مرض التوحّد وإنسانية المجتمع
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [سورة الانفطار، الآيات: 6-8].
خلق الله تعالى الإنسان على هيئة هي الأكثر روعة وجمالًا من بين سائر المخلوقات. فقد جعله الله في أبهى صورة، كما عبّرت عن ذلك الآية الكريمة ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾.
كما حبى الخالق سبحانه وتعالى الإنسان بأفضل نظام متقن في خلقته وإدارة مملكة جسمه، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾.
وقد دعا القرآن الكريم الإنسان في جملة من الآيات إلى التأمّل في نفسه ووجوده، بغرض معرفة قيمته وليدرك فضل الله تعالى عليه، ومن أجل أن يحسن ادارة ذاته، قال تعالى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾، كما ورد عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنه قال: «من عرف نفسه عرف ربه»[1] ، فالتأمّل في النفس هو سبيل إلى معرفة الخالق عزّ وجلّ.
وظيفة الدماغ والإتقان الإلهي
ولو شئنا الحديث عن أهمّ جهاز عند الإنسان، الذي من خلاله يدير ويتحكم في كيانه وحياته، فسيتمثل ذلك في الدماغ. الذي هو مركز التحكم الرئيس في الجسم، حيث يستقبل عن طريق الأعصاب جميع المعطيات الحسية والمعلومات الواردة من داخل وخارج الجسم، ليقوم بتحليلها بسرعة فائقة، وليصدر على أثرها ردود الأفعال الملائمة، فبمجرد أن تقع يد الإنسان ـ مثلاً ـ على جسم حارّ أو بارد، فإنّ الجهاز العصبي يرسل معلومة فورية للدماغ، ليصدر عنه بلمح البصر ردّ الفعل المناسب، سواء بإبعاد اليد عن ذلك الجسم أم غير ذلك من تصرف يقتضيه المقام، وهكذا الحال بالنسبة للنظر أو السمع وسائر الحواس.
إنّ هذه الرسائل التي يرسلها الدماغ هي التي تنظم حركة ووظائف الجسم. كما يقوم الدماغ أيضًا بتخزين المعلومات الخاصة بالخبرات السابقة، الأمر الذي يساعد الفرد على التعلم والتذكر والتصرف بناءً على تلك الخبرات. وغنيٌّ عن القول إنّ الدماغ هو المصدر الأساس للأفكار والانفعالات عند الإنسان.
وكما هو معروف علميًّا يبلغ وزن الدماغ عند حديثي الولادة نحو نصف كيلو غرام، ويرتفع الوزن إلى كيلو وأربعة من عشرة عند الأطفال في سنّ السادسة من العمر، والحدّ الأقصى لوزن الدماغ عند الإنسان لا يتعدّى اثنين بالمئة من وزن جسمه. ومع ذلك يستهلك الدماغ بمفرده نحو 20 بالمئة من الأوكسجين الذي يستهلكه الجسم، وتقوم بإمداده به شبكة من الأوعية الدموية إلى جانب الغذاء الضروري. وأقصى مدة يستطيع فيها الدماغ الاستغناء عن الأوكسجين لا تتعدّى مدة الثلاث إلى خمس دقائق فقط، عدا عن ذلك قد يكون الدماغ عرضة للتلف.
ويحتوي الدماغ البشري على ما يتراوح بين عشرة ومئة بليون عصبون، تتشكل خلال الأشهر القليلة التي تعقب الولادة. وحينما يكون وضع الدماغ سليمًا، فإنّ ذلك ينعكس على سلامة الإنسان واتّساق حياته، وعلى النقيض من ذلك، إذا طرأ أيّ خلل وظيفي أو اضطراب في عمل الدماغ، فلربما انعكس ذلك على هيئة إعاقة دائمة تلمّ بالإنسان.
التوحّد خلل في وظائف الدماغ
وتتعدّد الإعاقات الناتجة عن الخلل في وظائف الدماغ أو النظام العصبي المرتبط به. إحدى هذه الإعاقات هي ما يعرف بمرض التوحّد، وهو موضوع حديثنا بمناسبة اليوم العالمي للتوعية بمرض التوحّد، المصادف للثاني من شهر إبريل من كلّ عام، الذي أعلنته الأمم المتحدة اعتبارًا من عام 2008، ليبدأ العالم بعدها الاحتفاء بهذا اليوم، بغرض تسليط الأضواء على المرض.
