الكفاءة وموقع العطاء
أورد الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام جعفر بن محمد الصادق أنه قال: «إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي أَنَّ شِيعَتَنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ كَانُوا خِيَارَ مَنْ كَانُوا مِنْهُمْ، إِنْ كَانَ فَقِيهٌ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ مُؤَذِّنٌ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ إِمَامٌ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ أَمَانَةٍ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ وَدِيعَةٍ كَانَ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كُونُوا، حَبِّبُونَا إِلَى اَلنَّاسِ وَلاَ تُبَغِّضُونَا إِلَيْهِمْ»[1] .
يحرص أئمة أهل البيت على دفع تلامذتهم وأتباعهم وشيعتهم نحو التميز والتفوق، بامتلاك الكفاءة العلمية، والسمو الأخلاقي، وروح العطاء للمجتمع الذي يعيشون فيه.
يريدون من شيعتهم ألّا يكونوا أفرادًا عاديين، بل متميّزين في المجتمعات التي يعيشون فيها، وهذا ما نجده في تصريحات وأحاديث أئمة أهل البيت .
لم يكن الأئمة كأقطاب الطرق الصوفية، الذين يهتمون بتوجيه أتباعهم روحيًّا فقط، ولم يكونوا كأصحاب المدارس الفقهية التي يهمّها أن تعلم أتباعها مسائل الشريعة فقط، ولا كانوا من رواد الحركات السياسية التي تركز على العمل السياسي، واستهداف السلطة والحكم.
بل كان أئمة أهل البيت أصحاب مشروع رسالي حضاري، يريدون الارتقاء بالأمة، وتحقيق أهداف الرسالة في الحياة الإنسانية، يحملون مشروعًا، ويربون أتباعهم كي يكونوا شركاء في حمل هذا المشروع، وهو (أمر أهل البيت)، حيث قالوا كما روي عن الإمام الرضا : «رَحِمَ اللهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا، فَقُلتُ لَهُ: فَكَيفَ يُحيي أمرَكُم؟ قالَ : يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا»[2] .
هكذا يريد الأئمة من أتباعهم أن يكونوا نماذج مشرقة للشخصية المؤمنة، المنفتحة على الحياة، المتوفرة على الكفاءة والموهبة، الساعية لخدمة المجتمع، وبذلك يصبحون سفراء ورسلًا لمدرسة أهل البيت في الأمة، كما ورد عن الإمام الصادق : «حَبِّبُونَا إِلَى اَلنَّاسِ» أي بالكفاءة العلمية، والسمو الأخلاقي، وروح العطاء.
وورد عنه أنه قال: «إِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ، وَصَدَقَ الْحَدِيثَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَحَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ، قِيلَ: هذَا جَعْفَرِيٌّ، فَيَسُرُّنِي ذلِكَ، وَيَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْهُ السُّرُورُ، وَقِيلَ: هذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ»[3] .
وقال : «لَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ يَكُونُ فِي مِصْرٍ يَكُونُ فِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ وَيَكُونُ فِي الْمِصْرِ أَوْرَعُ مِنْهُ»[4] .
عليك أن تكون أفضل أهل بلدك ومدينتك، وكذلك المجتمع الشيعي في محيطه، لا بُدّ أن يكون هو نخبة ذلك المحيط.
ما دام الأئمة متميّزين فأتباعهم يجب أن يكونوا كذلك، فمن غير المناسب أن تكون إنسانًا عاديًّا وقادتك هم أئمة أهل البيت !
لذلك نرى في التاريخ كيف كان معظم أتباع الأئمة من ذوي الكفاءات، منهم العلماء، والقادة، والفقهاء، والمتكلمون، والمحدثون، والأدباء، ومنهم إداريون ذوو كفاءة عالية، لم يكونوا أشخاصًا عادين؛ لأنّ الأئمة كانوا يحرصون على هذا الأمر، ومن يقرأ التاريخ يرى أنّ الأئمة يربون الكفاءات ويبرزونها في المجتمع؛ لأنّ صاحب الكفاءة إذا كان منعزلًا منكفئًا، منطويًا على نفسه، يعيش جانبًا على هامش الحياة، فإنه لا يحقق الهدف الذي يريده الأئمة، فحين تصبح ذا كفاءة يجب أن تكون في موقع العطاء.
