دعاوى التكفير إجرام بحقّ الدين والأمة
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّـهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ [سورة النساء، الآية: 94].
في وقت باكر من تاريخ الإسلام ظهر اتجاه متطرف يحتكر الدين ويحجّمه في حدود موقفه السياسي ورأيه الفكري، فمن وافقه على ذلك فهو مسلم، ومن خالفه حكم بكفره.
وذلك هو اتجاه الخوارج الذين انشقوا عن جيش الإمام علي في معركة صفين رفضًا لقبول الإمام بالتحكيم وإيقاف الحرب مع جيش معاوية سنة 37هـ، حيث اعتبروا قبول التحكيم ذنباً من الكبائر، وقرروا أنّ مرتكب الكبيرة كافر. ومن هنا كانت بداية الاتجاهات التكفيرية في الأمة الإسلامية.
علي يرفض لغة التكفير
وكان موقف الإمام علي تجاههم موقفًا عظيمًا وحكيمًا، فقد واجه تمّردهم العسكري ومعارضتهم المسلحة، لكنه لم يستخدم معهم ولا مع غيرهم من مناوئيه لغة التكفير، ولا الحكم بخروجهم من الدين.
وقد جاء في وسائل الشيعة عن الإمام محمد الباقر : «أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ يَنْسُبُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ حَرْبِهِ إِلَى اَلشِّرْكِ وَلاَ إِلَى اَلنِّفَاقِ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُمْ إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا»[1] .
وجاء في مصنف ابن أبي شيبة: «سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ أَهْلِ الْجَمَلِ: أَمُشْرِكُونَ هُمْ؟ قَالَ: مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا، قِيلَ: أَمُنَافِقُونَ هُمْ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلّا قَلِيلًا، قِيلَ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا»[2] .
وهكذا وضع الإمام القضية في إطارها السياسي بتجريم بغيهم واستخدامهم للعنف، ولم يوظف الموقف دينيًّا فيحكم عليهم بالكفر والشرك.
وعَنْ كَثِيرِ بْنِ نِمْرٍ، قَالَ: «بَيْنَا أَنَا فِي الْجُمُعَةِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، عَلَى الْمِنْبَرِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، ثُمَّ قَامُوا مِنْ نَوَاحِي الْمَسْجِدِ يُحَكِّمُونَ اللَّهَ فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِيَدِهِ: اجْلِسُوا، نَعَمْ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، كَلِمَةُ حَقٍّ يُبْتَغَى بِهَا بَاطِلٌ، حُكْمُ اللَّهِ يُنْتَظَرُ فِيكُمْ، ألا إنَّ لَكُمْ عِنْدِي ثَلَاثُ خِلَالٍ مَا كُنْتُمْ مَعَنَا، لَنْ نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يَذْكُرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَلَا نَمْنَعُكُمْ فَيْئًا مَا كَانَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلَا نُقَاتِلُكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُوا، ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ»[3] .
قمة الإنصاف
وهنا نجد قمة الإنصاف في موقف الإمام علي ، فهو لم يرفض الشعار الذي رفعوه، بل رفض توظيفهم الخطأ للشعار، فقال: كلمة حقّ يبتغى بها باطل.
كما أنه قرر استمرار التعامل معهم كمواطنين مسلمين، لا يمنعون من دخول المساجد، ولا تقطع مخصصاتهم من بيت المال، ولا تستخدم ضدهم القوة ما لم يبادروا هم إلى إشهار السلاح.
ونقل الغزالي في المستصفى أنّ علي بن أبي طالب استشاره قضاته في البصرة في القضاء بشهادة أهل البصرة من الخوارج أو عدم قبول شهادتهم؟ فأمرهم بقبولها[4] .
الأئمة ونهجهم ضد التكفير
وموقف علي هذا التزام بنهج القرآن في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ ونهج رسول الله الذي ورد عنه أنه قال: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَصَلَّى صَلاَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَهُوَ المُسْلِمُ، لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَى المُسْلِمِ»[5] .
وهذا هو الموقف الذي التزم به وانتهجه أئمة أهل البيت ، فإنهم كانوا يوجّهون أتباعهم ويربّون شيعتهم على أساس الأخوة الإسلامية الإيمانية مع سائر المسلمين، على اختلاف توجهاتهم السياسية والعقدية.
