أهداف الرسالة والجدليّات الشاغلة
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾[سورة البقرة، آية: 67].
حين يتحدث القرآن الكريم عن قصص الأمم السابقة، فليس ذلك بقصد التسلية، ولا تقديم معلومات تاريخية، لأنّ القرآن ليس كتاب تاريخ، ولا يقدّم القصص من أجل إبهاج النفوس والقلوب، وإنّما هو كتاب هداية.
القصص التي يعرضها القرآن يقصد منها تقديم الدروس والعبر لأجيال البشرية، مما حصل في التاريخ الماضي، كما يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾، ومن أكثر الأمم التي وردت قصصها في القرآن الكريم هي أمة بني إسرائيل (اليهود).
لماذا؟
لأنّ اليهود كانوا يشكلون التحدّي البارز أمام الدعوة الإسلامية آنذاك في المدينة المنورة، حيث كان لليهود وجود ونفوذ، فهم يشكلون قوة اقتصاديةً واجتماعيّةً وثقافية.
كانت ثقافتهم سائدة ووضعهم نافذًا، فهم أهل الكتاب، وفيهم طبقة من الكهنة والمنشغلين بعلوم الدين، ونقل أخبار الرسل والأنبياء، ولذلك ركز القرآن الكريم على ذكر قصصهم؛ لأنّ ثقافتهم كانت حاضرة، وكانت تشكل التحدي الأبرز أمام الرسالة الإسلامية وثقافتها الجديدة.
ومن تلك القصص التي ذكرها القرآن من تاريخ بني إسرائيل قصة البقرة، التي سُميت بها أكبر وأهم السور القرآنية (سورة البقرة).
قصة البقرة
وخلاصة القصة: أنّ شخصًا من بني إسرائيل قتل بشكل غامض، ويبدو أنه كان شخصية اجتماعية، ولم يعرف القاتل، فحدث نزاع بين قبائل بني إسرائيل بشأن هذه الحادثة، كلّ قبيلة تتهم الأخرى بالقتل، وتدفع التهمة عن نفسها وعن أفرادها، وأوشكت أن تقع بينهم فتنة أو حرب أهلية، ودرءًا للفتنة الداخلية توجهوا إلى نبي الله موسى ليقضي بينهم، حتى يُعرف القاتل ويُعاقب، ولا تحصل مشكلة أو حرب أهلية.
ولم تكن الأساليب الاعتيادية ممكنة لحلّ هذه القضية، ولا يمكن إهمالها، فأمر الله نبيّه أن يستخدم وسيلة إعجازية، ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ أمرهم الله أن يذبحوا بقرة، ثم يأخذون جزءًا منها فيضربون به جثة القتيل، لتعود له الحياة، ويصرح بقاتله، وتحلّ المشكلة.
حينما نقل لهم نبي الله موسى الأمر الإلهي ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ استنكروا الأمر وعدّوه استهزاء! ﴿قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً﴾؟
فردّ عليهم نبي الله موسى : ﴿قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾، أي إنّ الاستهزاء من عمل الجاهلين، وأنبياء الله مبرّؤون من ذلك، النبي لا يسخر من الناس ولا يستهزئ بهم، ولا يتخذ موقفًا يقوم به الجهال عادةً.
بعد أن أيقنوا جدّية المسألة، أجابوه كما ينقل القرآن الكريم: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ﴾، وعبارة «ربك» تتكرر في خطاب بني إسرائيل لموسى، وتنطوي على نوع من إساءة الأدب والسخرية، وكأن ربّ موسى غير ربهم!!
أجابهم: ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ﴾ ليست هرمة ولا صغيرة في السن، ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ﴾ متوسطة من حيث السن، ﴿َافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾ نفذوا أمر الله سبحانه.
بعض المجتمعات إذا لم تكن لديهم جدّية في التزام التعاليم والقوانين يفتعلون نقاشات حول القانون، حتى يتهربوا من تطبيقه!!
ومجتمع بني إسرائيل مثال واضح في ذلك، فقد عادوا إلى التساؤل ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا﴾ ومع هذا الإلحاح والجدل أجابهم الله سبحانه ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾؛ أي إنّها حسنة الصفرة لا يشوبها لون آخر.