ووفقًا للتقارير الطبية يأتي مرض التوحّد نتيجة عروض خلل وظيفي في الدماغ، لكن لم يقف العلم حتى اليوم على إجابة شافية حول أسباب نشأة هذا المرض، فمن غير المعلوم حتى الآن ما إذا كان منشأ المرض أسباب وراثية، أم هو مرتبط بعوارض متعلقة بفترة الحمل، أم لخلل طارئ يصاحب الولادة، أو المرحلة الأولى لطفولة الإنسان، كلّ هذه الاحتمالات ما تزال مطروحة من قبل العلماء المختصّين، لكنهم وبالرغم من الأبحاث الطويلة لم يخلصوا حتى الآن إلى إجابة حاسمة في هذا الشأن.
وتفيد التقارير أنّ هناك ما يناهز 67 مليون مصاب بمرض التوحّد عبر العالم. ويوجد في المملكة وحدها ما يتراوح بين 320 و 350 ألف حالة من مرضى التوحّد. واللافت أنّ هناك اتّساعًا في رقعة انتشار المرض، وسط تزايد أكبر في نسبة انتشاره بين الأطفال الذكور، بما يصل إلى نسبة أربعة أضعاف العدد قياسًا على الإناث، فهناك ثلاثة إلى أربعة أطفال ذكور مصابين بالتوحّد مقابل كلّ طفلة مصابة.
وبحسب المختصين يساهم الكشف المبكر عن المرض في التخفيف من تداعياته على الطفل. وللإشارة إلى بعض أعراض المرض، هناك منها ما ينعكس على القدرات اللغوية للطفل، فقد يشعر بثقل في اللسان ولا يكون قادرًا على التلفظ بالكلمات على نحو واضح، كما يتجلّى ذلك أيضًا في سلوك الطفل المصاب ومدى تفاعله مع الوسط المحيط به، بحيث لا يبدي سلوكًا متوازنًا على غرار الأطفال الأصحّاء، علاوة على ردّات الفعل غير الإيجابية التي قد تصدر منه، فقد لا يستجيب إلى النداء بسرعة، ولا يدرك جيّدًا معنى قرع جرس الباب، أو رنين الهاتف. ويشير المختصون إلى أعراض متفاوتة على مرضى التوحّد، سيما بالنظر إلى حداثة اكتشاف وتشخيص المرض التي لم يمضِ عليها سوى 75 سنة تقريبًا، على يد الطبيب الأمريكي ليو كانر، لذلك ما يزال مرض التوحّد هو الأكثر غموضًا من بين مختلف الاضطرابات العصبية والذهنية لدى الأطفال.
وقد أثارت أحدث التقارير الطبية حول مرض التوحّد صدمة لدى الأوساط المعنية. فقد أورد أحد التقارير التي أشهرها مركز السيطرة والتحكم بالأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة سنة 2012 بشأن انتشار مرض التوحّد، بأنّ هناك طفلًا واحدًا مصابًا بالتوحّد من بين كلّ 88 طفل دون سنّ الثامنة، وسط تصاعد في الأرقام بين سنة وأخرى، فقد كان معدل الإصابة بالمرض في عام 2000 إلى 2002 يبلغ إصابة واحدة من بين كلّ 150 طفلًا، لتزيد النسبة في عام 2004 بمعدل إصابة واحدة من بين كلّ 125 طفلًا، وليتصاعد الرقم في عام 2006 بمعدل إصابة من بين كلّ 110 أطفال، ليبلغ المعدّل في عام 2008 سقف الإصابة الواحدة من بين كلّ 88 طفلًا، وعلى هذا النحو بلغ المعدل في عام 2010 إصابة واحدة من بين كلّ 68 طفلًا.
