الإساءة للرموز الدينية تهديد للسلم والتعايش
قال تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [سورة الحجر، الآيات: 94-95].
تسود العالم الإسلامي وهو يحتفي بأيام المولد النبوي الشريف، موجة من الألم والغضب، احتجاجًا على الإساءات المتكررة لشخصية النبي محمد من قبل بعض الجهات الغربية.
وحقّ للمسلمين أن يغضبوا بل من الواجب عليهم أن يغضبوا؛ لأنّ النيل من رسول الله هو جرح مؤلم لكرامتهم واعتداء على أهم مقدساتهم.
ومن المؤلم حقًّا إصرار هذه الجهات الغربية على تكرار هذه الاساءات وتجديدها عامًا بعد آخر، وتحت غطاء حرية التعبير عن الرأي، مع أنهم يجرّمون التعبير عن الرأي إذا كان تشكيكًا في بعض تفاصيل الهولوكوست وما يسمّونه العداء للساميّة.
وهل يصح التمسك بحرية التعبير عن رأي يثير الكراهية والصدام داخل الشعوب الأوربية نفسها، نظرًا للوجود الإسلامي ضمنها، وعلى مستوى العالم حيث يرفض ذلك أكثر من مليار ونصف مسلم على وجه الكرة الأرضية؟ وهل السّخرية والاستهزاء بالآخر الديني والحضاري يعتبر رأيًا؟
تأجيج الصراع بين المسلمين والغرب
إنّ هناك من يعمل لتأجيج الصراع والصدام بين المجتمعات الإسلامية وبين المجتمعات الغربية، كاليمين المتطرف، واللوبي الصهيوني، والتيارات العنصرية، التي يزعجها نمو الوجود الإسلامي في المجتمعات الغربية، حيث أصبح الإسلام هو الديانة الثانية في عدد من الدول الغربية كإسبانيا وفرنسا وبريطانيا ودول أخرى. وهناك إقبال على الإسلام من قبل أبناء المجتمعات الغربية الذين وجدوا فيه ما يبحثون عنه من معنى للذات والحياة، وشعور بالطمأنينة والاستقرار النفسي.
وتشير إحصاءات إلى أنّ 20 ألف أمريكي و23 ألف أوروبي يعتنقون الإسلام سنويًّا.
وفي تقرير نشره موقع (سي إن إن) بعنوان: النمو السريع للإسلام في العالم الغربي، يؤكد أنّ أعداد الذين يعتنقون الإسلام كلّ عام في العالم الغربي كبير جدًا وهو في تسارع مستمر.
ونشرت جريدة (الغارديان) البريطانية[1] أنّ الإسلام سيكون الديانة الأولى في العالم بحلول سنة 2060م ونقلت تقريرًا عن دراسة ديمغرافية لمركز (بيو) الأمريكي أنّ الإسلام مع نسبة نمو هي الأسرع بين الأديان سينتزع من المسيحية ريادة الترتيب العالمي في منتصف القرن الحادي والعشرين.
إثارة القلق من الإسلام
لذلك أصبح هناك من يثير القلق والخوف في المجتمعات الغربية من انتشار الإسلام، ومن أسلمة أوروبا، وصدرت تصريحات كثيرة في هذا السياق من جهات سياسية، ودينية كنسية ومؤسسات بحثية وإعلامية، ونشروا ثقافة (اسلاموفبيا).
ويسعى هؤلاء بنشر هذه الإساءات للإسلام وللنبي محمد أن يوقفوا انتشار الإسلام بتشويه سمعته، وباستدراج بعض المسلمين إلى ردود فعل مسيئة، كممارسة العنف والإرهاب، لخلق حاجز بين الإسلام وبين تلك المجتمعات.
كيف نواجه الإساءات
وهنا يجب الحذر من هذا الفخ الخطير، فإنّ ممارسة العنف والإرهاب باسم الدفاع عن النبي محمد كالذي حصل في مدينة نيس الفرنسية (الخميس 29 أكتوبر 2020م) من الاعتداء على كنيسة نوتردام وقتل حارس وامرأتين، هذا العمل هو إساءة أشدّ للإسلام ولرسول الله، من نشر تلك الرسوم المسيئة. والإسلام لا يقبل بمثل هذا العدوان الإجرامي على الأبرياء.
إنّ على المسلمين أن يواجهوا الإساءة لدينهم ونبيهم بالعمل الإيجابي، وذلك بتبيين حقائق الدين، وسيرة النبي للعالم بلغة عصرية حضارية، وأن يحتجوا على الإساءات بطريقة سلمية، ضمن قوانين وأنظمة الدول التي يعيشون فيها، وألّا تدفعهم هذه الإساءات للانطواء والانفصال عن مجتمعات تلك البلدان، بل عليهم أن يتجهوا أكثر للاندماج فيها، والمشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية بفاعلية ونشاط.
فذلك هو الذي يعزّز وجودهم وقوتهم، ويقدّم الصورة المشرقة عن دينهم وحضارتهم.
احترام المقدسات والرموز الدينية
وعلينا أن نرفع راية الدعوة إلى احترام الرموز الدينية لجميع الأديان والمذاهب، وأن تسعى حكومات البلاد الإسلامية، ومختلف المؤسسات، إلى تحقيق إجماع عالمي أممي على إدانة الإساءة للرموز الدينية لجميع الأمم والشعوب.
وهذا يعني أن نلتزم نحن بهذا السلوك الحضاري في داخلنا كمسلمين، بين مذاهبنا وطوائفنا المختلفة، وفيما بيننا وبين أتباع الديانات الأخرى. فلا يجوز لأبناء مذهب إسلامي أن يسيء إلى رموز المذهب الإسلامي الآخر؛ لأنّ تلك الإساءة تثير الكراهية والصدام بين الطوائف الإسلامية. فلا يحقّ للشيعي أن يسيء إلى رموز أهل السنة، ولا للسني أن يسخر من مقدّسات الشيعة، ووجود روايات وأقوال تبرر ذلك في تراث الطرفين هو نتاج لظرف سابق من الخصومات والنزاعات الطائفية التي يجب تجاوزها، والإصرار على الأخذ بتلك الروايات والأقوال ينسف وحدة الأمة، ويمزق مجتمعاتها وأوطانها، وذلك ما لا يرضاه الله ولا يقبله العقل.
إنّ ديننا يربينا على احترام الآخرين لنلزمهم باحترامنا، يقول تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ فَيَسُبُّوا اللَّـهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سورة الأنعام، الآية: 108]، فكلّ أمة وطائفة تنظر إلى رموزها وشعائرها باحترام وتقديس، وتردّ على من ينال منها بالمثل، فإذا اعتديتَ على مقدسات الآخرين ورموزهم الدينية، فسيواجهونك بالإساءة إلى رموزك ومقدساتك، وهنا يتورّط الجميع في خوض حرب دينية مذهبية يخسرون فيها جميعًا.
وورد عن رسول الله: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»[2] .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ سَبَّابًا، وَلَا فَحَّاشًا، وَلَا لَعَّانًا»[3] .
وورد عن الامام علي: «اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَانًا فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ»[4] .
وحينما سمع الإمام علي قومًا من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين قال: «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ»[5] .
وورد عن الإمام علي بن موسى الرضا أنه قال: «إِنَّ مُخَالِفِينَا وَضَعُوا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِنَا وَجَعَلُوهَا عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا اَلْغُلُوُّ، وَثَانِيهَا اَلتَّقْصِيرُ فِي أَمْرِنَا، وَثَالِثُهَا اَلتَّصْرِيحُ بِمَثَالِبِ أَعْدَائِنَا، فَإِذَا سَمِعَ اَلنَّاسُ اَلْغُلُوَّ فِينَا كَفَّرُوا شِيعَتَنَا وَنَسَبُوهُمْ إِلَى اَلْقَوْلِ بِرُبُوبِيَّتِنَا، وَإِذَا سَمِعُوا اَلتَّقْصِيرَ اِعْتَقَدُوهُ فِينَا، وَإِذَا سَمِعُوا مَثَالِبَ أَعْدَائِنَا بِأَسْمَائِهِمْ ثَلَبُونَا بِأَسْمَائِنَا»[6] . وهنا ينسب الإمام الرضا الروايات الواردة في مثالب المناوئين لأهل البيت أنها من وضع الوضاعين ولم تصدر عن أهل البيت.
نسأل الله أن يبارك لنا ولجميع المسلمين هذه المناسبة العظيمة، ذكرى ميلاد نبي الرحمة محمد، وأن يرفع ببركته البلاء والسّوء عنّا وعن جميع العباد، وأن يثبتنا على دينه ويرزقنا شفاعة محمد يوم القيامة.
لمشاهدة الخطبة:
https://www.youtube.com/watch?v=Xn2Rp6TaWB0