التوافق الصعب في المجتمعات العربية
قال تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [سورة النساء، الآية: 128].
إنّ بروز الخلافات والصّراعات في المجتمعات البشرية هو أمر طبيعي ومتوقع. ومردّ ذلك إمّا لاختلاف الآراء والأفكار بين الناس أفرادًا وفئات، أو لتضارب المصالح فيما بينهم، وكلا الأمرين مشروعان، فمن حقّ كلّ إنسان أو فئة أن يكون لها رأيها الخاص، كما أنّ من الطبيعي أن يدافع كلّ طرف عن مصالحه، وما يعتبره حقًّا من حقوقه. وقد يجري هذا الاختلاف والتضارب في المصالح ضمن حدوده المعقولة، وربما زاد عن حدّه ليتحول بذلك إلى اختلاف مدمّر ونزاع محتدم، تهرق بسببه الدماء وتنتهك الحرمات ويفتقد جرّاءه الأمن والاستقرار. لهذا كلّه تدعو الفطرة والعقل والشرع إلى الجلوس على طاولة الحوار عند اندلاع الخلافات، وأن يتحلّى الجميع بروحية واستعداد للوصول إلى الوفاق ووضع حدٍّ للصّراع.
النضج الاجتماعي يدفع للوفاق
لقد ساهم نضج المجتمعات البشرية، في السير بهذا الاتّجاه كما في المجتمعات المتقدمة، على نحوٍ صارت فيه النزاعات تعالج ضمن آليات واضحة تدار وفقها جميع الخلافات. استنادًا على وجود مرجعيات يحتكم لها في نهاية المطاف. هذه الآليات التنظيمية والقانونية باتت تشكل الحكم الفصل بين الدول والأحزاب السّياسية والشركات التجارية وسائر الأفراد، على نحوٍ يمنع من بلوغ الخلافات فيما بينها إلى حالة الاحتراب، الأمر الذي انعكس إيجابًا على استقرار الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في تلك البلاد.
وبخلاف ذلك نجد المجتمعات التي لم تبلغ مستوى من النضج، ولا تمتلك آليات تدير النزاعات من خلالها، ومنها أغلب مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فلا سبيل أمامها عند اندلاع أيّ خلافٍ، سوى التّصعيد وصولًا إلى الاحتراب المباشر، وقلّما تجد في هذه المنطقة خلافًا انتهى بالصلح عن طريق التفاهم والتقارب، الأمر الذي جعل مجتمعاتنا العربية والإسلامية ساحات مفتوحة للصراع المزمن وافتقاد الأمن المستمر.
من هنا يأتي السؤال؛ عن السبب في كون مجتمعاتنا أقرب ما تكون من النزاع منها إلى الوفاق، ولماذا يغدو الصلح والتفاهم والحوار أمورًا بعيدة المنال ولا تحظى بأولوية تذكر؟. هذا والجميع ينتمي إلى دين سماوي يضع قاعدة كبيرة للتصالح وحلّ والنزاعات، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾، وقد أورد المفسرون في معنى مفردة ﴿خَيْرٌ﴾ الواردة في الآية الكريمة، أنّها جاءت في مقام الصفة المشبهة، فكما يقال هذا رجل سمح، جاءت الآية لتصف الصلح بأنّه خير، وليس كما يمكن أن يُظنّ بأن مفردة الخير جاءت في مقام تفضيل الصّلح على النزاع، فذلك أمر بديهي ولا شك فيه.
التنازلات المتبادلة
غير أنّ السّير على طريق الصلح بين المتنازعين يتطلب سيطرة كبيرة على الانفعالات الذاتية. وقد وصف الله تعالى الحالة النفسية عند المتنازعين بالشح، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ﴾. فمن المعلوم وقت النزاعات أنّ النفوس عادة ما تكون معبّأة ضد بعضها بعضًا، حتى تغلب عليها صفة الشّح، أي البخل الشديد، فلا يريد أيّ من المتنازعين التنازل لخصمه عن شيءٍ يعتبره حقًّا من حقوقه، أو مكسبًا يريد الحصول عليه، مما يجعل قيام الصلح أمرًا بعيد المنال. سيّما وإن إبرام الاتفاقات وعقد المصالحات يتطلب قدرًا من التنازلات المتبادلة من جميع الأطراف.
إنّ حالة الشحّ هذه، تستولي على نفوس الكثيرين في مختلف السّاحات، ولعلنا نجد بين حين وآخر، كيف ينتقد البعض الأفرقاء المتنازعين في المجتمعات والدول المجاورة، مع أنّ نزاعاتهم تلك غالبًا ما تدور حول قضايا كبيرة، من مناصب الرئاسة ومواقع الحكم ووسائل السيطرة ومصادر الثروة، في حين يحجّم هؤلاء المنتقدون أنفسهم عن التنازل عن مواقفهم في قضايا أقلّ بكثير ولا تكاد تذكر بالقياس على قضايا الآخرين، من هنا يمكن القول إنّ المشكلة هي مشكلة أخلاقية ونفسية تعتمل في قلوب الكثيرين فتمنعهم من السير في طريق الصلح والتوافق!
