السيرة النبوية والظرف الزمكاني
قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]
خطاب التأسي برسول الله والاقتداء به، في قوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، موجه للمسلمين في جميع العصور، ولا يختص بالمعاصرين لرسول الله ، فهو قدوة وأسوة لجميع الأجيال
لكنّ صورة الاقتداء بالرسول أوضح وأيسر بالنسبة لمن عاشوا في عهده، وتشرفوا بمعاشرته، وحظوا بمشاهدة حياته وسيرته، فقد كانوا يسمعون حديثه الواضح البيان، ويرون حركاته وسكناته، وكانت حياته صفحة مكشوفة أمامهم، بما فيها حالاته داخل أسرته، حيث تحدث القرآن عن بعض مشاهدها وقضاياها
كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّـهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [التحريم، 1]
وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّـهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [التحريم، 3]
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴿٢٨﴾ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّـهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب، 28-29]
فلم تكن بين الرسول وأصحابه حواجز، ولا كان يتعالى عليهم، أو يتمايز عنهم، في شيءٍ من شؤون حياته.
ورد عن زيد بن ثابت: كُنَّا إِذَا جَلَسْنَا إِلَيْهِ إِنْ أَخَذْنَا فِي حَدِيثٍ فِي ذِكْرِ اَلْآخِرَةِ أَخَذَ مَعَنَا، وَإِنْ أَخَذْنَا فِي ذِكْرِ اَلدُّنْيَا أَخَذَ مَعَنَا، وَإِنْ أَخَذْنَا فِي ذِكْرِ اَلطَّعَامِ وَاَلشَّرَابِ أَخَذَ مَعَنَا، فَكُلُّ هَذَا أُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ [1].
وورد عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: لَأَعْلَمَنَّ مَا بَقَاءُ رَسُولِ اللَّهِ فِينَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرَاهُمْ قَدْ آذَوْكَ وَآذَاكَ غُبَارُهُمْ، فَلَوِ اتَّخَذْتَ عَرِيشًا تُكَلِّمُهُمْ مِنْهُ؟ فَقَالَ : «لَا أَزَالُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يَطَئُونَ عَقِبِي، وَيُنَازِعُونِي رِدَائِي»[2].
عن الحسن أنه قال: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ لَا يُغْلَقُ دُونَهُ الْأَبْوَابُ، وَلَا يَقُومُ دُونَهُ الْحَجَبَةُ»[3].
وإلى جانب اطلاعهم على حياته وسيرته فإنّهم يعيشون معه نفس البيئة والظروف، فليس لهم عذر في التخلف عن اتباعه والاقتداء به.
حجاب الزمن وتطورات الحياة
أما الأجيال اللاحقة كجيلنا الحاضر فإنّها تواجه تحدّيين رئيسين في موضوع امتثال أمر الاتباع لرسول الله والاهتداء بسيرته، والاقتداء بشخصيته العظيمة.
التحدي الأول: هو اختراق حجب التاريخ والزمن، للوصول لأجلى صورة لسيرة رسول الله ، ومعرفة سننه وطريقة حياته، فهناك ركام من الأحاديث المختلفة، والروايات الملتبسة، وهناك شيء كثير من الوضع والاختلاق، والتحريف والتزوير في المرويات الحديثية والتاريخية.
فكيف يطمئنّ الإنسان المسلم إلى صحة هذه الصورة أو تلك من حياة رسول الله ، حتى يقوم بمحاكاتها في سلوكه وحياته؟
التحدي الثاني: وهو الأهم والأخطر، يتمثل في التغيرات الهائلة في ظروف الحياة بمختلف جوانبها، فنحن نعيش في عصر مختلف، وعالم مختلف، عمّا كانت عليه الحياة في عهد رسول الله .
