العمل الاجتماعي بين التنظير والتصدي
ورد عن الإمام علي أنه قال: «أَوْضَعُ الْعِلْمِ مَا وُقِفَ عَلَى اللِّسَانِ، وَأَرْفَعُهُ مَا ظَهَرَ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأرْكَانِ»[1] .
لا يستغني العمل الاجتماعي عن جهود التفكير والتنظير، فلا بُدّ من وجود منظّرين ومفكرين ومثقفين، يرصدون واقع المجتمع، ويحلّلون أوضاعه، ويدرسون نقاط القوة والضعف فيه، ويضعون البرامج، ويقترحون المشاريع لمعالجة مشاكله، وتحقيق تطوره وتقدمه، فالعمل الاجتماعي لا ينبغي أن يسير على أساس الارتجالية والمزاجية والعفوية، بل يفترض أن يعتمد نهج التخطيط العلمي، وأن يستفيد من تطور النظريات والأبحاث الاجتماعية، وأن ترفده آراء المفكرين والمثقفين.
لقد درجت مجتمعاتنا المحلية على القيام بالأعمال التطوعية في حالة من الاسترسال غير المخطط، فيما قطعت المجتمعات المتقدمة أشواطًا بعيدة في مجال التخطيط ودراسة المشاريع، بل أصبح العمل الاجتماعي علمًا له مدارسه، وهناك تجارب في العمل الاجتماعي لا بُدّ من دراستها والاستفادة منها، وهذا يعني حاجة العمل الاجتماعي إلى التفكير والتنظير، وإلى آراء علماء ومثقفين.
في مجتمعنا مؤسسات ونشاطات اجتماعية فاعلة، من جمعيات خيرية وأندية رياضية، ولجان تنموية، وكيانات وفاعليات دينية وأدبية وثقافية، هذا الحراك الاجتماعي ينبغي أن يرفد بالتنظير والآراء، فمجتمعنا يزخر بالكفاءات الأكاديمية العلمية والثقافية، فقد أظهر مسح ديموغرافي أجرته هيئة الإحصاء السعودية أنّ إجمالي عدد السعوديين الذين يحملون درجة التخصص الجامعي العليا «الدكتوراه» في العام 2016، بلغ 44 ألفًا و792 متخصصًا، ووفقًا للمسح، بلغ عدد الحاصلين على شهادة «الماجستير» 152 ألفًا و472 متعلمًا، وحصل 35 ألفًا و749 متعلمًا على درجة «الدبلوم العالي»، فيما بلغ عدد حاملي الشهادة الجامعية مليونين و812 ألفًا و911 جامعيًّا، ومُنحت درجة الدبلوم دون الجامعي إلى 725 ألفًا و333 متعلمًا[2] .
ووفق الموقع الإلكتروني لوزارة التعليم، بلغ إجمالي عدد الجامعات في السعودية لعام 1437/1438هـ حوالي 28 جامعة حكومية، و30 جامعة أهلية وخاصة، بإجمالي 58 جامعة، بالإضافة إلى ما يقارب 16 كلية حكومية وخاصة وأهلية وعسكرية.
المؤسسات الاجتماعية والانفتاح على الكفاءات
وهنا يجب التأمل في مدى التفاعل والتواصل بين هذه الكفاءات وبين واقع العمل الاجتماعي، ما مقدار التفاعل بين الأكاديميين في مجتمعنا، وبين واقع العمل الاجتماعي وبرامجه القائمة؟
في مختلف التخصصات، هناك عدد كبير من الأكاديميين وحملة الشهادات والمثقفين وذوي الرأي، وكذلك علماء دين، لهم كتابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وكتب مؤلفة ومقالات منشورة.
لكن نسبة استفادة العمل الاجتماعي من الكفاءات الأكاديمية والثقافية لا تزال محدودة، فقلَّما تجد هذه الكفاءات في إدارات ولجان الجمعيات الخيرية والأندية الرياضية والبرامج الدينية.
بكلّ تأكيد هناك عناصر مشاركة وفاعلة، لها جهود مشكورة، لكنها محدودة، وهذا ما ينبغي التوقف عنده!
على مؤسساتنا الاجتماعية أن تسعى للاستفادة من هذه الكفاءات، بطلب المشورة وأخذ الآراء المقترحات، والدعوة للمشاركة.
قد يرى البعض أنّ صاحب الكفاءة العلمية أو الأستاذ الجامعي لا يتمكن من المشاركة العملية في البرامج التطوعية، فلا فائدة من دعوته!
لكن الرؤية العلمية للعمل التطوعي تحتاج إلى كفاءات أكاديمية، تسهم في تطوير العمل وفق دراسة وتخطيط، وكما قال الشاعر: (الرأي قبل شجاعة الشجعان).
إذا لم يأتِ من صاحب الكفاءة العلمية جهد عملي عضلي، فإنه قد يقدم رأيًا أو برنامجًا أو نظرية، تساعد في ترشيد العمل وترسيخه وتقدمه، ومعالجة ما يعتوره من مشاكل، من هنا ورد عن الإمام علي أنه قال لكميل: «يا كُمَيلُ، ما مِن حَرَكَةٍ إِلّا وأنتَ مُحتاجٌ فيها إِلى مَعرِفَةٍ»[3] .
وعن الإمام الصادق : «الْعَامِلُ عَلى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلى غَيْرِ الطَّرِيقِ، لَا يَزِيدُهُ سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلاَّ بُعْداً»[4] . وعنه عن آبائه عن رسول الله : «مَنْ عَمِلَ عَلى غَيْرِ عِلْمٍ، كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ»[5] .