ولم يكتف بنو إسرائيل بهذا، بل أصرّوا على لجاجهم، وضيّقوا دائرة اختيار البقرة على أنفسهم!!
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ﴾ يريدون مزيدًا من التوضيح بادّعاء: ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ وجاءهم الجواب: ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ أي ليست من النوع المذلل لحرث الأرض وسقيها، ﴿مُسلَّمَةٌ﴾ من العيوب كلها، ﴿لاَ شِيَةَ فِيهَا﴾ أي لا لون فيها من غيرها.
حينئذ: ﴿قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾.
بعد أن وجدوا بقرة بهذه السّمات، ذبحوها بالرغم من عدم رغبتهم في ذلك، فلو كان لهم مخرج يحاججون به ليتنصلوا من الموضوع لفعلوا!!
بعد أن ذكر القرآن تفاصيل القصة، عاد فلخّص الحادث بآيتين: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّاراْتُمْ فِيهَا﴾ أي فاختلفتم في القتل وتدافعتم فيه، ﴿وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾.
﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ أي اضربوا المقتول ببعض أجزاء البقرة، كي يحيى ويخبركم بقاتله. ﴿كَذَلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
رسالة القصة
لماذا يذكر القرآن الكريم هذه القصة، وتصبح عنوان هذه السورة؟
إنه الهدف الذي تحمله القصة وهو الاهتمام بمضمون الرسالة والتعاليم الدينية، وعدم الانشغال باللجاج والجدل والمحاججة، وهي المشكلة التي تعاني منها مختلف الأمم الدينية.
الدّين يحمل رسالة عليا، وفيه أهداف كبرى، يراد تحقيقها في المجتمع، ومن الخطأ أن تتخلى الأمة عن الأهداف وتنشغل بالتفاصيل والنقاشات والجدليات، وهكذا تتولد الصراعات بين أتباع المذاهب، وتحدث النزاعات داخل المذاهب، على قضايا جزئية جانبية، وتضيع الأهداف العليا للرسالة في زحمة الجدليات والنقاشات والاختلافات.
ورود هذه القصة في القرآن الكريم يريد توجيه المسلمين إلى هذه الفكرة، ورد عن الإمام علي : «إِنَّ لِلاْسْلاَمِ غَايَةً فانْتَهُوا إِلى غَايَتِهِ»[1] لا تنشغلوا بالجدل حول الجوانب الجزئية والتفصيلية من الدين.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار تعليقًا على هذه القصة: «وَقَدِ امْتَثَلَ سَلَفُنَا الْأَمْرَ فَلَمْ يُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَكَانَ الدِّينُ عِنْدَهُمْ فِطْرِيًّا سَاذَجًا وَحَنِيفِيًّا سَمْحًا، وَلَكِنْ مِمَّنْ خَلَفَهُمْ مَنْ عَمَدَ إِلَى مَا عَفَا اللهُ عَنْهُ فَاسْتَخْرَجَ لَهُ أَحْكَامًا اسْتَنْبَطَهَا بِاجْتِهَادِهِ، وَأَكْثَرُوا مِنْهَا حَتَّى صَارَ الدِّينُ حِمْلًا ثَقِيلًا عَلَى الْأُمَّةِ فَسَئِمَتْهُ وَمَلَّتْ، وَأَلْقَتْهُ وَخَلَّتْ»[2] .
ويقول السيد السبزواري في تفسيره مواهب الرحمن، إنّ مما يستفاد من الآيات: «مرجوحية كثرة السؤال والمداقة بالنسبة إلى الأحكام، بل إنها توجب التشديد في الأحكام، وقد يوجب العقاب وغضب الله تعالى، قال الله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾، وورد عن نبيّنا الأعظم : إنّ الله كره لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال»[3] .
أي لا تتعمقوا في التفاصيل وتغيبوا الهدف الأساس، والمضمون الذي جاءت به الرسالة، وقد حذّرت النصوص الدينية من التشدد ضمن عناوين ومصطلحات عديدة، فقد ورد عنه : «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا»[4] .
والتنطع لغة هو: التعمق والغلوّ في الكلام، مأخوذ من النِّطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كلّ تعمق قولًا وفعلًا.