فهناك فارق معرفي ثقافي كبير، حيث قطع الإنسان شوطًا بعيدًا قياسًا إلى إنسان العهد النبوي، في معرفة نظام الكون، وسنن الطبيعة، وتسخير ذلك لتطوير الحياة، فمستوى المعرفة، وحجم المعلومات المتوفرة أمام إنسان اليوم، لا يمكن أن يقاس بها مستوى الإنسان العلمي والمعرفي قبل خمسة عشر قرنًا.
كما أنّ الواقع الاقتصادي الذي يعيشه المجتمع الإسلامي الحاضر، وهو جزء من واقع عالمي يصعب الانفصال عنه، وهو مختلف عن اقتصاد عصر البداوة والمجتمعات الزراعية، بل وتخطى العصر الصناعي، حيث نعيش عصر العولمة والرقمية.
ومن الطبيعي أن تنعكس آثار هذا التقدم العلمي، والتطور الاقتصادي، على طبيعة تفكير الإنسان المعاصر، وعلى شبكة العلاقات الاجتماعية بين بني البشر، بدءًا من حال العلاقة العائلية الأسرية، إلى العلاقة مع المحيط الاجتماعي، إلى العلاقة السياسية بين الحكومات والشعوب، وبين الأمم والدول.
وهنا يكمن التحدّي، فكيف يمكننا الاستفادة من نموذج الحياة في العهد النبوي؟
وهل يمكن استنساخ التجربة النبوية لنحقق الاتباع والاقتداء برسول الله في هذا العصر، مع هذه الفوارق الهائلة في طبيعة ظروف الحياة؟
في الإجابة على هذا السؤال الخطير نجد في ساحة الأمة ثلاثة اتجاهات:
تاريخية الشريعة
الاتجاه الأول: يتبنّى نظرة تاريخية التجربة النبوية والشريعة الإسلامية، ويرى أنّ علينا أن نأخذ بالقيم الأساس في الدين، كالعدلة والمساواة والكرامة وحقوق الإنسان، ومكارم الأخلاق الإنسانية، أما التشريعات والأحكام فهي تطبيقات لهذه القيم الاساس، والموروث منها في الفقه الإسلامي معظمها كان صالحًا ومناسبًا للعصور السابقة، أما الآن فعلينا تجاوز الأحكام التي لا تناسب الزمن الجديد أو تعديلها. والمقياس عندهم ما يستحسنه العقل المعاصر ويرى ملاءمته للظروف الحاضرة.
وما يقوله هذا الاتجاه لا يمكن القبول به على إطلاقه؛ لأنّه يعطّل النص الديني التشريعي، ويضع الاستحسان العقلي البشري مكانه، ولأنه يعرّض أكثر القيم والمفاهيم والمقولات الدينية للإفراغ الداخلي، ويبعدها عن التأثير في الحياة.
النموذج السّلفي
الاتجاه الثاني: على الطرف النقيض من الاتجاه الأول، حيث يرى التمسك بحرفية كلّ النصوص الدينية، واستنساخ السيرة النبوية، وسيرة السلف بحذافيرها، حتى في التطبيقات والأساليب والوسائل، ويدعو إلى تجاهل كلّ هذه التغيرات والتطورات الهائلة، والسعي للعودة بالحياة بأقصى حدٍّ ممكن إلى العصر النبوي وعصر السلف.
والنموذج الأبرز لهذا الاتجاه هي الحركات السلفية المتشددة، حيث طبقت فكرتها في المناطق التي هيمنت عليها في وقت من الأوقات، كما في أفغانستان، وبعض مناطق سوريا والعراق، و(بوكو حرام) في نيجيريا ومناطق أخرى من أفريقيا.
حيث يمارسون القتل والذبح والسبي، ويفصلون بين الرجال والنساء، ويمنعون تعليم المرأة، ويغلقون المدارس والجامعات والبنوك، ودور السينما ومحطات التلفزيون، كلّ ذلك ضمن ما يرونه تطبيقًا لنهج النبوة، والتأسي بالسلف الصالح.
