مساحة التشريع والاقتداء في السيرة النبوية
﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [آل عمران: ٣١]
الإيمان بنبوة النبي والاعتقاد برسالته، يلزم الإنسان بطاعة النبي واتباعه، فهو مرسل من قبل الله تعالى، وما يأمر به وينهى عنه فهو تبليغ لأمر الله ونهيه، فتكون طاعته طاعة لله.
يقول تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ﴾ [النساء: 80].
ولأنّ الرسول هو النموذج التطبيقي للرسالة في سلوكه وعمله، فإنّ اتباعه والاقتداء به يمثل الاستجابة لرسالة الله. لذلك جاءت آيات القرآن الكريم تحث على اتباعه والاقتداء والتأسّي به، كقوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]
وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [آل عمران: ٣١]
وقوله تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]
والسؤال هنا عن مساحة الاتباع والاقتداء برسول الله في أفعاله وسلوكه، هل تشمل كلّ ما يفعله الرسول في سيرته وسلوكه، أم أنّ هناك مساحة من السيرة النبوية خارجة عن تكليف الاقتداء والاتباع، ولا تمثل تشريعًا دينيًّا للأمة؟
وحين يعرّف العلماء السنة النبوية التي هي مصدر للتشريع وحجة في التكليف بأنّها (قول النبي وفعله وتقريره) فهل يقصدون بذلك العموم لكلّ أفعاله وممارساته وتقريراته؟ أم أنّ هناك من أفعال الرسول ما ليس من السنة التشريعية؟
تصنيف الفعل النبوي
بالبحث العلمي والدراسة للسيرة النبوية، وجد العلماء المحققون أنّ أفعال رسول الله وممارساته ليست صنفًا واحدًا، بل يمكن تقسيمها إلى عدة أصناف، قد يختلف ما يستنبط من بعضها عمّا يستنبط من البعض الآخر، وقد يكون الاقتداء به مطلوبًا في بعض أقسامها دون أقسام أخرى.
أحد العلماء، وهو ابن حِبّان (توفي 354هـ)، بالغ في تقسيمه لأفعال النبي في صحيحه، حتى عدّها خمسين نوعًا. قال في صحيحه: (وأما أفعال النبي ، فإنّي تأمّلت تفصيل أنواعها، وتدبّرت تقسيم أحوالها، لئلا يتعذّر على الفقهاء حفظها، ولا يصعب على الحفاظ وعيها: فرأيتها تدور على خمسين نوعًا)[1].
أما الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور التونسي (توفي 1973م) فقد أنهى أحوال النبي في سيرته وسنته إلى اثني عشر حالاً. قال في المقاصد الشرعية: (وقد عرض لي الآن أن أعدّ من أحوال رسول الله التي يصدر عنها قول منه أو فعل اثني عشر حالاً)[2].
وفي الأبحاث الأصولية الفقهية أشار عدد من العلماء إلى ستة أبعاد وحالات للشخصية النبوية فيما يصدر عنها من أقوال وأفعال.
وقد أصدر أخيرًا أحد الأعلام في لبنان (الشيخ حسين الخشن) دراسة أصولية حول الموضوع بعنوان (أبعاد الشخصية النبوية) تقع في حوالي خمس مئة صفحة.
الأحكام الخاصة بالنبي
ومما اتفق عليه علماء المسلمين بمختلف مذاهبهم أنّ هناك تشريعات وأفعالاً هي من مختصات رسول الله لا يشترك معه في حكمها بقية المسلمين، كالزواج من أكثر من أربع نساء، ووجوب السواك عليه، ووجوب صلاة الليل عليه قبل أن ينسخ هذا الوجوب، وحرمة نكاح زوجاته من بعده، وحرمة الصدقة الواجبة والمندوبة عليه، وحرمة نكاح الكتابيات، وحرمة قول الشعر وتعليمه، وأبيح له الغنائم والفيء، وأن يصطفي من الغنيمة.
