حقوق الإنسان في التربية النبوية

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خُطْبَةَ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ»[1]

في زمن أهدرت فيه إنسانية الإنسان، وفي عالم كان يسيطر فيه الأقوياء ويسحق الضعفاء، وفي مجتمع سادته العصبية القبلية والعنصرية العرقية، وفي قوم كانوا يحقّرون المرأة ويضطهدونها، جاء النبي محمد برسالة إلهية كان عنوانها كرامة الإنسان، وكان محور تشريعاتها إقرار حقوق الإنسان وتأكيد حمايتها.

وقد انتهج رسول الله مسلكين لتغيير ذلك الواقع الاجتماعي الجائر، ولبناء مجتمع إنساني جديد تُحترم فيه حقوق الإنسان، وتُصان حرمته وكرامته.

تأسيس ثقافة إنسانية

المسلك الأول: التأسيس لثقافة إنسانية في أذهان أبناء المجتمع، تنطلق من إعلاء قيمة الإنسان كإنسان، بغضّ النظر عن جنسه ولغته وعرقه ولونه وانتمائه الديني والاجتماعي، وحالته المادية.

ذلك أنّ التصورات العنصرية، وروح التعالي والكبر، هي أرضية العدوان بين بني البشر، وهي التي تصنع المبررات والدوافع لانتهاك حقوق الإنسان.

إنّ اعتقاد الرجل بأفضليته على المرأة، وأنّها دونه في الرتبة الإنسانية، وأنّها خلقت لاستمتاعه وخدمته، هو ما يسوّغ له اضطهادها وتهميشها.

وإنّ تصور أبناء عرق معيّن، أو قومية معينة، تفوقهم في أصل خلقتهم وتكوينهم، على أعراق وقوميات أخرى، وأنّهم شعب الله المختار، هو ما يدفعهم للهيمنة على الآخرين، واستعمارهم، ومصادرة إرادتهم.

وإنّ شعور الإنسان بالتعالي والكبر لانتمائه الديني، أو لثرائه الاقتصادي، هو ما يدفعه لتحقير الآخرين والاستهانة بحقوقهم.

لقد عانت البشرية طوال عهودها من انتشار مثل هذه التصورات، التي تدعي التفوق والتميز التكويني لفئة من الناس، وتحطّ من شأن وقدر من سواهم، مما يؤسس لتبرير العدوان وانتهاك الحقوق والحرمات.

فالنازية التي أطلق حركتها هتلر، كانت تبشر بتفوق العرق الآري، وأنّ اليهود والسلافيين والأقليات الأخرى هي في مرتبة دنيا، ويقضي ذلك بإبعاد غير الآريين عن وظائف الدولة، وبمنع الزيجات المختلطة، وبتعقيم المعاقين والمتخلفين عقلياً، وبمحاربة كلّ عرق غير آري[2].

واليهود والنصارى كانت تسود في أوساطهم نظرية الشعب المختار، التي تبرر ازدراء بقية الشعوب، والتجاوز على حقوقها، كما تحدث عن ذلك القرآن الكريم. يقول تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾ [سورة المائدة، آية: 18].

كما كان اليهود لا يحترمون أموال غير اليهود باعتبارهم أميين لا إثم في مصادرة حقوقهم، كما يقول عنهم تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [سورة آل عمران، آية: 75].

ولا تزال هذه الروح العنصرية تعكس آثارها على سلوك الحاملين لها، والمتلبسين بها، في عصرنا الحاضر، ففي أكثر الدول تقدمًا وإظهارًا للاهتمام بحقوق الإنسان وهي الولايات المتحدة الأمريكية، شاهد العالم في 25 مايو 2020م صورة الشرطي الذي يجثو بركبته على رقبة الشاب ذي البشرة السوداء (جورج فلويد - George Floyd) والذي كان يصرخ لا أستطيع التنفس قبل أن يموت اختناقًا. والتي كشفت عن عمق واتساع الحالة العنصرية، حيث سبقتها ولحقتها حوادث كثيرة، تجاوز عددها في عام 2019م (1038) حالة قتل شبيهة. إلى جانب الممارسات العنصرية المختلفة.

ففي مقالة نشرتها «النيويورك تايمز» في 2020/1/20 تحت عنوان: «كم من العنصرية تواجه في كلّ يوم؟» قام باحثون من جامعة روتغرز بطرح هذا السؤال على 101 مراهق أفرو-أمريكي. وقد رد هؤلاء بسرد نحو 5600 تجربة عنصرية تعرضوا لها خلال أسبوعين فقط؛ أي ما يعادل خمسة أفعال عنصرية (بالكلام المباشر أو الإيحاء أو التنمر أو العنف الجسدي أو الحرمان من حق أو ميزة إلخ)، يومياً لكلّ مراهق واحد[3].