هذه النصوص تؤكّد على أهمية المعرفة والفكر في العمل، وفِي طليعتها العمل الاجتماعي، لذلك على مؤسسات العمل الاجتماعي أن تنفتح على الأكاديميين وأصحاب الكفاءات والمثقفين وذوي الرأي.
بالطبع قد لا تتفق المؤسسة التطوعية مع كلّ ما يقدمه صاحب الرأي، لكنّ ذلك لا يمنع من الاستماع والتشاور والمناقشة، للوصول إلى أفضل الآراء، كما يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[سورة الزمر، الآية: 18].
الأكاديميون والعمل الاجتماعي
قد تكون لدى الأكاديميين والمثقفين ملاحظات وانتقادات على العمل الاجتماعي، فربما يرى الأكاديمي أنّ بعض الأنشطة الاجتماعية لا تعتمد المنهج العلمي، أو أنّ المتصدّين للعمل يعوزهم النضج العلمي والمعرفي، ومن حقّ صاحب الرأي أنّ يبدي ملاحظاته، فهو حقّ مكفول للجميع، لكن ماذا تفيد هذه الملاحظات والمثقف يعيش في برج عاجي، بعيدًا عن مجتمعه؟!
عليه أن ينزل إلى الساحة، ويقترب من العاملين، ويطرح عليهم وجهات نظره، ويرفع معنوياتهم بمشاركته، ومن خلال ذلك يمكننا معالجة نقاط الضعف في العمل الاجتماعي، فلا تتم المعالجة بانتقادها من بعد.
كما أنّ الأفكار تصبح أكثر نضجًا من خلال الممارسة والتطبيق العملي، فالعمل له معادلاته وظروفه التي تختبر واقعية الأفكار، وهو ما يطبق من الناحية العملية، حيث تتاح للنظريات العلمية فرصة للاختبار والتجربة، وتسجل عليها الملاحظات، فهذه الفكرة التي يحملها الأكاديمي أو المثقف قد تكون صحيحة وقد تكون خطأ، وقد تحمل بعض الثغرات، ولا يمكن تبيّن ذلك إلا من خلال التطبيق العملي، من هنا لا بُدّ من اقتراب الأكاديمي من أبناء مجتمعه، وهو ما يعود عليه بالفائدة، فالعمل الاجتماعي له انعكاسات إيجابية على المشارك، سواء من الناحية النفسية أو الاجتماعية.
بالطبع هناك من تمنعه التزاماته الوظيفية من المشاركة، لضيق وقته، وهو في الواقع يقوم بدوره في خدمة المجتمع والوطن، كبعض الباحثين وأساتذة الجامعات، حيث تأخذ الوظيفة منه جلّ وقته.
المساهمة في معالجة المشاكل
كلّ مجتمع يعيش مشاكله الخاصة، سواء في المجال الصحي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وصاحب الكفاءة العلمية حينما يقترب من مجتمعه ويتلمس حاجاته، يتمكن من المساهمة في حلّ مشاكل الناس، فيستفيد علميًّا وعمليًّا، ويستثمر كفاءته في إيجاد حلول لهذه المشاكل.
لذلك أوجّه الدعوة لكلّ أبنائنا الأعزاء الذين نفخر بهم من الأكاديميين والمثقفين للمشاركة الاجتماعية، فهم رصيد ضخم، ومكسب كبير في مجتمعنا، نأمل منهم أن ينزلوا إلى ساحة العمل الاجتماعي، ويشاركوا في الأعمال التطوعية بالمقدار الممكن المتاح لهم، مما يعطي الفرصة لإنضاج العمل الاجتماعي، حيث يتم تلاقح الرأي والعمل في المجتمع، وهذا ما تشير إليه وتؤكد عليه النصوص الدينية.
ورد عن الإمام علي أنه قال: «ما زَكا العِلمُ بِمِثلِ العَمَلِ بِهِ»[6] .
وقال فيما روي عنه: «أَوْضَعُ الْعِلْمِ مَا وُقِفَ عَلَى اللِّسَانِ، وَأَرْفَعُهُ مَا ظَهَرَ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ»[7] .
(زكا العلم) إما من النمو، أي ينمو ويزيد، وإما من التصفية أي ينضج ويتبلور.
(أَوْضَعُ الْعِلْمِ) أي أدنى العلم، المستوى القليل الضعيف، (مَا وُقِفَ عَلَى اللِّسَانِ) حيث يكون الانتقاد المجرد ديدن بعض الناس، يتحدثون في المجالس منتقدين العمل والعاملين، دون أن يكون لهم دور أو تفاعل حقيقي!
(وَأَرْفَعُهُ مَا ظَهَرَ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ) أي إنّ العلم يتحول إلى ممارسة عملية وتجربة فعلية.
وورد عن الإمام الصادق أنه قال: «الْعِلْمُ مَقْرُونٌ إِلَى الْعَمَلِ؛ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، وَمَنْ عَمِلَ عَلِمَ، وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ، وَإِلاَّ ارْتَحَلَ عَنْهُ»[8] ، فمن خلال العمل تبرز الملاحظات ويصار إلى التطوير.
نرجو أن يوفق مجتمعنا للاستفادة من كلّ الطاقات والكفاءات من أبنائه، ونرجو أن يتوفق أصحاب الكفاءات الفكرية والثقافية للمشاركة مع أبناء مجتمعهم في أعمالهم التطوعية والأهلية، مع الشكر والتقدير لكلّ الجهود المبذولة من قبل كلّ الشرائح والجهات، لكننا نطمح إلى تفاعل أكبر وأوسع، نأمل من الأكاديميين أن يكونوا في طليعة العاملين في هذه المؤسسات ومجالس إدارتها، سواء في الجمعيات الخيرية أو الأندية واللجان المختلفة الموجودة في المجتمع.
نسأل الله أن يوفق الجميع للخير والصلاح.