افتعال المشاكل والأزمات
هناك مجتمعات بلغت درجة متقدمة من النضج الفكري والسياسي، ما جعلها أكثر ميلًا للحوار والتفاهم والوفاق. في حين بقيت مجتمعات أخرى مفتقدة لهذا النضج، فهي أكثر ميلًا للنزاع والشقاق، وربما لا تكتفي هذه المجتمعات بما عندها من مشاكل، حتى تجدها تفتش عن مزيدٍ من الأسباب التي تضاعف من أوار نزاعها الداخلي، عوضًا عن البحث عن قواسم مشتركة توصلهم للوفاق. بل إنّ حال البعض في مجتمعاتنا كحال الأعرابي الذي مدّ رجله في الطريق يومًا متحدّيًا أيّ معترض على تصرفه من القبائل الأخرى!، وما هي إلّا الرغبة في التنازع مع الآخرين دونما سبب! حتى اعترضه أحدهم وضربه بالسيف، ليثور بعد ذلك النزاع ويسقط القتلى بين أفراد القبيلتين!.
إنّ منشأ النزاعات العائلية والاجتماعية كثيرًا ما يكون نتيجة لأسباب مشابهة لتصرف هذا الأعرابي، حيث يفتّش بعضنا عن مشاكل ينشغل بها، ومواضيع يتنازع عليها، وإن لم تكن تمتّ لواقعنا بصلة ولا يعود النقاش بشأنها علينا بأيّ فائدة، وإلّا فما الداعي لأن يثار النقاش حول فضلات المعصومين وما إذا كانت طاهرة أم نجسة! أوليس من المعيب بحقّ المعصومين إثارة هذا النوع من المواضيع التي لا تقدم ولا تؤخر، وهل يمثل هذا الموضوع محلّ ابتلاء حتى يجري الخوض فيه! ولكن مع ذلك فقد انشغل به جمع من العلماء، وكتبت فيه الرسائل، ونشب بسببه النزاع والافتراق بين أتباع أهل البيت، كلّ ذلك نتيجة نقاش في موضوع لا محلّ له من الإعراب في وقتنا الراهن.
وعلى غرار ذلك، يأتي النقاش في مسألة إمكانية رؤية الله تعالى يوم القيامة، فريق يؤمن بإمكانية الرؤية ويستدلّ على ذلك من القرآن، وفريق آخر ينزّه الله عن الرؤية ويستدلّ على ذلك بالقرآن أيضًا، فإذا كانت هذه حدود المسألة فما الدّاعي لأن يتنازع القوم بشأنها فيتاسبّون ويتشاتمون، كما لو كانت مسألة يتوقف عليها مصيرنا الراهن!. وعلاوة على ما سبق، تروي كتب السير أنه جرى في وقت متقدّم من تاريخ المسلمين إثارة مسألة قدم القرآن أو خلق القرآن، هل أنّ القرآن مخلوق أم قديم، وكم من العلماء سجن وقتل على إثر هذا الخلاف غير المبرر. وإذا كانت الخلافات آنفة الذكر مرتبطة بخلافات فكرية، فإنّ هناك نوعًا آخر من النزاعات بشأن مواقف من موضوعات خارجية، فتنشب النزاعات على مسائل مفتعلة، على نحوٍ يظنّ معه المرء أنّ لدى بعض المجتمعات شهية مفرطة للمنازعات، مما يجعل من العسير التفاهم والحوار وعقد المصالحات فيما بينهم.
دوافع التعنت
ويمكن القول إنّ هناك ثلاثة أسباب تقف خلف حالة التعنّت عند نشوب الخلافات.
وأول هذه الأسباب هو سيطرة العواطف والانفعالات على حساب حالة التعقّل، إذ إنّه تارة يركن المرء إلى التفكر في حالة النزاع المندلع بينه وبين الطرف الآخر، فيضع بذلك ميزانًا عقلانيًا يقيس بموجبه الأرباح والخسائر المتأتية جرّاء هذا النزاع، وتارة أخرى يخضع الواحد إلى الانفعالات، ويغدو تحت سيطرة حبّ الانتقام من خصمه. ولتأجيج هذا الشعور في نفسه يقوم باستحضار الماضي، محمّلًا الطرف الآخر المسؤولية المطلقة عن أفعال سابقة لا يريد نسيانها ولا تجاوزها، حتى لو كان من مصلحته تجاوز الماضي سعيًا نحو إطفاء نائرة النزاع، لكنه يتجاهل ذلك نتيجة ما يعتمل في نفسه من الحنق وحبّ الانتقام، واستيلاء الحالة الانفعالية على تصرفاته ومواقفه.
أمّا السبب الثاني لحالة التعنّت فهي الرغبة في الغلبة وفرض الهيمنة على الآخرين، التي يقابلها الاعتراف بالآخرين وإبداء روح المشاركة معهم. والحاصل مع نزعة الغلبة هذه أنّ المتورط في النزاع لا يريد أن يخرج منه إلّا بإثبات غلبته وفرض هيمنته، وهذا منافٍ تمامًا للرغبة في الصلح والوصول للتوافق، الذي يتطلب الاعتراف بوجود الآخر في المقام الأول، والإقرار بأنّ لهذا الآخر حقوقًا ينبغي أن ينالها وأولها حقّه في الشراكة والاعتراف بالوجود.
أما السبب الثالث فهو فقدان المرجعية الدستورية التي يحتكم لها الجميع للفصل بين المتنازعين. فقد ساهم تقدم البشرية في اتخاذ المجتمعات المتحضرة مرجعيات دستورية عليا تحتكم لها عند نشوب الخلافات، وقانونًا يخضع له الجميع سواء بسواء، إضافة لوجود خبراء يقدمون رأيهم في تفسير المواد الدستورية، في مقابل ذلك تغيب في مجتمعاتنا القوانين الناظمة والمرجعيات الدستورية التي تفصل بين المتنازعين، وإن وجدت فإنهّا هي الأخرى تمثل مادة للنزاع والاختلاف في التطبيق والتضارب في تفسيرها.