الإمام علي الأحرص على وَحْدَةِ الأمة
يفخر الإمام علي بأنه الأحرص على جماعة الأمة وألفتها، كما ورد في كتاب له ذكره الشريف الرضي في نهج البلاغة يقول فيه: "وَلَيْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَأُلْفَتِهَا مِنِّي، أَبْتَغِي بِذَلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ، وَكَرَمَ الْمَآبِ. وَسَأَفِي بِالَّذِي وَأَيْتُ عَلَى نَفْسِي"[1].
وسيرة عليٍّ تصدق قوله وتثبت دعواه، فقد غضّ طرفه عن حقّه في الخلافة والقيادة بعد رسول الله ، وكما قال: لما عزموا على بيعة عثمان: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي وَوَاللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَفَضْلِهِ وَزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ"[2].
كان بإمكانه أن ينبري للدفاع عمّا يعتقد أنه حق له، وكان يعلم أنّ في توليه الخلافة مصلحة للأمة وللرسالة، لكنّه وجد أنّ هذا التصدّي وهذا الموقف يضرّ بالمصلحة العامة في ذلك الظرف، ويؤدي إلى فتنة واحتراب داخلي. حتى إنّ أبا سفيان جاءه – كما ذكر ابن الأثير في تاريخه – وقال: ابسط يديك أبايعك، فوالله لئن شئت لأملأنّها عليه خيلًا ورجالًا. فزجره علي وقال: "وَاللَّهِ إِنَّكَ مَا أَرَدْتَ بِهَذَا إِلَّا الْفِتْنَةَ، وَإِنَّكَ وَاللَّهِ طَالَمَا بَغَيْتَ لِلْإِسْلَامِ شَرًّا! لَا حَاجَةَ لَنَا فِي نَصِيحَتِكَ"[3].
وجاءه عمه العباس بن عبدالمطلب وقال له: أبسط يدك أبايعك، فيقال: عمّ رسول الله بايع ابن عمّ رسول الله ، ويبايعك أهل بيتك، فإن هذا الأمر إذا كان لم يقل"[4].
لقد امتنع الإمام علي عن بيعة أبي بكر أيامًا أو شهورًا، كما ذكرت المصادر التاريخية، لكنّه حين رأى جديّة خطر الردة عن الإسلام، وإمكانية تعرض كيان الأمة للاهتزاز، بحصول أيّ خلاف وتنازع، انضوى تحت راية الخلافة، كما يقول فيما روي عنه: (فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ)[5].
حماية كيان الأمة
والمصداق الأهم لحرصه على وحدة الأمة والمصلحة العامة هو دعمه لكيان الخلافة برأيه ومشورته، فهو لم يعتزل ولم يخضع لأيِّ مشاعر انتقامية، ولا تعامل مع الخلفاء انطلاقًا من موقف شخصي، بل إنّ علي بن أبي طالب تحمّل مسؤوليته، فكان مع الخلفاء ومع الأمة، يحضر المسجد، ويشارك في صلاة الجماعة، يُسْتَشَار، ويشير فيعطي رأيه، وينقذ الأمة، ويساعد الخلفاء في مواقف كثيرة.
فهناك أكثر من تسعين موردًا في قضايا عسكرية واقتصادية وسياسية ودينية استشار فيها الخليفة عمر الإمام عليًّا وأخذ برأيه، سجلها مع ذكر مصادرها الشيخ نجم الدين العسكري في كتابه (علي والخلفاء)[6].
ولنا أن نتساءل: كيف كان الخليفة عمر يستشيره إن لم يكن يثق به ويطمئنّ إلى رأيه؟
إنّ عليًّا لم يكن ينظر إلى الخلفاء من موقع العداء الشخصي فيكيد لهم، ويسعى للانتقام منهم، وهم في المقابل كانوا ينظرون لعليٍّ كمعين ثقة، ومساعد أمين، فيما هو لمصلحة الأمة والدين، وإلّا لو كان عمر وأبو بكر ينظران لعليٍّ كعدو لما رجعا إليه ووثقا برأيه، والإمام علي ـ في المقابل ـ ما كان يتعامل من موقع العداوة الشخصية، وإنّما كان يمحضهم النصيحة ويشير عليهم بما ينفع الأمة وكيان المسلمين آنذاك، حتى أُثِرَ عن الخليفة عمر أنه كان يتعوّذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن علي[7].
