَا يَجُوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَةٍ»[6] .
هذه العقبة في يوم القيامة يمكن تجاوزها بالاعتذار في الدنيا، ومن الخطأ أن يكابر الإنسان ويتعالى عن الاعتذار، يخطئ بحق زوجته أو ابنه أو العامل عنده، أو صاحبه، وتأخذه العزة بالإثم، لكنه لا يعلم كم سيكلفه ذلك في يوم القيامة؟!
كلمة جرحت بها مشاعر إنسان ـ مهما كان موقعه الاجتماعي ـ يوقفك يوم القيامة، ويأخذ حقه منك! والروايات تشرح كيف يأخذ من حسناتك!
هذا العامل الأجنبي، أو الزوجة الضعيفة، أو الزوج الذي تسيء له زوجته، تطلب السماح يوم القيامة، لكن لا مجال للمسامحة، بل الحلّ أن تعطيَ من رصيدك، وأنت في أمسّ الحاجة للحسنة الواحدة!
فعن رسول الله أنه قال: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»[7] .
بإمكان الإنسان أن يتخلص من كثير من الظلامات عبر لحظة اعتراف، وكلمة اعتذار، فيوفر على نفسه العناء والعذاب الشديد يوم القيامة.
إنّ كلمة اعتذار في الدنيا تريحك من هذه المشكلة الكبيرة يوم القيامة.
علينا أن نلتفت إلى هذا الأمر، ولا نستهين بحقوق الآخرين، أن نمتلك شجاعة الإقرار بالخطأ وألّا يخدع الإنسان نفسه باتّهام غيره للتملّص من أخطائه، فالاعتذار في الدنيا أهون بكثير من الموقف الرهيب يوم القيامة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإيّاكم للاستغفار وتجنّب المعاصي والأخطاء.