أسباب الانكفاء
في الحالة الطبيعية الكفاءة تفرض نفسها، لكنّ هناك أسبابًا وعوامل تحجب الكفاءة عن الظهور والبروز، وعوامل الانكفاء إما ذاتية أو اجتماعية خارجية.
عوامل ذاتية:
1/ضعف الثقة بالنفس والخوف من الفشل
البعض لديه كفاءة، لكنه ضعيف الثقة بنفسه، فتحصل لديه حالة الهيبة من التصدي، يخشى من الفشل، أو من مواجهة المشاكل.
2/ الكسل وحب الراحة والدعة
من يأخذ موقعًا في المجتمع يدفع ضريبة، فهناك من يقف ضده، وهناك من يطلب منه المساعدة، ولهذا يتوارى البعض من ذوي الكفاءة، وينعزل جانبًا فلا يستثمر كفاءته، هربًا من المشاكل.
3/ الفهم الخاطئ للزهد والتواضع
يظنّ بعض أصحاب الكفاءة، أنّ التصدي للشأن العام، والظهور الاجتماعي، مخالف للزهد والتواضع، لكن ذلك فهم خطأ، فمن لديه كفاءة يخدم بها مجتمعه يجب أن يظهرها وينفع بها الآخرين، فالعطاء جزء من تحمل المسؤولية في الحياة.
وفي بعض الأحيان يعيش صاحب الكفاءة تفكيرًا مثاليًّا، فينتظر أفضل الظروف المناسبة، متعلّلًا بوجود الظلم والفساد، وهي أوضاع غير مناسبة للعمل والتحرك حسب وجهة نظره!!
لكنّ العقل والحكمة يدعوان الإنسان إلى العمل ضمن الجوّ الذي يعيش فيه، بالمقدار الممكن والأسلوب المناسب.
عوامل خارجية
حينما يسود واقع اجتماعي قائم على المحسوبية والتمييز بين الناس، تُـحَجَّم بعض الكفاءات؛ لأنها تنتمي إلى جهة معينة.
هذه حالة خارجية، ليس لصاحب الكفاءة ذنب فيها، فالأجواء التي يعيشها تمنعه من إبراز كفاءته، وفي حالة أخرى يكون المحيط الاجتماعي متخلّفًا يئد الكفاءة، ويعيش حالة التحاسد والتنافس السلبي.
أئمة أهل البيت وإبراز الكفاءة
إنّ تربية الكفاءة مرحلة أولى، فهي نصف الطريق، بينما يشكّل أخذ الكفاءة لموقعها الاجتماعي تحقيق الغرض من وجودها. وقد أدرك أئمة أهل البيت هذه الحقيقة، لذلك كانوا يهتمون بإبراز الكفاءات وإظهاراها، كي تأخذ دورها في المجتمع، وتقدم عطاءها في مسيرة الحياة، فكانوا يشجعون شيعتهم على المشاركة في الساحة الاجتماعية، وحمل هموم الناس وتطلعات الأمة.
نماذج من الكفاءات البارزة
مع ظروف الحصار التي عاشتها مدرسة أهل البيت، من قبل الأمويين والعباسيين، إلّا أنّ الأئمة تمكنوا من تربية وإبراز عدد من الكفاءات العلمية والشخصيات الاجتماعية، نذكر منهم على سبيل المثال:
أبان بن تغلب (ت/١٤١هـ)
تربى أبان في مدرسة الإمام زين العابدين ثم في مدرسة الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، وقد كان كفاءة علمية في المجالين الديني والأدبي.
قال عنه ياقوت الحموي: (كَانَ قَارِئًا فَقِيهًا لغويًّا إماميًّا ثِقَة، عَظِيم الْمنزلَة، جليل الْقدر) [5] .