وعن يحيى بن عقيل ـ كما في ذخائر العقبى[8]: قال كان عمر يقول لعلي إذا سأله ففرج عنه، لا أبقاني الله بعدك يا علي.
وعن أبي سعيد الخدري، أنه سمع عمر يقول لعليٍّ وقد سأله عن شيء فأجابه: أعوذ بالله أن أعيش في يوم لست فيه يا أبا الحسن، وروى ـ أيضًا ـ عن عمر قوله: «لولا علي لهلك عمر»[9]، ودعاؤه أيضًا «اللهم لا تنـزل بي شدة إلَّا وأبو الحسن إلى جنبي»[10]، ونصوص أخرى وردت عن الخليفة عمر في الإشادة بدور الإمام علي وردت في المصادر المعتمدة.
ومع أنّ الإمام أبدى عدم رضاه عن بعض السياسات في عهد الخليفة عثمان، وبخاصة دور البطانة التي كانت حول الخليفة، إلَّا أنه ما انفكّ يقدم النصيحة والرأي لعثمان، وحاول كثيرًا أن يعالج موضوع التمرد على الخليفة، فكان واسطة وسفيرًا بين المعارضين والخليفة أكثر من مرة، ولكن الأمر خرج من يده، وحينما حوصر عثمان ومُنِع عنه الماء استنجد بعليٍّ، فبعث الإمام ولديه الحسنين بِقِرَب الماء حتى يدخلوها إلى بيت عثمان[11].
وفي نصوص تاريخية مذكورة في مختلف كتب السنة أنه أمر ولديه الحسنين أن يبقيا على باب عثمان حراسةً له[12]، ولكن المعارضين تسلقوا من بيوت الجيران على دار الخليفة.
استيعاب المعارضة
كما أنّ حرصه على الوحدة أيام خلافته هو الذي دفعه لقبول التحكيم ووقف الحرب في صفين؛ لأنّ ذلك كان رأي الأكثرية من جيشه.
وحرصه على الوحدة هو الذي جعله يتحمّل استفزازات الخوارج الذين كفّروه وكانوا يجهرون بمعارضته حتى أثناء خطبته في المسجد.
جاء في دعائم الإسلام أنه خطب بالكوفة فقام رجل من الخوارج فقال: لا حكم إلّا لله، فسكت علي، ثم قام آخر وآخر، فلما أكثروا عليه قال : (كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ، لَكُمْ عِنْدَنَا ثَلَاثُ خِصَالٍ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تُصَلُّوا فِيهَا، وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا كَانَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِحَرْبٍ حَتَّى تَبْدَءُونَا بِهِ)[13].
منطلقات النهج الوحدوي
لماذا هذه الدرجة القصوى من الحرص على الوحدة في سيرة الإمام علي بحيث لا يمكن أن تجدها في سيرة غيره، كما يقول : "وَلَيْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَأُلْفَتِهَا مِنِّي"[14]؟.
يمكننا أن نتحدث عن ثلاثة منطلقات كانت وراء هذا الحرص الأكبر عند الإمام علي والأئمة من أهل البيت على الوحدة:
الأول: المنطلق الديني
فالأئمة هم أعرف الناس بأغراض الدين ومبادئ الشريعة ومقاصدها، وبالتالي هم أحرص الناس على تحقيق تلك الأغراض والوصول إلى هذه المقاصد.
