أوقاف أهل البيت والتحديات المعاصرة
يمتاز دور أوقاف أهل البيت في المجتمع الشيعي بميزة اضافية عما تقوم به سائر الأوقاف في المجتمعات الاسلامية، وتلك الميزة هي توفير الاستقلال للنشاط الديني والثقافي، حيث تعتمد الجهة الدينية في تموليها على الأوقاف والخمس الشرعي.
فالحوزات العلمية الدينية، وشؤون المرجعية والافتاء، واقامة الشعائر والمناسبات الدينية. ودور الخطباء والمبلغين، كل هذه المهام يجري تمويلها من وارد الأوقاف في المجتمع الشيعي.
واذا كان الدور الذي أدته في الحقبة الماضية متناسباً مع ظروف تلك المرحلة، فإن دور هذه الأوقاف في الوقت الحاضر يجب ان يخضع لمراجعة وتقويم.
ذلك ان مجتماعتنا اليوم تواجه تحديات كبيرة تستوجب استنهاض كل الطاقات واستنفار كل القدرات، لتحقيق مستوى من الاستجابة لتلك التحديات الخطيرة.
ولعل من أهم تلك التحديات ما يلي:
١- على مستوى الثقافة والمعرفة الدينية، تواجه اجيالنا الحاضرة اشكاليات كثيرة، فهي تعيش عصر الانفتاح على مختلف الثقافات، وتستقبل طوفاناً من المعلومات والمعارف، عبر أسرع وسائل التواصل، وأرقى أساليب الجذب والتأثير، بواسطة التقنيات المتطورة، وانطلاقاً من نتائج بحوث العلوم الانسانية، بينما لا يزال غالب الخطاب الديني في مجتمعاتنا، ضمن سياقه التقليدي المتوارث من الأزمنة السابقة غير متواكب مع تطورات العصر في مضامينه وأساليب عرضه.
ولعل أهم أسباب ضعف الخطاب الديني وقصوره كونه نتاج حالات فردية، حيث تفتقر ساحاتنا الى المؤسسات المعرفية التي تضع الخطط والمناهج والبرامج والى مراكز الدراسات والبحوث، والى المعاهد التي تربي الخطباء والمبلغين، وتقيم الدورات للارتقاء بمستوياتهم.
ومن ناحية الوسائل والأساليب فإن المنبر الحسيني بشكله المتعارف لا يكفي لإيصال صوت التوجيه والإرشاد لشرائح المجتمع، في مقابل وسائل الاعلام والاتصالات المتطورة كالفضائيات والشبكة العنكبوتية (الانترنت)، التي هي اقدر على الاستقطاب والجذب، وتخاطب الانسان اينما كان على وجه الكرة الأرضية.
فكيف نستطيع انتاج المعرفة الدينية المواكبة لتطورات العصر؟ وكيف نوفر الثقافة القادرة على الصمود أمام التيارات الأخرى؟ وكيف نرتقي بوسائل وأساليب خطابنا وفعالياتنا وأنشطتنا الدينية لنستوعب أجيالنا الناشئة ونحتضنها في اطار قيمها وانتمائها الديني؟
٢- على صعيد التنمية الاجتماعية، تعاني مجتماعتنا ضعفاً كبيراً في واقعها الاقتصادي حيث تنتشر البطالة، وتزداد مساحات الفقر والحاجة، وتقل فرص التعليم العالي، مما ينتج الكثير من المشاكل والمضاعفات في الواقع الاجتماعي، ولا بد من مواجهة ذلك بقيام المؤسسات الاقتصادية، وتشجيع روح الفاعلية والعمل، والارتقاء بمستوى التعليم، وتربية الكفاءات وتنمية المهارات، والمبادرة الى معالجة حالات الفقر والحاجة في المجتمع.
٣- في مجال العلاقة مع سائر المجتمعات والأمم، فإن على المجتمع الشيعي ان يواجه الظروف التاريخية السابقة، التي دفعته في الكثير من مواقعه الى حالة من الإنكفاء والانطواء، وضعف التواصل مع المجتمعات المحيطة، بسبب سياسات التمييز الطائفي، وانتشار التوجهات التعصبية المذهبية، وما انتجت من ردود فعل داخل المجتمع الشيعي، كالميل للعزلة والإنغلاق، وتداول ثقافة التعبئة ضد الآخر بدافع تحصين الذات من الهجمات المضادة.
لقد تعرضت صورة المجتمع الشيعي بمعتقداته وتاريخه ومواقفه السياسية وأنماط سلوكه الى كثير من التشويه والتشويش.
ان ادانة جهل الطرف الآخر لا يعالج المشكلة، بل لا بد لنا من تحمل المسؤولية في السعي لتوضيح الصورة، وازالة غبش التشويه، والمبادرة للتواصل مع الأطراف المشاركة لنا في أوطاننا، والمجتمعات الاخرى، وقدرته على نسج العلاقات السليمة، وتخطي العوائق، وتجاوز آثار وانعكاسات الظروف السلبية الماضية.
وتتوافر الآن فرص طيبة على هذا الصعيد، في ظل المتغيرات الدولية والاقليمية، وانتشار الوعي. ووجود توجيهات للإصلاح في مختلف البلدان، وتنامي الشعور بالتحديات الخطيرة التي تعصف بالأمة والأوطان، وتفرض الدعوة الى التلاحم والوحدة الاسلامية الوطنية.
وأوقاف أهل البيت بما تمثله من ثروة هائلة يمكنها ان تؤدي دوراً أكبر في مساعدة المجتمع على مواجهة هذه التحديات القائمة.