إنّ المعدل المتسارع لانتشار مرض التوحّد عبر العالم يفرض على البشرية أن تولي هذا المرض اهتمامًا أكبر على صعيد الأبحاث والدراسات. وليت البشرية توفر قسطًا من إنفاقها في مجال الصناعات العسكرية وإنتاج الأسلحة الفتاكة والمتاجرة بها، لتصب جانبًا من تلك الجهود في مجالات البحث العلمي التي تفيد الإنسان وتحفظ مستقبل البشرية.
رسالة إلى عوائل التوحّديين
وبمناسبة اليوم العالمي للتوعية بمرض التوحّد، ينبغي في هذا المقام أن نوجّه ثلاث رسائل: الأولى موجهة إلى العائلة المبتلاة بوجود مصاب بمرض التوحّد من بين أفرادها، فقد كانت العائلات في الماضي تعيش شكلًا من أشكال الشعور بالإثم والتذمّر الداخلي، إلى جانب الخجل الاجتماعي جرّاء معرفة الناس أن لدى العائلة طفلًا مصابًا بالإعاقة، غير أنّ المجتمعات البشرية باتت اليوم أكثر وعيًا، وصارت تعترف بحقيقة المرض باعتبارها أمرًا واقعًا، الأمر الذي انعكس على نمط التعاطي مع المرض على نحو بات أكثر وعيًا ونضجًا.
من هنا ينبغي للعائلة التي تكتشف المرض عند أحد أفرادها، أن تستشعر الرضا بقضاء الله وقدره، فلا خيار ولا يد لها في الأمر، ولا بُدّ أن تكون نفوس أفراد العائلة مفعمة بالثقة والاطمئنان بقضاء الله وقدره، وأن يعتبروا الأمر نوعًا من الامتحان الإلهي، وهذا ما يفرض التعامل مع الطفل المريض تعاملًا سليمًا. سيما وأنّ بإمكان العائلة أن تساهم في تحسّن حالة الطفل المصاب، متى ما أولت ذلك اهتمامًا خاصًّا، وتحلت بالوعي الكافي بالمرض، فالطفل التوحّدي بإمكانه اكتساب بعض المهارات والخبرات، ومن ذلك ما يتعلق بتناول الطعام والنظافة الشخصية وارتداء الملابس، وإن كان ذلك على نحو أكثر بطئًا من الطفل غير المصاب. وقد لفت نظري في هذا الصدد عدد من الإصدارات عن الجمعية السعودية للتوحّد تناولت سبل التعامل مع الأطفال المصابين بالتوحّد. وهي كتب علمية ميسّرة نافعة وبإمكان أيّ عائلة الحصول عليها.
استثارة الحسّ الإنساني
أمّا الرسالة الثانية التي ينبغي أن نتناولها بمناسبة اليوم العالمي للتوحّد فهي موجهة للمجتمع. إذ ينبغي استثارة الحس الإنساني تجاه هذه الشريحة، فهؤلاء المصابون هم بشر، على الجميع أن يتعامل معهم بعناية واهتمام خاص.
إنّ مما يؤسف عليه أنّ هناك فئة من الناس لا تجيد طريقة التعامل مع المصابين ببعض الإعاقات الذهنية، لذلك تجد بعضهم يتعامل مع هؤلاء إمّا بالسخرية أو الابتعاد عنهم، كما لو كانوا مصابين بأمراض معدية، وليتهم علموا أنّ وجود هؤلاء هو امتحان إلهي للمجتمع. وليس من قبيل المبالغة القول إنّ حقيقة إنسانية الإنسان إنّما تتمظهر في نمط تعامله مع أفراد هذه الفئة الضعيفة. وقد راق لي رؤية أحد المؤمنين ممن يحضر للصلاة معنا في المسجد برفقة ابنه المصاب بالتوحّد، حيث لا ينبغي بأيّ حالٍ عزل هؤلاء عن محيطهم الاجتماعي، وإنما ينبغي إدماجهم اجتماعيًّا، من خلال الحضور في المساجد والحسينيات والأندية الرياضية والمجالس العائلية، فذلك ما يساعدهم على الصعيد النفسي، علاوة على إكسابهم المزيد من المهارات والخبرات، وكلّ ذلك بخلاف ما تقوم به بعض العوائل التي تحجب طفلها عن أنظار الناس خشية الإحراج، وهذا خطأ فادح يرتكب بحقّ الطفل المصاب. ينبغي القول إنّ مرافقة الوالدين للطفل التوحّدي ضمن الأماكن العامة، يتضمن إشارة قوية إلى حجم الدور الذي يقومان به تجاه ابنهما المصاب، وبذلك يستحقان الإعجاب والتقدير، علاوة على استحقاقهما الثواب العظيم من الله تعالى.
