عيسى ابن مريم رسول المحبة والسلام
﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿٤٥﴾ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٤٦﴾ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّـهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [آل عمران، الآية: 45-47]
الاحتفاء بميلاد المسيح
يحتفي العالم هذه الأيام بأعياد ميلاد نبي الله المسيح عيسى ابن مريم ، الذي أصبح ميلاده توقيتًا لبداية السنة الجديدة على المستوى العالمي، وفي ذلك تأكيد على أصالة الدين في تاريخ المجتمعات الإنسانية؛ لأنّ المناسبة ترتبط بحدث ديني، وعقيدة دينية ذات بعد غيبي إعجازي. إنّها ولادة شخص يدعو إلى الله، ويتلقى الوحي من الله، كما أنّ ولادته ذات طابع غيبي، حيث ولد من دون أب، وهي الحالة الوحيدة في تاريخ البشرية.
وقد سبقها خلق الله تعالى لآدم بدون أب ولا أم، وهذا ما ذكّر الله به المستغربين من خلق عيسى من دون أب، يقول تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [آل عمران، أية: 59]
وحتى أمه تعجبت من ذلك حينما بشرتها الملائكة ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿٤٥﴾ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٤٦﴾ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّـهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [آل عمران، الآية: 45-47]
ويمكن القول إنّ تجربة الاستنساخ، قد قرّبت الفكرة إلى الأذهان، وقللت من مستوى الغرابة، (كتجربة النعجة دولي التي تعتبر أول حيوان ثديي يتم تكوينه في غياب الحيوانات المنوية، ويتكاثر لا جنسيًا).
إنّ المسلمين والمسيحيين يعتقدون أنّ حمل مريم بعيسى جاء نتيجة تدخل رباني، عبّر عنها قوله تعالى: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء، آية: 91]. لكن اليهود اتهموا مريم في عفتها، يقول تعالى: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ [مريم، الآية: 156]
ومريم اسم الأنثى الوحيدة المذكورة في القرآن، أما النساء الأخريات فإنّهن يذكرن بألقابهن وكناهن، (أم موسى) و (أخت هارون)، و(امرأة فرعون)، و (وامرأة نوح) وهكذا.
وقد ذكر اسم مريم في القرآن الكريم 34 مرة 23 مرة مقرونًا باسم ابنها (عيسى ابن مريم) و11 مرة لاسمها بمفرده.
أما اسم عيسى فقد ورد 25 مرة في القرآن الكريم.
وهي تسمية قرآنية واسمه بالعبرية (يشوع) وترجموه في العربية (يسوع) وتعني (المنجي) و (المخلّص) الذي على يديه السعة والفرج.
أما وصف عيسى بقوله تعالى: ﴿بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ فلعلها إشارة لخلقه الاعجازي، بما ينطبق عليه قوله تعالى: ﴿كُن فَيَكُونُ﴾.
والمسيح إما بمعنى الماسح؛ لأنه كان يمسح بيده على المريض فيبرأ. أو الممسوح أي إنّ الله مسحه بالبركة.
وفي التراث اليهودي والمسيحي (الكتاب المقدس): المسيح من المسح. وهو صبّ الزيت والدهن على الشيء لتكريسه لخدمة الله وجعله مباركًا.
وتكلمه للناس في المهد هي المعجزة التي أرادها الله لتبرئة أمه مريم، يقول تعالى: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ﴿٢٧﴾ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴿٢٨﴾ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ﴿٢٩﴾ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ [مريم، آية: 27-30]
وكلام المسيح في المهد أثبته القرآن الكريم ولا وجود له في الأناجيل والتراث المسيحي.
وأما تكليمه للناس كهلًا فتلك معجزة أخرى حيث يرجع إلى الدنيا في عهد المهدي من آل محمد ويصلي خلفه، كما ذكرت ذلك الأحاديث الواردة عن النبي محمد في مصادر السنة والشيعة، فقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ، وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ[1].
كما رُوِيَ في بحار الأنوار عن الإمام الصادق عَنِ النَّبِيِّ أنَّهُ قَالَ: "مِنْ ذُرِّيَّتِي الْمَهْدِيُّ إِذَا خَرَجَ نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِنُصْرَتِهِ فَقَدَّمَهُ وَصَلَّى خَلْفَهُ"[2].
إنّ تعظيم نبي الله عيسى بن مريم والاحتفاء بذكره ليس شأنًا يخصّ المسيحيين، بل هو من صلب معتقداتنا الدينية كمسلمين، نؤمن بجميع الأنبياء ونعظمهم، وندرك المكانة الخاصة لنبي الله عيسى في القرآن الكريم، وليس هناك ما يمنع من الاحتفاء بذكرى ميلاده ضمن ما تحدث به القرآن الكريم وما ورد في التراث الإسلامي، كما لا مانع من تقديم التهاني لأيّ مسيحي بهذه المناسبة، بل هو أمر محبّذ وداخل ضمن حسن المعاشرة والمصاحبة لمن نعرف منهم، خاصة زملاؤنا في الدراسة أو العمل، أو من يعملون تحت إدارتنا، أو جيراننا أو أصدقائنا ومعارفنا.
الأخوة الإنسانية
والحديث عن نبي الله المسيح عيسى ابن مريم، وأعياد ميلاده يقود إلى الحديث عن العلاقة بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى، وخاصة المسيحيين، فالإسلام والمسيحية هما الديانتان الرئيستان في العالم لثلثي البشرية تقريبًا.