وعنه : «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ»[5] .
وعنه : «إيّاكم والتعمق في الدين فإنّ الله تعالى قد جعله سهلًا»[6] .
في لسان العرب: المتعمق: المبالغ في الأمر المتشدّد فيه الذي يطلب أقصى غايته.
وورد أنّ رَسُولَ اللهِ خَطَبَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ»[7] .
وفي سنن الترمذي: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله ، وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِي الْقَدَرِ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيْهِ الرُّمَّانُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَوْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ؟، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الأَمْرِ، عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَلَّا تَتَنَازَعُوا فِيهِ»[8] ، هكذا يقول لهم النبي : جئت لكم برسالة لكي أنقذكم من الجهل، والتشتت، والتمزق، ولتكونوا روّادًا على مستوى البشرية، فلا تنشغلوا بهذه الجدليات التي لا تغيّر شيئًا من حياتكم وأموركم.
وهكذا وردت نصوص كثيرة تنهى عن الاشتغال بالجدل في التفاصيل الدينية.
ورد عن الإمام الكاظم أنه قال لعليّ بن يقطين: «مُرْ أصحابَكَ أن يَكُفّوا مِن ألسِنَتِهِم، ويَدَعُوا الخُصومَةَ فِي الدّينِ، ويَجتَهِدوا في عِبادَةِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ»[9] .
المهدي بين المضمون الجامع والتفاصيل الخلافية
ومن نماذج القضايا التي أغفل المسلمون فيها المضمون وانشغلوا بالتفاصيل قضية الإمام المهدي، إذ كلّ المسلمين يتفقون أنّ رسول الله تحدث عن خروج إمام من ذريته من ولد فاطمة ، يقوم بمهمة إصلاح البشرية جمعاء، ويملأُ الأرض قسطًا وعدلًا بعد ملئت ظلمًا وجورًا، وهناك أحاديث متواترة في هذا السياق، هذه القضية كان ينبغي أن تؤهل المسلمين للمهمة التي تحدث عنها رسول الله وهي: أنّ هذا الدين الذي شرفكم الله به ليس خاصًّا بقبيلة أو منطقة!
إنه يحمل قيمًا للإنسانية جمعاء، وعليكم أن تعملوا من أجل سيادة هذه القيم، ويتحدث عن الإمام المهدي باعتباره يخرج لنشر هذه القيم وخاصة قيمة العدالة.
لو قرأنا الروايات التي تتحدث عن الإمام المهدي ودوره ومهمته الأساس، وسألنا أنفسنا: ما هي هذه المهمة؟
هل يملأ الأرض مساجد وحسينيات؟
هل يملأ الأرض بالمظاهر الدينية؟!
إنّ الإمام سيملأ الأرض قسطًا وعدلًا، هذا هو المحور، والهدف الأساس.
أيها المسلمون، اتجهوا إلى قيمة العدل، افهموا دينكم باعتباره رسالة للإنسانية جمعاء، لكن المسلمين أغفلوا هذا الجانب وانشغلوا بالجدل حول تفاصيل قضية الإمام المهدي!!
بالطبع لا ضير إذا توفرت قناعة عند أحد الباحثين حول بعض التفاصيل، لكن لا ينبغي أن يتحول ذلك إلى جدل صارف عن المضمون الأساس لهذه القضية، وحتى في المجتمعات الشيعية نجد الانشغال حول توقيت خروج الإمام، وعلامات ظهوره، وقصص ملاقاته، وجدليات مختلفة في هذا الموضوع، لكن الرسالة الأهم في قضية الإمام المهدي تغفل وتنسى!!
القيمة العليا التي سيحملها الإمام ويحققها هي نشر العدل، فعلينا أن نتبنّى هذه القيمة، وأن نهيئ أنفسنا للعمل من أجلها في حياتنا الخاصة والعامة، وأن نفهم ديننا كرسالة للإنسانية جمعاء؛ لأنه «يملأ الأرض»، كلّ الأرض وليس دينًا خاصًّا لفئة!
هل استطعنا أن نقدّم الدين كرسالة صالحة للعالم كله؟!
ينبغي أن نهتم بهذا الاتجاه، ونركز على هذا المضمون.