الحاجة إلى المراكز المتخصصة
واستطرادًا، ينبغي أن يكون هناك المزيد من المؤسسات المتخصصة في التعامل مع فئة المصابين بالتوحّد. ومن أسف نقول، إننا لا نكاد نجد في محافظة كبيرة ذات كثافة سكانية عالية، كمحافظة القطيف أكثر من بضعة مراكز معنية بهذه الفئة، ومنها مركز تواصل التابع لجمعية القطيف الخيرية، ومركز زهور المستقبل التابع لجمعية تاروت الخيرية، ومركز إيلاف في مدينة صفوى، ومركز الرعاية النهارية في مدينة القطيف.
وفي إشارة إلى مدى شحّ المراكز المتخصصة في هذا المجال، اتّضح لي من خلال الحديث مع مركز تواصل بالقطيف أنّ لديهم 47 طفلًا توحّديًّا، في حين لا يزال أكثر من خمسين طفلًا مسجّلًا عندهم على قائمة الانتظار، نتيجة عدم القدرة على استيعابهم؛ نظرًا لمحدودية الإمكانات. إنّ المطلوب هو أضعاف المراكز الموجودة.
وقد حمّلني بعض المسؤولين عن مراكز ذوي الاحتياجات الخاصة رسالة للمجتمع. وخصّوا بها المتصدّين لتشييد المساجد والحسينيات، والقائمين على الأنشطة الدينية، وفحواها أن يولوا هذه الشريحة، بعضًا من اهتمامهم، ليس تقليلًا من قيمة أماكن العبادة، وإنّما لغرض لفت نظر المجتمع إلى الحاجة الماسة لوجود المراكز الخدمية لذوي الاحتياجات الخاصة، وأهميتها القصوى. وليس لديّ أدنى شك أنّ الأجر والثواب المرجو من تشييد هذه المراكز الخدمية سيكون أعظم وأكبر بمقدار الحاجة الملحّة لوجودها، إذ إنّ تعاظم الأجر والثواب بمقدار تعاظم الحاجة لعمل الخير. حيث ولله الحمد هناك وفرة في المساجد والحسينيات، وخير ما يحضرني في هذا المقام ما روي عن أمير المؤمنين: «إذا رأيت الناس قد أقبلوا على كثرة العمل، فأقبل على صفو العمل»[2] ، وذلك في إشارة منه عليه السلام إلى ضرورة الالتفات الى سدّ مناطق الفراغ عوضًا عن تكرار ما يقوم به الآخرون، والمراكز الخدمية لذوي الاحتياجات الخاصة تمثل منطقة فراغ كبيرة في وقتنا الراهن، وتستحقّ من الجميع الالتفات لها، وليثق المتبرع في هذا السبيل أن ثوابه وأجره على هذا العمل لا يقلّ بأيّ حالٍ عن أجره مقابل التبرع إلى الأنشطة الدينية إن لم يفقها أجرًا وثوابًا.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الجهات الرسمية تتحمل دفع الرسوم المترتبة عن كلّ طفل توحّدي للمراكز التي تستضيفهم، والبالغة نحو ثلاثين ألف ريال عن كلّ طفل، كما تدفع الوزارة إعانة مالية لكلّ عائلة لديها طفل توحّدي، وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ هذه الإعانة تعدّ من الناحية الشرعية حقًّا للولد المعاق، ولا يجوز للعائلة أن تتصرف فيه، وقد لفت نظري في هذا الصدد قول أحدهم بأنّ طفله المعاق «قد تبارك عليه»، فهو وعائلته يستفيدون من الإعانة الرسمية المخصصة لابنهم في الصرف على العمرة والزيارة، ولا أدري بأيّ وجه شرعي يستحلّون هذا الحقّ المخصّص للطفل المعاق، حيث لا يجوز لهم شرعًا التصرف بأيّ شيء من هذا المال إلا ضمن أوجه الإنفاق عليه.