وقال الذهبي: (الإمام المقرئ أَبُو سَعْدٍ، وَقِيْلَ: أَبُو أُمَيَّةَ الرَّبَعِيُّ الكُوْفِيُّ الشِّيْعِيُّ... وَهُوَ صَدُوْقٌ فِي نَفْسِهِ عَالِمٌ كَبِيْرٌ) [6] ، وقال: (أبان بن تغلب الكوفي شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته. وقد وثقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم) [7] ، وقال فيه أيضًا: (أبان بن تغلب القارئ الكوفي المشهور، وكان من ثقات الشيعة) [8] .
وقال العقيلي: (سمعت أبا عبدالله (يعني أحمد بن حَنْبَل) يذكر عنه عقلًا وأدبًا وصحة حديث، إلّا أنه كان غاليًا في التشيع) [9] ، وقال ابن عدي: (هو من أهل الصدق في الروايات وإن كان مذهبه مذهب الشيعة وهو في الرواية صالح لا بأس به) [10] ، وقال ابن حبّان: (أبان بن تغلب القارئ من خيار أهل الكوفة) [11] خرّجَ حديثه مسلم في صحيحه، والترمذي، وأبو داوود، والنسائي، وابن ماجة.
كان فقيهًا يزدحم الناس على أخذ الفقه عنه، وإذا دخل المسجد أخليت له سارية النبي ، فيحدث الناس، وله علم باختلاف الأقوال، وهكذا فرض احترامه على الجميع بكفاءته وأخلاقه مع وضوح انتمائه لمدرسة أهل البيت .
قال له الإمام الباقر : «اجلس في مسجد المدينة وأفت للناس، فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك»[12] .
وقد استجاز الإمام أن يفتي الناس حسب اختلاف مذاهبهم. قال: إني أقعد في المسجد، فيجيئني الناس فيسألوني، فإن لم أجبهم لم يقبلوا مني، وأكره أن أجيبهم بقولكم وما جاء عنكم، فقال لي: «انْظُرْ مَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَأَخْبِرْهُمْ بِذَلِكَ»[13] ، فكان يجلس في المسجد يفتي المسلمين، كلّ أهل مذهب حسب رأيهم، لذلك فرض احترامه ومكانته في المجتمع.
نوح بن درَّاج (ت/ 182هـ)
من أصحاب الإمام الصادق [14] ، أخوه جميل بن دراج من ثقاة الأئمة وأشهر منه في العلم والمعرفة، وقد طلبت السلطة العباسية من نوح[15] أن يكون قاضيًا لكفاءته العلمية، ولقدرته ودرايته، فاستشار أخاه جميلًا؛ لأنه كان متصلًّا بالإمام الصادق ، فأذن له.
وقد انتقده بعض الناس لقبوله هذا المنصب، لكنه كان على علم ودراية بما يقوم به والدور المهم الذي يؤديه.
وكان دافع الناقدين له، تصورهم أنّ التمايز العقدي والسياسي يستلزم الانكفاء والانسحاب من المشاركة في إدارة الشأن العام.
وقد بلغ مرتبة عظيمة حتى إنه يُروى أنّ رجلًا ادّعى قراحًا فيه نخل، فأتاه بشهود شهدوا له بذلك، فسألهم ابن شبرمة: كم في القراح نخلة؟ فقالوا: لا نعلم. فرد شهادتهم، فقال له نوح: أنت تقضي في هذا المسجد مذ ثلاثين سنة، ولا تعلم كم فيه أسطوانة؟ فقال للمدّعي: اردد علَيّ شهودك، وقضى له بالقراح، فقال:
كادت تزلّ به من حالقٍ قدمُ
لولا تداركها نوح بن دراج
لما رأى هفوة القاضي أخرجها
من معدن الحكم نوح أيّ إخراج[16]
علي بن يقطين (124 ـ 182هـ)
محدث فقيه متكلم، من كبار رجالات الشيعة، ومن أصحاب الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام) [17] ، تولى الوزارة في عهد المهدي العباسي، وتصدّى لأمور الديوان، ونال حظوة كبيرة عند الهادي، وكان بمثابة رئيس الوزراء لهارون، وقد تقدّم إلى الإمام الكاظم مرّات عديدة يطلب منه الإذن في ترك منصبه والاستقالة منه، فنهاه عن ذلك.