ومع الإقرار بالاختلاف العقدي والتشريعي بين الأديان، إلّا أنّ الأصل في العلاقة مع الآخر الديني حسبما يقرر القرآن الكريم هو البر والعدل.
يقول تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة، الآية: 8]
وقد كتب رسول الله في السنة الأولى للهجرة بعد ما استقرّ في المدينة المنورة صحيفة تنظم العلاقة بين المسلمين واليهود، جاء فيها: (وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ)[3]
وكتب لنصارى نجران رسالة جاء فيها: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ لِلْأُسْقُفِّ أَبِي الْحَارِثِ، وَكُلِّ أَسَاقِفَةِ نَجْرَانَ، وَكَهَنَتِهِمْ، وَرُهْبَانِهِمْ، وكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، جِوَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ لَا يُغَيَّرُ أُسْقُفٌّ مِنْ أُسْقُفَّتِهِ، وَلَا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلَا كَاهِنٌ مِنْ كَهَانَتِهِ وَلَا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَلَا سُلْطَانِهِمْ وَلَا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، عَلَى ذَلِكَ جِوَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ أَبَدًا مَا نَصَحُوا اللهَ وَأَصْلَحُوا عَلَيْهِمْ غَيْرَ مُثْقَلِينَ بِظُلْمٍ وَلَا ظَالِمِينَ»[4]
وفي عهد الإمام علي لمالك الأشتر حينما ولّاه مصر: (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ. ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً، تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ)[5]
وإذا كان المسلم يريد التبشير بدينه والدعوة إليه فهو ملزم باستخدام أفضل الأساليب التي لا تجرح مشاعر الطرف الآخر، ولا تشكل إساءة إليه، يقول تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت، الآية: 46]
هذه بعض النماذج من تعاليم الإسلام وتوجيهاته في التعامل مع الآخر الديني.
وهنا نشيد بالمبادرة العربية الرائعة التي قُدمت للأمم المتحدة من قبل السعودية ومصر والإمارات والبحرين التي تدعو إلى الاحتفاء بـ «اليوم الدولي للأخوة الإنسانية»
حيث تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك القرار العربي، وتم اعتماد الرابع من فبراير (شباط) كلّ عام ليجسّد «الجهود المشتركة في مكافحة خطابات الكراهية، ونشر ثقافة التسامح»[6].
إنّ الدين يربينا على محبّة الناس ويأمرنا بالتعامل معهم انطلاقًا من قاعدة العدل والبر والإحسان ﴿إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ وأيّ فكرة تدفعنا إلى الحقد على الآخرين أو الإساءة إليهم بغير حقّ، فهي مخالفة للدين؛ لأنّ الله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ وقد تكرر هذا التحذير أكثر من مرة في القرآن الكريم.
لكنّ هناك من يختلق المبررات باسم الدين لبث العداوة والبغضاء بين بني البشر، وذلك نهج شيطاني، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ ونجد من يمارس هذا النهج ليس على مستوى اختلاف الديانات فقط، بل حتى ضمن الدين الواحد، بالتحريض على الكراهية بين أبناء المذاهب المختلفة، وكذلك حتى ضمن المذهب الواحد حين تختلف التوجهات الفكرية والاجتماعية، فلا يزال هناك من يتحدث بلغة تثير حساسيات الانتماءات المرجعية، أو الفكرية المختلفة.
مواجهة الوباء
تمرّ على البشرية أعياد الميلاد المجيد هذا العام وهي تواجه تحدّي هذا الوباء الفتّاك كوفيد 19، حيث غابت البهجة المعهودة عن غالب مدن العالم، بسبب الإجراءات الاحترازية.
لكننا نأمل أن يرفع الله هذا البلاء والوباء، ومع أنّ هناك قلقًا جديدًا من أخبار تحوّر هذا الفيروس. لكن الخبراء والمختصين يطمنون بأن النسخ الجديدة أسرع انتشارًا لكنّها ليست أشد عنفًا وفتكًا، كما أنّ إنتاج اللقاحات واعتمادها من الجهات الصحية المختصة وبدء توزيعها، وبدء عمليات التطعيم باللقاحات في عدد من بلدان العالم. هو بشارة خير وبداية أمل للخروج من نفق هذه الجائحة.
فهو أسرع لقاح يتم إنتاجه في تاريخ مقاومة الفيروسات والأمراض، بسبب تقدم العلم وضغط أعباء هذه الجائحة على العالم. أما وجود المتحفظين فهو أمر متعارف تجاه كلّ لقاح جديد.
فهناك من يتحفظ حتى الآن تجاه لقاح شلل الأطفال والجدري والكوليرا وأمثالها.
وهنا يجب أن نشيد ونقدّر شجاعة المتطوعين في تجارب لقاحات كوفيد 19، لأنّ كلّ واحد منها لا بُدّ وأن يمرّ باختبار ما يزيد على الثلاثين ألف شخص، من أوساط مختلفة، ثم تدرس النتائج، فلا يعتمد اللقاح إلّا إذا تجاوز هذا الامتحان.
وعلينا أن نأخذ بكلام الجهات الصحية المختصة، ولا نتأثر بالإشاعات المتداولة، ولا بوجود آراء متحفظة. فكلّ العلاجات والأدوية قد تُحدث لبعض متلقيها شيء من المضاعفات والتداعيات، لكنّها في الغالب تكون تحت السيطرة، ويساعد حصولها على تحسين مستوى العلاج والدواء من قبل الجهات المنتجة.