والبعض، وإن لم يكن سلفيًا ومتشددًا إلى هذه الدرجة، لكنّه يحمل بذور هذه العقلية التي ترفض أخذ متغيرات الحياة بعين الاعتبار في البعد الديني، وتمانع أيّ تطوير على مستوى الاستنباط الفقهي، وهذا يعني العودة بالحياة إلى الوراء، كما يقول الإمام الخميني في رسالته لأحد فضلاء الحوزة العلمية الذي اعترض على فتوى جواز لعب الشطرنج بدون قمار، وجواز بيع وشراء الآلات الموسيقية ذات الاستخدامات المتعددة، فكتب له الإمام: (في ضوء هذا النحو من استنباط سماحتكم يجب التخلي عن المدنية الحديثة بالكامل، والعيش في الأكواخ أو الصحراء)[4].
طائفة الآمش
ولا يقتصر هذا النهج من التفكير السلفي على المسلمين، فبعض الجماعات الدينية المسيحية تعيش حالة الرفض لتطورات الحياة، مع أنّها تعيش في أمريكا مركز التطور والتقدم، ومنها طائفة (الآمش Amish) الذين يزيد تعدادهم على 250 ألفًا في 28 ولاية أمريكية، إضافة إلى كندا، فأبناؤها في مظهرهم كأنّهم أتوا من قرن مضى، لهم لباس بسيط متشابه يميّزهم، ويرفضون استخدام السيارات، ويستخدمون العربات التي تجرّها الخيول، ويستعملون طواحين الهواء ذات النمط القديم.
ويحرّمون الهواتف النقالة، كما يحرّمون التصوير، ولا يلتقطون صورًا لأنفسهم؛ لأنّها من دواعي الوثنية، وتؤدي إلى تباهي الإنسان بنفسه، ويعمل معظمهم في الزراعة والمهن الحرفية، حيث تعمل العائلة جميعًا، ولا يسمح بالزواج إلّا من داخل الطائفة، والرجال المتزوجون يحفون الشوارب ويطلقون اللحى.
والنساء يلبسن فساتين طويلة، ويغطّين رؤوسهنّ بمنديل، ويحرّمون الموسيقى، ويدرّسون أبناءهم في مدارسهم الخاصة ذات الغرفة الواحدة، ويعلّمونهم الأمور العلمية، ولا يلتحقون بالمدارس الحكومية ولا الجامعات، ولا يقبلون أموالًا ولا وظائف من الحكومة، ولا يشاركون في الانتخابات، ويحرّمون استخدام الكهرباء، ويكتفون بفوانيس الغاز.
استيعاب التطورات
الاتجاه الثالث: يدعو إلى تطوير عملية الاجتهاد في الفكر والفقه الإسلامي، لاستيعاب تطورات الحياة، وإنتاج التشريعات المناسبة لاختلاف الزمان والمكان.
فنحن نعتقد أنّ الإسلام صالح لكلّ العصور بإعمال آلية الاجتهاد في فهم نصوصه وتشريعاته، وإنّما فتح باب الاجتهاد لهذا الغرض، ولذلك يجب حصول حركة الاجتهاد في كلّ مجتمع وجيل إسلامي، بأن يتوجه بعض أبناء المجتمع للتفقه في الدين، وامتلاك القدرة الاجتهادية، فذلك واجب كفائي.
يقول تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة، 122]
دعوات لتطوير أصول الاجتهاد
والتطوير المطلوب ليس مجرّد استنباط أحكام لبعض مستحدثات المسائل ومستجداتها، بل تطوير أصول الاجتهاد وقواعد الاستنباط، وليس الجمود في حدود الضوابط والقواعد المتداولة في البحث الأصولي السائد.
وهذا ما دعا إليه عدد من فقهاء العصر كالشهيد السيد محمد باقر الصدر، الذي تحدث عن عدة أفكار تتعلق بتطوير الممارسة الاجتهادية لدى الفقيه المعاصر، كتأكيده على نظرية الفهم الاجتماعي للنص التشريعي، والتمييز بين المدلول المعرفي والاجتماعي للنص وبين الجانب اللفظي من الدلالة، بوصفهما جانبين متمايزين لكلّ منهما ملاكه وحدوده، بدلاً من دمجهما تحت عنوان واحد هو الظهور[5].