وقد صنفوا كتبًا مختصة برصد خصائص النبي في مجال التكليف الشرعي.
السيرة البشرية للنبي
كما بحث العلماء الأفعال الصادرة عن النبي في حياته البشرية العادية، من حيث كونه بشرًا له احتياجاته الجسمية، ورغباته وميوله وأحاسيسه النفسية، فهل أنّ ما يصدر عنه من حالات وممارسات في هذا البعد البشري، يكون من سنة التشريع وموارد الاقتداء والاتباع؟
مثلاً: حينما تخالج نفسه الشريفة مشاعر وأحاسيس معينة تجاه بعض الأمور، فيتأذى منها أو يفرح بها، فهل يعني ذلك لنا شيئًا على صعيد التكليف والاتباع؟ أم أنّها شيء من طبيعة بشرية النبي فقط؟
إنّ القرآن الكريم يذكر لنا مثل هذه الحالات، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ [الحجر: 97]
وقوله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّـهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الانعام: 33]
وكذلك فيما يرتبط بأفعاله في حياته الشخصية البشرية كأمور أكله، وشربه، ونومه، ويقظته، وحركات بدنه، وقد نقل في مرويات السيرة منها شيء كثير، فهل يستنبط منها أحكام شرعية، وهل علينا أن نرغب فيما رغب النبي في أكله، ونتجنب ما لا يرغب فيه من الطعام مثلًا؟ أم أنّ ذلك يبقى في إطار الرغبة الشخصية البشرية للنبي ؟
وهنا لا بُدّ من التأكيد على أمرين يرتبطان بهذا الموضوع:
الأمر الأول: أن من المسلّم به أن النبي بحكم عصمته وكماله الأخلاقي، لا يفعل حرامًا ولا يترك واجبًا، مما يعني أنّ ما يفعله الرسول لا تحتمل الحرمة في شيء منه، وأنّ ما يتركه لا يحتمل وجوب شيء منه، لكن البحث هل أنّ كلّ ما يفعله ضمن طبيعته البشرية لا بُدّ أن يكون واجبًا أو مستحبًّا، وما يتركه فهو حرام أو مكروه، وأنّ علينا اتباعه والاقتداء به في ذلك على نحو الوجوب أو الاستحباب؟ أم أنّ ذلك في دائرة الإباحة العامة ومتروك لاختلاف الرغبات والميول الشخصية؟
الأمر الثاني: أنّ الحديث هو عن الفعل الصامت في البعد البشري، أما ما يصحبه أمر أو نهي عن النبي ، فذلك داخل في إطار التشريع وأداء مهمته التبليغية، سواءً في مجال العبادات والشؤون العامة، أو مجال الشؤون الحياتية الطبيعية.
شمول الاقتداء
هناك اتجاهان في النظر إلى الحالات البشرية للنبي :
اتجاه يرى أنّها ضمن دائرة التشريع فيستحب الاقتداء بالنبي في كلّ هذه الحالات. حتى نقل أنس بن سيرين قال : كنتُ معَ ابنِ عمرَ بعرفاتٍ، فلمَّا كانَ حينَ راحَ رُحتُ معَهُ حتَّى أتى الإمامُ فصلَّى معَهُ الأولى والعصرَ، ثمَّ وقفَ وأَنا وأصحابٌ لي حتَّى أفاضَ الإمامُ، فأفَضنا معَهُ حتَّى انتَهَى إلى المضيقِ دونَ المأزمينِ فأَناخَ، وأنَخنا ونحنُ نحسَبُ أنَّهُ يريدُ أن يصلِّيَ، فقالَ غُلامُهُ الَّذي يمسِكُ راحلتَهُ: إنَّهُ ليسَ يريدُ الصَّلاة، ولَكِنَّهُ ذَكَرَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لمَّا انتَهَى إلى هذا المَكانِ قضى حاجتَهُ، فَهوَ يحبُّ أن يَقضيَ حاجتَهُ[3].