ففي كتاب (قضاء حقوق المؤمنين) لأبي علي الصوري، قال: استأذن علي بن يقطين مولانا الكاظم موسى بن جعفر في ترك عمل السلطان، فلم يأذن له، وقال: «لا تَفعَل، فَإِنَّ لَنا بِكَ اُنساً، وَلإِخوانِكَ بِكَ عِزّاً، وَعَسى أن يَجبُرَ اللهُ بِكَ كَسراً، وَيَكسِرَ بِكَ نائِرَةَ المُخالِفينَ عَن أولِيائِهِ»[18] .
كان كفاءة سياسية وإدارية، فرض نفسه بما عرف عنه من قدرات ومؤهلات، وكانت الشكوك تدور حول تشيعه، فأمره الإمام الكاظم ألّا يجعل الالتزام بالأحكام الفقهية سببًا لإثارة الشبهات حوله، وأن يصلي معهم، ويتوضأ بوضوئهم[19] .
عبد الله بن النجاشي
من أصحاب الصادق ، وقد وَلِيَ الأهواز من قبل المنصور[20] ، روى الكشيبسنده عن عمار السجستاني، قال: زاملت أبا بجير عبد الله بن النجاشي من سجستان إلى مكة، وكان يرى رأي الزيدية، فلما صرنا إلى المدينة مضيت أنا إلى أبي عبد الله ، ومضى هو إلى عبد الله بن الحسن، فلما انصرف رأيته منكسرًا يتقلب على فراشه ويتأوه، قلت: مالك أبا بجير؟
فقال: استأذن لي على صاحبك إن شاء الله، فلما أصبحنا دخلت على أبي عبد الله ، فقلت: هذا عبد الله (بن) النجاشي سألني أن أستأذن له عليك، وهو يرى رأي الزيدية -أي إنه كان ضمن المنحى الثوري في مواجهة السلطات - فقال: ائذن له، فلما دخل عليه قربه أبو عبد الله .
فقال له أبو بجير: جعلت فداك، إني لم أزل مقرًّا بفضلكم، أرى الحق فيكم لا في غيركم، وإني قتلت ثلاثة عشر رجلًا من الخوارج، كلهم سمعتهم يتبرأ من علي بن أبي طالب !
فقال له أبو عبد الله : يا أبا بجير لو كنت قتلتهم بأمر الإمام لم يكن عليك شيئًا، ولكنك سبقت الإمام، فعليك ثلاث عشرة شاة تذبحها بـ منى وتتصدق بلحمها[21] .
وقد كتب له الإمام رسالة فيها توجيهات لكيفية القيام بمهامه في ولايته على الأهواز[22] .
جابر بن حيّان
أول من اشتهر في علم الكيمياء ووضع فيها الكتب، وهو تلميذ الإمام الصادق [23] ، وذكروا له 500 رسالة في ألف ورقة في الكيمياء، وهو اسم مشهور عالميًّا في تاريخ الكيمياء، وله مؤلفات عقائدية في التشيع، وقد نشر بعض المستشرقين رسائله.
موسى بن نُصَير (ت/ 640هـ)
هو من قادة الفتوحات في بلاد المغرب، ومن رجالات الكوفة العسكريين[24] ، عرف بولائه لأهل البيت واستقامته، وطارق بن زياد المشهور كان مولاه، وتحت إمرته، ويسير على مخططاته العسكرية، لكنه اشتهر أكثر منه.
غضب سليمان بن عبد الملك على موسى بن نصير، الذي عرف وأبوه نصير بولاء أهل البيت، فعزله، وقتل ولده عبد العزيز سنة 98هـ، وكان قائدًا عسكريًّا أيضًا.
وهكذا نجد أنّ أهل البيت لا يريدون مجرّد أتباع محبين لا دور ولا تأثير لهم، بل يريدون أن يكون أتباعهم من ذوي الكفاءات والمواهب والقدرات، كما أنهم لا يريدون للكفاءات من أتباعهم أن تنزوي وتنعزل، وإنّما تتصدى وتظهر كفاءتها، وتكون في مواقع النفوذ والتأثير، وتواجه كلّ محاولات الحصار والحجب، بالعطاء والسمو الأخلاقي، وإثبات كفاءتها وجدارتها.