وكطرحة لأهمية استحضار مجال الحياة العامة في عملية الاستنباط الفقهي، في مقابل حالة انكماش الفقه من الناحية الموضوعية، لتركيز الممارسة الاجتهادية السائدة على الجوانب الفقهية الأكثر اتصالاً بالمجال التطبيقي الفردي، وإهمال المجال التطبيقي الاجتماعي[6].
وهناك قضية مهمة أكدّ السيد الصدر على ضرورة دراستها في النصوص الشرعية، لاستكشاف مرحلية الحكم الشرعي أو استمراريته، وذلك بالتفريق بين بعدين في شخصية النبي أو الإمام: بعد التبليغ، وهنا يكون النص حكمًا شرعيًا دائمًا، وبعد المنصب القيادي، فيكون النص تشريعًا تدبيريًا، ضمن ظروفه ومرحلته[7].
وضمن سياق هذه الدعوات لتطوير أصول الاجتهاد والاستنباط، دعا الإمام الخميني إلى أخذ عنصر الزمان والمكان في الممارسة الاجتهادية، يقول ما نصه: (إنّ الزمان والمكان عنصران رئيسيان في الاجتهاد، فمن الممكن أن تجد مسألة كان لها في السابق حكماً، وإنّ نفس المسألة تجد لها حكماً جديداً في ظلّ العلاقات المتغيرة والحاكمة على السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام ما. أي إنه ومن خلال المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالموضوع الأول الذي يبدو أنه لا يختلف عن السابق، ولكنه في الحقيقة أصبح موضوعاً آخر يتطلب حكماً جديداً بالضرورة. ولهذا ينبغي للمجتهد أن يكون محيطاً بقضايا عصره)[8].
أما الشيخ محمد مهدي شمس الدين فقد دعا إلى مناقشة قاعدة الاشتراك والعموم الزماني للأحكام في غير العبادات، ويرى أنّ على الفقهاء ـ في عملية الاجتهاد والاستنباط ـ ألّا ينظروا إلى النصّ على أنه تشريعٌ مطلق على كلِّ حالٍ، عليهم أن يفسحوا مجالاً للنظر في كونه تشريعاً «نسبيّاً» لحالٍ دون حال، وظرفٍ دون آخر، وأن يبذلوا جهودهم في اكتشاف حقيقة الحال من هذه الجهة، وألّا يكتفوا بكون النصّ وصل إلينا مطلقاً ومجرَّداً عن الخصوصيات في الحكم بإطلاقه في الزمان والمكان والأحوال والأقوام، وشريعة للأمّة كلّها في جميع أزمانها وأحوالها وظروفها وتقلُّباتها، فيجمدوا عليه كذلك في مقام الاستنباط.
ويضيف شمس الدين: إنّ ممّا ينبغي أن يُعزِّز هذه النظرة «المتحرّكة» إلى النصوص التشريعية ما نصّ عليه كثيرٌ من أعاظم الفقهاء من أنّ «التعبُّد الشرعيّ» المقتضي للجمود على النصّ معلومٌ في باب العبادات فقط؛ وأما في أبواب المعاملات بالمعنى الأعمّ فإنّ «التعبُّد الشرعيّ» غير معلوم الثبوت فيها، بل معلوم عدم الثبوت في جميعها[9].
ومن تلك الدعوات الجادة لتطوير الممارسة الفقهية الاجتهادية، دعوة المرجع الشيخ يوسف الصانعي إلى إعمال حاكمية مبدأ العدل على التشريعات الدينية، يقول: (أحد الأصول العامة للديانة الإسلامية والشريعة الغرّاء هو مبدأ العدالة، فالعدالة الإلهية هي عمود خيمة التكوين والتشريع، فكلاهما يقوم على أساس العدل، وقد تحدث المولى سبحانه مرات عدة في كتابه عن هذا الأمر، فقال: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ وقال: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ كما أنّ العقل يحكم بقبح صدور الظلم من السّاحة الإلهية، ويراه محالًا)[10].