وانطلقت على إثرها حركة احتجاجية في مختلف ولايات أمريكا تحت عنوان (حياة السود مهمة) شارك فيها أكثر من 20 مليون شخص، وترددت أصداؤها في عدد من الدول والمجتمعات، بمظاهرات تحمل نفس الشعار والعنوان.

إعلان الحرب على العنصرية

لقد أعلن رسول الله الحرب على كلّ تلك الأفكار الظلامية العنصرية، والتصورات القائمة على الأوهام، وضخَّ ثقافة جديدة تؤكد على وحدة الأصل والنوع الإنساني ذكورًا وإناثًا، ومن مختلف الأعراق والألوان، والانتماءات والطبقات.

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [سورة النساء، آية: 1]

أما اختلاف الأعراق والألوان بين بني البشر، وتنوع القوميات واللغات، فتلك مشيئة الله، لإظهار قدرته وإبداعه في الخلق والوجود.

يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [سورة الروم، آية: 17]

وهذا الاختلاف والتنوع بين بني البشر لا يبرر ادعاء التفاضل والتمايز، بل هو مدعاة للتعارف والاستفادة المتبادلة من خبرات وتجارب الحياة.

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ [سورة الحجرات، آية: 16]

إنّ الكرامة منحة إلهية لبني البشر بمختلف انتماءاتهم لا يصح مصادرتها من أحد منهم، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [سورة الإسراء، آية: 70]

فكلّ فرد من بني آدم هو مصداق لهذا العنوان الشامل، الذي لم تحصره الآية الكريمة في أبناء عرقٍ أو دينٍ معيّن.

وعلى نسق هذا الشمول في الآية الكريمة، جاء ما روي عن رسول الله «مَا مِنْ شَيْءٍ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنِ ابْنِ آدَمَ»[4].

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خُطْبَةَ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ»[5].

ولأهمية هذا المبدأ ومحوريته يؤكده رسول الله في أهم موقف دعوي تبليغي، في وسط أيام التشريق (11- 12-13 من شهر ذي الحجة) وبعد أن يبيّن هذا المبدأ بوضوح، يستجوب السامعين عن وصوله إلى أذهانهم: «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟»، وحين يُقرّون بذلك، يكلفهم بالتبشير بهذا المبدأ الإنساني، وإيصاله للآخرين «فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ».

إدانة الممارسات العنصرية

كان رسول الله يخوض معركة التغيير ومواجهة الروح العنصرية، واقتلاع آثارها المترسبة في النفوس، ليس عبر الخطاب التوعوي التثقيفي فقط، بل كان يراقب المظاهر والممارسات الخطأ التي تُمثّل إنهاكًا لحقوق الإنسان، فيتّخذَ منها موقف الإدانة الحاسم، والرفض الشديد، حتى لو كانت تلك الممارسة على مستوى كلمة جارحة، أو تصرف يوحي بازدراء وتحقير.

أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: «عَيَّرَ أَبُو ذَرٍّ بِلالا ًبِأُمِّهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ، وَإِنَّ بِلالًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ، فَأَخْبَرَهُ فَغَضِبَ، فَجَاءَ أَبُو ذَرٍّ وَلَمْ يَشْعُرْ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا أَعْرَضَكَ عَنِّي إِلا شَيْءٌ بَلَغَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَنْتَ الَّذِي تُعَيِّرُ بِلالاً بِأُمِّهِ؟ قَالَ النَّبِيُّ : وَالَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَحْلِفَ، مَا لأَحَدٍ عَلَيَّ فَضْلٌ إِلا بِعَمَلٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلا كَطَفِّ الصَّاعِ"»[6].

وعَنْ أَبِي عَبْدِاَللَّهِ جعفر الصادق قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مُوسِرٌ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ ، نَقِيُّ اَلثَّوْبِ، فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ ، فَجَاءَ رَجُلٌ مُعْسِرٌ، دَرِنُ اَلثَّوْبِ، فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِ اَلْمُوسِرِ، فَقَبَضَ اَلْمُوسِرُ ثِيَابَهُ مِنْ تَحْتِ فَخِذَيْهِ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اَللَّهِ : أَخِفْتَ أَنْ يَمَسَّكَ مِنْ فَقْرِهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: فَخِفْتَ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ غِنَاكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: فَخِفْتَ أَنْ يُوَسِّخَ ثِيَابَكَ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ إِنَّ لِي قَرِيناً يُزَيِّنُ لِي كُلَّ قَبِيحٍ، وَيُقَبِّحُ لِي كُلَّ حَسَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لَهُ نِصْفَ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ : لِلْمُعْسِرِ أَتَقْبَلُ؟ قَالَ: لاَ، فَقَالَ لَهُ اَلرَّجُلُ: وَلِمَ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَدْخُلَنِي مَا دَخَلَكَ»[7].