وقد أكبرت كثيرًا ما شاهدت ضمن مهرجان مدرسي نظمته مدرسة النجاح الثانوية بالقطيف بتاريخ 20/6/1437ﻫ، حيث احتوى على أركان مخصّصة لذوي الاحتياجات الخاصة، والرسالة الضمنية هي أنّ وجود الإعاقة لا يعني نهاية دور المعاق في المجتمع، سيما لجهة الإمكانية المتوفرة لاكتساب هذه الفئة القدرات والمهارات، وقد عرضت تلك الأركان المدرسية جانبًا من أعمال المعاقين ومعروضاتهم، مما يشير إلى إمكانية تطورهم على صعيد مختلف المهارات، والأهم هو شعور أفراد هذه الفئة بأنّ لهم قيمة في الحياة، وأنّهم أرقام معترف بها في المجتمع الذي يعيشون فيه.
للعاملين في مراكز ذوي الاحتياجات
والرسالة الأخيرة موجّهة للعاملين في المراكز الخاصة بذوي الاحتياجات. إنّ المعروف عالميًّا، أنّ العمل في هذا النوع من المراكز منوط بمن يحملون مؤهلات متقدمة، فلا يدخل ضمن هذه المراكز إلّا من كان يحمل شهادات عليا، إلى جانب امتلاكه الخبرات الكافية، والتدريب اللازم للتعامل مع هذه الفئة.
ولكن بالنظر إلى حداثة هذه المؤسسات في مجتمعنا، فإننا مدعوون لتوفير المزيد من الخبرات وتأهيل المتخصصين. وبالرغم من إدراكنا لمدى التعب والعناء الذي يتطلّبه العمل مع هذه الشريحة، إلّا أنه يبقى عملًا يكتنفه الكثير من الإنسانية. وقد تحدّثت إلى بعض الأخوات العاملات في هذه المراكز، وأسعدني كثيرًا ما لمسته عندهنّ من شعور بالسعادة، كونهنّ يقمن بعمل إنساني كبير، وهو كذلك بالفعل.
من هنا، لا بُدّ من تشجيع العاملين في هذه المراكز، من حيث المكافآت المالية والتقدير والاحترام.
إنّ علينا أن ندرك ونحن نستقبل اليوم العالمي للتوعية بمرض التوحّد، بأنّ العمل في هذا المجال، تتجلّى فيها إنسانية المجتمع، تمامًا كما يتجلى الاهتمام الديني في وجود الأماكن العبادية. إنّ الحالة الدينية في أيّ مجتمع ستكون فارغة من أيّ مضمون وستبقى مجرّد طقوس ظاهرية، إن لم تفرز الوجه الإنساني، وتكرّس الحالة الإنسانية في المجتمع، هذا ليس مجرّد كلام انطباعي، إنّما هو تعبير عن جوهر الدين، حيث ورد في الحديث عن أبي عبدالله قال: قال رسول الله: «الخلق عيال الله فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله»[3] ، فالدين يعتبر مقياس التدين الصادق يتمثل في الاهتمام بمناطق الضعف في المجتمع، قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾، فالآية تشير بوضوح إلى أنّ المكذب بالدين ليس هو المتكاسل في صلاته وصيامه، وإنّما هو ذاك الذي يضطهد اليتيم ولا يطعم المسكين، وليس في ذلك تقليل لأهمية الصلاة، بقدر ما فيه من تركيز على المظهر الأهمّ للتديّن الصادق المتمثل في رعاية الأيتام وإطعام المساكين.
كلّ ذلك يدعونا إلى تركيز الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة، والوقوف بجانبهم، سائلين الله لهم الصحة والعافية، ولعائلاتهم الثبات والصبر وحسن التعامل ومزيد الأجر والثواب.