ويرى أنّ (تحديد العدالة وعدم الظلم في غير التعبّديات يرجع إلى العقلاء وضمن مسؤولياتهم)[11]، و(بناءً عليه فإذا عثر الفقيه على حكم مخالف لحكم العقل فلا يمكنه الإفتاء وفقه حتى لو دلت عليه الروايات الصحيحة)[12]، و(نقول إنّ هذه الروايات مخالفة للقواعد القرآنية والعقلية العامة فلا بُدّ من وضعها جانبًا)[13].
حلال محمد وحرامه إلى يوم القيامة
إنّ البعض من الناس يطرح تساؤلًا حول إمكانية التغيير والتطوير في الفقه الإسلامي، انطلاقًا من الحديث الوارد عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِاَللَّهِ عَنِ اَلْحَلاَلِ وَاَلْحَرَامِ، فَقَالَ: «حَلاَلُ مُحَمَّدٍ حَلاَلٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، وَحَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، لاَ يَكُونُ غَيْرُهُ وَلاَ يَجِيءُ غَيْرُهُ»[14].
والتعبير بالحلال والحرام يبدو أنه كناية عن مطلق الأحكام الشرعية.
لكن هذا الحديث إنّما يؤكد على مرجعية شريعة محمد إلى يوم القيامة، وأنه ليس هناك شريعة ناسخة لها، ولا يدلّ على أبدية الأحكام حكمًا حكمًا، ويؤيّد لك صيغة للحديث جاءت في سياق نسخ الشرائع اللاحقة للسابقة.
وهي أقوى روايات هذا الحديث سندًا، وقد أوردها البرقي في كتاب المحاسن: «عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِاللَّهِ قَوْلُ اللَّهِ فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فَقَالَ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَعَلَى جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، قُلْتُ: كَيْفَ صَارُوا أُولِي الْعَزْمِ؟ قَالَ: لِأَنَّ نُوحاً بُعِثَ بِكِتَابٍ وَشَرِيعَةٍ فَكُلُّ مَنْ جَاءَ بَعْدَ نُوحٍ أَخَذَ بِكِتَابِهِ وَشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ حَتَّى جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بِالصُّحُفِ وَبِعَزِيمَةِ تَرْكِ كِتَابِ نُوحٍ لَا كُفْراً بِهِ وكُلُّ نَبِيٍّ جَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ جَاءَ بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمِنْهَاجِهِ وَبِالصُّحُفِ حَتَّى جَاءَ مُوسَى بِالتَّوْرَاةِ وَشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ وَبِعَزِيمَةِ تَرْكِ الصُّحُفِ فَكُلُّ نَبِيٍّ جَاءَ بَعْدَ مُوسَى أَخَذَ بِالتَّوْرَاةِ وَ شَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ حَتَّى جَاءَ الْمَسِيحُ بِالْإِنْجِيلِ وَبِعَزِيمَةِ تَرْكِ شَرِيعَةِ مُوسَى وَمِنْهَاجِهِ حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ فَجَاءَ بِالْقُرْآنِ وَشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ، فَحَلَالُهُ حَلَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَحَرَامُهُ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[15].
وواضح أنّ السياق في الرواية يؤيد المعنى المذكور بنفي نسخ شريعة محمد بشريعة أخرى، ولا يعني عدم تغيّر شيء من أحكام الشريعة، فمن المعلوم حصول نسخ لبعض الأحكام في القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن قبل أئمة أهل البيت ، كما أنّ الفقه الإسلامي شهد تغيّرات لعدد من الأحكام، انطلاقًا من قواعد الاستنباط التي يعتمدها الفقهاء.