استثناء الجانب البشري
الاتجاه الآخر: يرى أنّ الأفعال الجبليّة من النبي لا يستفاد منها أكثر من العلم بالإباحة، ولا يستفاد منها تشريع فوق ذلك، وليست موردًا يطلب فيه الاتباع والاقتداء بالنبي .
لذلك فإنّهم في تعريفهم للسنة التي تكون حجة ومصدرًا للتشريع يضيفون قيد (غير العاديات) أي ألا يكون الفعل من الأفعال العادية التي تصدر عن النبي على سبيل العادة الطبيعية فإنّها خارجة عن السنة.
يقول الشهيد الثاني في تمهيد القواعد: (فعل النبي حجة، كما أنّ قوله حجة، إذا لم يكن من الأفعال الطبيعية، كالقيام والقعود والأكل والنوم والحركة والسكون)[4].
وقال الميرزا القمي: (السنة قول المعصوم أو فعله أو تقريره غير العاديات)[5].
ونظم ذلك أحد العلماء في قوله:
وفعله المركوز في الجبلّة كالأكل والشرب فليس ملة[6]
ذوق النبي في الأطعمة والأشربة
ونجد انعكاسًا للاختلاف بين هذين الاتجاهين مثلًا في التعامل مع الروايات الواردة في كتب السيرة والسنن عن رغبة الرسول في تناول بعض الأطعمة، أو عزوفه عن أطعمة أخرى، فإنّ من يرى شمول الاقتداء بسنن النبي حتى في أفعاله الجبليّة البشرية يحكم باستحباب اتباعه في هذه الأمور، فما يرغب في أكله يكون أكله مستحبًا، وما يعزف عنه ويعافه يكون مكروهًا. بينما يرى أصحاب الاتجاه الآخر، أنّ ذلك يحكي عن رغبة النبي ضمن طبيعته البشرية وليس تشريعًا، فلا يترتب عليه حُكمٌ بالاستحباب ولا بالكراهة، إلا بقرينة تدلّ على ذلك.
ومما يرجّح هذا الاتجاه أن النبي كان يوضح لأصحابه أنّ عزوفه عن بعض الأطعمة هو اختيار شخصي له، وأنّهم غير ملزمين به، ولم يكن يبغّض ذلك الطعام الذي يعافه لهم.
فقد ورد أنس بن مالك قال: «مَا ذَمَّ رَسُولُ اَللَّهِ طَعَاماً قَطُّ كَانَ إِذَا أَعْجَبَهُ أَكَلَهُ وَإِذَا كَرِهَهُ تَرَكَهُ، وَكَانَ إِذَا عَافَ شَيْئاً فَإِنَّهُ لاَ يُحَرِّمُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلاَ يُبْغِضُهُ إِلَيْهِ»[7].
وورد في صحيح البخاري "مَا عَابَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم طَعَاماً قَطُّ، إِن اشْتَهَاه أَكَلَهُ، وإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ"
عَنْ سُوَيْدٍ قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ بِقَصْعَةٍ فِيهَا ثُومٌ. فَوَجَدَ رِيحَ الثُّومِ فَكَفَّ يَدَهُ، فَكَفَّ مُعَاذٌ يَدَهُ، فَكَفَّ القوم أيديهم.
فقال لهم: ما لكم؟
فَقَالُوا: كَفَفْتَ يَدَكَ فَكَفَفْنَا أَيْدِيَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ الله : كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لا تُنَاجُونَ»[8].
وعن أبي أيوب الأنصاري قال: كُنَّا نَصْنَعُ لَهُ الْعَشَاءَ، ثُمَّ نَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِ، فَإِذَا رَدَّ عَلَيْنَا فَضْلَهُ تَيَمَّمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ مَوْضِعَ يَدِهِ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ، حَتَّى بَعَثْنَا إلَيْهِ لَيْلَةً بِعَشَائِهِ وَقَدْ جَعَلْنَا لَهُ بَصَلًا أَوْ ثُومًا، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَمْ أَرَ لِيَدِهِ فِيهِ أَثَرًا. قَالَ: فَجِئْتُهُ فَزِعًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، رَدَدْتَ عَشَاءَكَ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ مَوْضِعَ يَدِكَ، وَكُنْتَ إذَا رَدَدْتُهُ عَلَيْنَا، تَيَمَّمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ مَوْضِعَ يَدِكَ، نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ، قَالَ: «إنِّي وَجَدْتُ فِيهِ رِيحَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَأَنَا رَجُلٌ أُنَاجِي، فَأَمَّا أَنْتُمْ فَكُلُوهُ». قَالَ: فَأَكَلْنَاهُ، وَلَمْ نَصْنَعْ لَهُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ بَعْدُ[9].
وعن الإمام الصادق : «أُتِيَ - رسول الله - بِخَبِيصٍ[10] فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ، قَالُوا: تُحَرِّمُهُ؟ قَالَ: لاَ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تَتُوقَ إِلَيْهِ نَفْسِي»[11].
وجاء في البخاري: «مَا عَابَ رسُولُ اللَّه طَعَاماً قَطُّ، إِن اشْتَهَاه أَكَلَهُ، وإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ»[12]
فإذا كان رسول الله لم يلزم أصحابه المعاصرين له، بأسلوب عيشه المنبثق من طبيعته البشرية، فإنّ إضفاء حكم الاستحباب والكراهة على كثير من الممارسات والتصرفات بناءً على ما روي في السيرة النبوية، يحتاج إلى تأمل وتدقيق، خاصة مع عدم تحقيق تلك المرويات، بناءً على التسامح في أدلة السنن.
التأسّي بالنبي في لغة العقود
وفي أنموذجٍ آخر نجد أنّ بعض الفقهاء - كما نقل الشيخ الأنصاري - اشترط العربية في العقود كعقد البيع، للتأسي بالنبي ، وقد عارض ذلك فقهاء آخرون، ومنهم السيد الخوئي حيث قال: (لا دليل على وجوب التأسّي بالنبي بل ولا على استحبابه في غير الأحكام، وإلّا فلازم ذلك أن يقال بحرمة التكلّم بغير العربي في المحاورات العرفية عند التمكّن من العربي، لأنّ النبي كان يتكلّم في جميع محاوراته بالعربية، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به، لأنّه إنّما كان يتكلّم بالعربي لكونه عربيًّا لا من جهة وجوبه ولزومه)[13].
قراءة البعد البشري في حياة النبي
وهنا قد يتساءل البعض عن فائدة نقل هذه التفاصيل عن حياة رسول الله الشخصية في بعدها البشري، وقيمة احتواء كتب السيرة والحديث عليها؟
ونجيب على ذلك بأنّ الاطلاع على تفاصيل حياته حتى في البعد الشخصي البشري أمر محبّذ ومطلوب، لتتجلى لنا صورة رسول الله بأعلى درجة ممكنة.
ويجب أن نقدّر جهود المحدّثين، والمؤرّخين، الذين حفظوا لنا هذا التراث النبوي، واهتموا بتدوين هذه التفاصيل الدقيقة عن جميع جوانب حياة رسول الله .
وعلى الباحثين أن يبذلوا جهدهم في دراسة هذه المرويات، لغربلتها من الموضوعات، ومما لا يليق بشأنه ، وسموّ أخلاقه. وأن يُعملوا القواعد والضوابط العلمية، لمعرفة الراجح منها عند الاختلاف والتعارض.
ويمكننا أن نستخلص من هذه الروايات، القيم، والمبادئ، والملامح العامة لشخصية رسول الله ، وتنظيمه لأمور حياته بعقلانية واعتدال، والتزامه بساطة العيش، والزهد، والتواضع، والنظافة، والأناقة، وأعلى درجات مكارم الأخلاق، فليس في سلوكه وممارساته ما يخدش في كماله، أو يسبب نفورًا واستهجانًا.