والوحدة الإسلامية من أهم مقاصد الدين ومن أهم أهداف الرسالة المقدسة، فهي ليست مسألة تكتيكية أو عملاً وقتياً، وإنّما هي مبدأ يتعبّد الإنسان من خلاله إلى الله، وآيات القرآن الكريم شاهدة على ذلك، فهناك الكثير من الآيات التي تؤكد هذا الأمر، كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾[15]، وفي آية أخرى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[16]، ويقول في آية ثالثة: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾[17]، وكقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[18]، وغيرها من الآيات الكثيرة التي تصبّ في هذا المجال.
وكما نقل عن الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء قوله: "بني الاسلام على دعامتين كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة"
إنّ الإمام عليًّا يتقرّب إلى الله ويبتغي ثوابه بحرصه على الوحدة، كما يقول عليه السلام: وَلَيْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَأُلْفَتِهَا مِنِّي، أَبْتَغِي بِذَلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ، وَكَرَمَ الْمَآبِ. وَسَأَفِي بِالَّذِي وَأَيْتُ عَلَى نَفْسِي"[19].
الثاني: الوعي الحضاري:
كان الإمام علي يفهم الإسلام مشروعًا حضاريًّا لبناء أمة رائدة وكيان قوي، وتقديم أنموذج للبشرية، كما يقول تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾[20]، وقوله تعالى: ﴿وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[21].
ولا يتحقق هذا المشروع إذا انشغل أبناؤه بالمصالح الخاصة والقضايا الجانبية، يقول الإمام علي : "فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هذِهِ الأمَّةِ فِيَما عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هذِهِ الألْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا، وَيَأْوُونَ إَلَى كَنَفِهَا، بِنِعْمَة لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْـمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً، لأِنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَن، وَأَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَر"[22].
وورد عنه أنه قال: "إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَة خَيْراً مِمَّنْ مَضَى، وَلاَ مِمَّنْ بَقِيَ"[23].
الثالث: طهارة النفس
ذلك أنّ من أبرز العوائق التي تكون عقبة في طريق تحقيق الوحدة بين أبناء الأمة، أنّ بعض أبنائها قد يدرك أبعاد وأهداف الوحدة، لكن الطموح إلى بعض المطامع والمصالح الشخصية أو الفئوية هي التي تجعله يميل عن طريق الوحدة، ويسلك طريق الصراع والخلاف من أجل أن يحقق مصلحة مّا ومكسبًا معيّنًا، أما أهل البيت فإنّ نفوسهم كانت طاهرة، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾[24]، فلم يكن في نفوسهم حبّ لمنصب، أو مصلحة، أو مكسب.
إنّ المطامع والمكاسب الفردية والفئوية هي التي تجعل البعض يسير في طريق الانشقاق والخلاف والصراع. أما أهل البيت فإنّ نفوسهم طاهرة من هذه المآرب والأغراض، لذلك كانوا أحرص الناس على وحدة المسلمين.
فقدّموا التنازلات والتضحيات، وقدّموا أغلى الأثمان من أجل أن يحافظوا على وحدة الأمة الإسلامية، فجزاهم الله عن أمة جدّهم خير الجزاء.
ويشير الإمام علي إلى تساميه عن المطامع والمطامح بقوله : "وَاللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَفَضْلِهِ وَزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ"[25].
ويقول عبدالله بن عباس: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِذِي قَارٍ، وَهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، فَقَالَ لِي: مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟ فَقُلْتُ: لَا قِيمَةَ لَهَا. فَقَالَ : وَاللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا"[26].
تأمّل الموقف الوحدوي
كم نحن بحاجة إلى قراءة هذه السيرة العلوية العظيمة، وتأمل هذا الموقف الوحدوي الصلب، لنتحمّل مسؤولياتنا تجاه ديننا ومجتمعنا ووطننا في رعاية الوحدة والحرص على حمايتها، في مختلف مستوياتها: على الصعيد الاجتماعي، وعلى الصعيد الوطني، وعلى مستوى الأمة، وخاصة في هذه الظروف الخطيرة التي تتعرض فيها أوطان المسلمين إلى فتن الاختلاف، ومؤامرات التقسيم.