فقد ورد الإمام محمد الباقر في صحيح حمران بن أعين من جملة حديث: «وَاَلْإِسْلاَمُ مَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَهُوَ اَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ اَلنَّاسِ مِنَ اَلْفِرَقِ كُلِّهَا، وَبِهِ حُقِنَتِ اَلدِّمَاءُ، وَعَلَيْهِ جَرَتِ اَلْمَوَارِيثُ، وَجَازَ اَلنِّكَاحُ، وَاِجْتَمَعُوا عَلَى اَلصَّلاَةِ وَاَلزَّكَاةِ وَاَلصَّوْمِ وَاَلْحَجِّ، فَخَرَجُوا بِذَلِكَ مِنَ اَلْكُفْرِ وَأُضِيفُوا إِلَى اَلْإِيمَانِ»[6] .
وعن الإمام جعفر الصادق في خبر سماعة: «اَلْإِسْلاَمُ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ، وَاَلتَّصْدِيقُ بِرَسُولِ اَللَّهِ ، بِهِ حُقِنَتِ اَلدِّمَاءُ، وَعَلَيْهِ جَرَتِ اَلْمَنَاكِحُ وَاَلْمَوَارِيثُ، وَعَلَى ظَاهِرِهِ جَمَاعَةُ اَلنَّاسِ»[7] .
منحى التكفير في التراث الشيعي
نعم، هناك في تراث الشيعة روايات وأقوال تنحو منحى التكفير، كما في تراث سائر المذاهب، لكنّ تلك الروايات هناك نقاش في سند بعضها وفي دلالة بعضها الآخر، وحتى الصحيح منها تعارضه روايات راجحة. وكذلك فإنّ أقوال بعض الفقهاء حول التكفير تأخذ منحى الطرح النظري الذي لا يترتب عليه أثر عملي، وهو مردود أيضًا عند بقية الفقهاء.
إنّ جمهور فقهاء الشيعة مجمعون على الحكم بإسلام أبناء المذاهب الإسلامية وطهارتهم وحرمة دمائهم وأعراضهم، وجواز أكل ذبائحهم والتزاوج فيما بينهم.
أما اتهام جميع علماء الشيعة بأنهم يقولون بالكفر الواقعي لمخالفيهم فهو اتهام باطل ومدان ومرفوض، وإنه لمؤلم جداً أن يصدر مثل هذا القول ممن ينتمي إلى المذهب وإلى الحوزة العلمية فإنا لله وإنا إليه راجعون.
إنّ إثارة دعاوى التكفير بين الشيعة والسنة، ونبش ما في التراث الشيعي والسني من مساوئ، يعتبر إجرامًا بحقّ الدين والأمة، وخاصة في هذه الظروف الخطيرة الحرجة.
لكننا نراهن على وعي أبناء الأمة في تجاوز مثل هذه المواقف الملتبسة، وعدم السماح لها بإرباك الساحة، وإثارة التوترات الطائفية.
المرجعية العليا والموقف الصريح
إنّ رأي المذهب والطائفة تعبّر عنه المرجعية العليا المتمثلة في سماحة السيد السيستاني حفظه الله الذي أكدّ رأيه المعروف في فتوى صريحة بأنّ (المسلم غير الاثني عشري مسلم واقعًا وظاهرًا لا ظاهرًا فقط، ولذلك فإنّ عبادته كصلاته وصومه وحجه تكون مجزية ومبرئة لذمته من التكليف بها إذا كانت مستوفية الشروط).
ويتبنّى نفس الرأي المرجع الديني البارز في الحوزة العلمية في قم الشيخ حسين الوحيد الخرساني، حيث ناقش أدلة أصحاب الرأي الآخر وردها، منتهيًا إلى أنّ الصحيح هو المبنى الذي يعدّ المخالف مسلمًا حقيقيًا، وأنّ آثار الإسلامي وأحكامه مترتبة عليه واقعًا، كما جاء في تقرير بحثه بقلم الشيخ محمد رضا الأنصاري، بعنوان: (التَكْفِير في ضوء الفقه الشيعي)[8] .