إيقاظ الضمير والوجدان

المسلك الثاني: الذي انتهجه رسول الله لبناء مجتمع إنساني حقوقي هو ايقاظ الضمير الإنساني، وتنمية الوجدان الأخلاقي، وتحفيز الحساسية والنفور في أعماق نفس الإنسان تجاه نزعات الظلم، والاعتداء على حقوق الآخرين.

وهذا هو جوهر الدين الذي جاء به رسول الله وعمل على ترسيخه في نفوس الناس وسلوكهم.

إنّ الدين ليس مجرّد فكرة يؤمن بها العقل، أو عقيدة ينطوي عليها القلب، ولا مجرّد عبادات وطقوس يؤديها الإنسان، بل هو فوق ذلك وأعمق من ذلك، إنه الورع الذي يحجز الإنسان عن محارم الله وانتهاك حقوق عباده.

الدين يتمثل في يقظة الضمير ورهافة الأحاسيس والمشاعر تجاه خلق الله، انطلاقًا من الإيمان بالله، والاعتقاد باطلاعه ورقابته على ما يختلج في نفس الإنسان من مشاعر، وما يصدر عنه من ممارسة وسلوك، وأنّ هناك حسابًا دقيقًا أمام الله، وجزاءً وعقابًا صارمًا تجاه أيّ عدوان وظلم للأبرياء. وأنه تعالى ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [سورة غافر، آية: 19]، ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿٧﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، آية: 7-8].

مشاهد في التربية على حقوق الإنسان

نجد في السيرة النبوية أنّ رسول الله كان يعطي الأولوية لإثارة الوجدان الداخلي في الإنسان ولتذكيره بالمسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى، في مجال تعامله مع الآخرين، حيث كان لا يدع فرصة، ولا يترك مناسبة، إلا ويستثمرها على هذا الصعيد التربوي لحماية حقوق الإنسان المادية والمعنوية.

ونلتقط من تلك المشاهد بعض النماذج والصور:

1/ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ إِذْ جَاءَ صَبِيٌّ حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَبِيهِ فِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَأَقْعَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى قَالَ: فَلَبِثَ قَلِيلًا فَجَاءَتِ ابْنَةٌ لَهُ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيْهِ فَمَسَحَ رَأْسَهَا وَأَقْعَدَهَا فِي الْأَرْضِ فَقَالَ رَسُولُ : فَهَلَّا عَلَى فَخِذِكَ الْأُخْرَى فَحَمَلَهَا عَلَى فَخِذِهِ الْأُخْرَى فَقَالَ : الْآنَ عَدَلْتَ»[8].

لاحظوا: إنّ رسول الله يعتبر التمييز في إغداق مشاعر الحب والحنان بين الولد والبنت الصغيرين، باحتضان الأب لولده على فخذه، وإجلاس ابنته على الأرض، يراه رسول الله نوعًا من الظلم، فينهى عنه، وحين استجاب الأب لتوجيه رسول الله ، قال له: «الْآنَ عَدَلْتَ».

2/ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: «كُنْتُ أَضْرِبُ غُلامًا لِي فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ حَرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ قَالَ: لَمَسَّتْكَ النَّارُ»[9]، ووردت إضافة في الحديث في مسند ابن حنبل، قول أبي مسعود: فحلفت ألا أضرب مملوكًا أبدًا[10].

3/ عن هِشَام بن حكيمِ بن حزامٍ، عنه : «إنَّ اللَّه يُعذِّبُ الذِينَ يُعذِّبُونَ النَّاس في الدُّنْيا»[11].

4/ وعن ابن عباس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لا يَقِفَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَوْقِفًا يُضْرَبُ فِيهِ أَحَدٌ ظُلْمًا، فَإِنَّ اللَّعْنَةَ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ حِينَ لَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ»[12].

وهنا يحمّل رسول الله المسؤولية لكلّ من شهد عدوانًا أو انتهاكًا لحقوق الإنسان، أن يدافع عن الضحايا وإلا فهو شريك في العدوان ومستحق لغضب الله تعالى ولعنته.

5/ وروى سليمان بن صرد، عنه أنه قال: «مَن كانَ يُؤمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلا يُرَوِّعَنَّ مُسلِمًا»[13]. وعن عبدالرحمن بن أبي ليلى: حَدَّثَنا أصحابُ رَسولِ اللّهِ أنَّهُم كانوا يَسيرونَ مَعَ رَسولِ اللّهِ في مَسير، فَنامَ رَجُلٌ مِنهُم، فَانطَلَقَ بَعضُهُم إلى نَبلٍ مَعَهُ فَأَخَذَها، فَلَمَّا استَيقَظَ الرَّجُلُ فَزِعَ، فَضَحِكَ القَومُ، فَقالَ : ما يُضحِكُكُم؟! فَقالوا: لا، إلّا أنّا أخَذنا نَبلَ هذا فَفَزِعَ، فَقالَ رَسولُ اللّهِ : «لا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أن يُرَوِّعَ مُسلِمًا»[14].

إنّ رسول الله يستنكر إيذاء مشاعر إنسان ولو على سبيل المزاح ولبرهة قصيرة من الوقت.

6/ وعنه : «فأَيُّ رَجُلٍ لَطَمَ امرَأَتَهُ لَطمَةً، أمَرَ اللّهُ عزّ وجلّ مالِكًا خازِنَ النّيرانِ فَيَلطِمُهُ عَلى حُرِّ وَجهِهِ سَبعينَ لَطمَةً في نارِ جَهَنَّمَ»[15].

إنّ قوامة الرجل على زوجته لا تسمح له انتهاك حقوقها وكرامتها، وممارسة العنف تجاهها، بل إنّ العقاب الإلهي شديد ومضاعف يوم القيامة على من يقترف هذا الجرم.

7/ وعن علي عنه : «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَن ظَلَمَ مَن لا يَجِدُ ناصِرًا غَيرَ اللّه»[16].

إنّ ضعف الطرف الآخر، قد يغري من يكون في موقع القدرة على ظلمه، لكن ذلك موجب للغضب الشديد من قبل الله تعالى، فعلى الإنسان أن يكون أكثر حذرًا وحساسية تجاه حقوق الضعفاء.

8/ عن أنس قال: قال رسول الله : «اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ»[17].

فالظلم مرفوضٌ، وانتهاك حقوق أي ّإنسانٍ جرمٌ ولو كان كافرًا مخالفًا في الدين، فإنّ الله يقبل شكواه ضدك ودعوته عليك دون أي مانع أو حجاب.

وبعد:

فهذا غيض من فيض جهود رسول الله في التأسيس لثقافة حقوق الإنسان، وتعزيزها وحمايتها، وتربية المجتمع على احترامها والالتزام بها.

ونحن نحتفل مع العالم باليوم العالمي لحقوق الإنسان العاشر من ديسمبر، وهو اليوم الذي صدر فيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948م، أي بعد 14 قرنًا من تلك الجهود التأسيسية العظيمة التي قام بها رسول الله ، فإنّ علينا أن نكشف للعالم هذا الوجه الإنساني الحضاري المشرق من ديننا، ومن سيرة نبينا . وهو أفضل جواب وردّ على المغرضين والمسيئين للإسلام ولرسوله العظيم.

والأهم من ذلك أن نرتقي بواقعنا كمسلمين لنكون أنموذجًا في الالتزام بحقوق الإنسان في أوطاننا ومجتمعاتنا.

علينا أن نقاوم النزعات العنصرية البغيضة في أفكارنا ومشاعرنا وسلوكنا تجاه من يختلف معنا في انتمائه العرقي أو القومي أو القبلي أو الديني أو المذهبي.

وألا نتساهل تجاه أيّ انتهاك لحقوق الإنسان في حياتنا العائلية والاجتماعية.

 

 

خطبة الجمعة 26 ربيع الثاني 1442هـ الموافق 11 ديسمبر 2020م.

[1] الألباني: الأحاديث الصحيحة، ح2700.
[2] عبدالوهاب كيالي: موسوعة السياسة، ج6 ص546.
[3] جريدة الخليج، العنصرية في أمريكا بالأرقام، 19 يونيو 2020.
[4] المتقي الهندي: كنز العمال، ح 34621.
[5] الألباني: الأحاديث الصحيحة، ح2700.
[6] البيهقي: شعب الإيمان، ح4758.
[7] الكليني: الكافي، ج2، ص262، ح11.
[8] النفقة على العيال لابن أبي الدنيا، ح36.
[9] صحيح مسلم، ح35.
[10] مسند ابن حنبل، ح17086.
[11] صحيح مسلم، ح2613.
[12] المعجم الكبير للطبراني، ح11511.
[13] المعجم الكبير: ج7 ص99 ح6487.
[14] مسند ابن حنبل: ح۲۳۱۲6.
[15] مستدرك الوسائل، ح16619.
[16] كنز العمال، ح7605.
[17] الألباني: سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح767.