وأشار إلى هذا المعنى في الحديث المرجع السيد محمد سعيد الحكيم في كتابه (المحكم في أصول الفقه)، قال ما نصّه: (لكن لا يبعد حمله - بقرينة المفروغية عن وقوع النسخ، وإباء لسانه عن التخصيص- على إرادة عدم نسخ أحكام هذه الشريعة بشريعة أخرى، فهو لبيان استمرار الشريعة؛ لأنّها خاتمة الشرايع، وصاحبها صلى الله عليه وآله خاتم الأنبياء، فلا ينافي نسخ أحكامها بها)[16].
تشريعات متغيّرة
إنّ تغيّر ظروف الزمان والمكان تفرض دراسة ما ورد في السيرة النبوية، لنرى على ضوء الضوابط النابعة من داخل الدين، ما هو إجراء أو تشريع مؤقت لتلك الظروف، وما هو ثابت ومستمر لكلّ الظروف والأزمان.
ويتضح من السيرة النبوية الشريفة، ومن عدد من الأحاديث الواردة عن النبيّ ، أنّ هناك تشريعات أصدرها النبيّ وعمل بها المسلمون، لكنّه بعد مدّة من الزمن أعلن رفع تلك التشريعات، مبيِّناً أنه أمر بها لمصلحة تقتضيها في وقتها، أما وقد تغيَّر الظرف وزالت تلك المصلحة فإنه يلغي ذلك التشريع.
ومن تلك الأحاديث: ما ورد عن سلمة بن الأكوع قال: «قال النبيّ : مَنْ ضحّى منكم فلا يصبحنَّ بعد ثالثةٍ وبقي في بيته منه شيءٌ. فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: كلوا، وأطعموا، وادَّخروا؛ فإنّ ذلك العام كان بالناس جهدٌ فأردْتُ أن تعينوا فيها»[17].
وفي روايةٍ أخرى عنه أنه قال: «إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ كَيْمَا تَسَعَكُمْ، فَقَدْ جَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْخَيْرِ، فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا»[18].
وهذا ما نلحظه في تعامل أئمة أهل البيت ، مع الأخبار والأحكام الواردة في السيرة النبوية، وتبعهم في هذا النهج أعلام كبار من مدرستهم، ونذكر هنا نموذجين:
النموذج الأول: ما أورده الشريف الرضي عن أمير المؤمنين علي في نهج البلاغة، أنه: سُئل عن قول النَّبيّ : «غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ».
فَقَال: «إِنَّمَا قَالَ ذلِكَ وَالدِّينُ قُلٌّ، فَأَمّا الاْنَ وَقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ، وَضَرَبَ بِجِرَانِهِ، فَامْرُؤٌ وَمَا اخْتَارَ»[19].
النموذج الثاني: أشار الشيخ الصدوق في كتاب (الاعتقاد) إلى أنّ الروايات والأخبار الواردة عن النبي والأئمة ، مما تتعلق بالصحة والطب، لا يمكن التعامل معها كنصوص قابلة للتطبيق في كلّ زمان ومكان، قال ما نصّه: اعتقادنا في الأخبار الواردة في الطب أنّها على وجوه: منها: (ما قيل على هواء مكة والمدينة، فلا يجوز استعماله في سائر الأهوية. ومنها: ما أخبر به العالم - عليه السلام - على ما عرف من طبع السائل ولم يتعدّ موضعه، إذ كان أعرف بطبعه منه)[20].
وعلى نفس الروايات علّق الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد قائلًا: (وقد ينجع في بعض أهل البلاد من الدواء من مرض يعرض لهم ما يهلك من استعمله لذلك المرض من غير أهل تلك البلاد، ويصلح لقوم ذوي عادة ما لا يصلح لمن خالفهم في العادة)[21].
للمشاهدة:
https://www.youtube.com/watch?v=mM_6Zoj9ACI
للاستماع: