الإيمان وأخلاق الصراع
روى مسلم بن عقيل أن رسول الله قال: «الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ، لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ»[1].
هذه الرواية وردت ضمن سيرة مسلم بن عقيل ، حينما كان في الكوفة وبايعه أهلها، ثم جاء عبيدالله بن زياد من أجل إعادة سلطة يزيد والأمويين على الكوفة، حيث لم يتمكن النعمان بن بشير أن يفرض سلطته وسيطرته على الناس، فجاء عبيدالله بن زياد، حتى يقوم بهذا الدور، مما شكل خطرًا على حركة مسلم بن عقيل.
وتنقل المصادر التاريخية أنّ ابن زياد عزم على المجيء إلى دار هانئ بن عروة من أجل عيادة شريك بن الأعور، فاقترحوا على مسلم انتهاز هذه الفرصة لاغتيال ابن زياد، وذلك بأن يَكْمُن له خلف ستار، فإذا استقرّ به المجلس ينقض عليه ويقتله (غيلةً)، فأبدى مسلم الموافقة على هذا المخطط.
فلما جاء عبيدالله بن زياد واستقرّ به المجلس، أخذ شريك بن الأعور يحفّز مسلمًا على تنفيذ الخطة، ويُلمح إلى ذلك بقوله: ما الانتظار بسلمى لا نحييها؟!
لكنّ مسلمًا لم ينفذ ما تم الاتفاق عليه، وخرج ابن زياد سالمًا!
وهنا عاتبوا مسلمًا واستنكروا عليه عدم قيامه بعملية الاغتيال.
فأجابهم: تذكرت حديثًا لرسول الله أنه قال: «الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ، لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ».
وهو حديث وارد في مصادر المسلمين (سنة وشيعة)، ويرتبون عليه أثرًا عمليًا، فلا يجوز القتل غيلة، وهو ما يطلق عليه (الاغتيال).
نعم.. المواجهة لها أحكامها، ضمن ضوابطها الشرعية، لكنّ حالة الفتك بهذه الطريقة محرمة من الناحية الشرعية.
على ضوء هذه الرواية نشير إلى فكرة مهمة، ذلك أننا حينما نقرأ ونستعرض سير هؤلاء الأولياء ليس لمجرّد إبداء الإعجاب والانبهار بهم، بل لنتمثل سيرتهم ونقتدي بهم.
البعض قد يرى صعوبة في الاقتداء بالأئمة المعصومين، لكننا نقرأ في سيرة تلامذة الأئمة ما يقدّم لنا مثالًا وأنموذجًا للشخصية الإيمانية الملتزمة.
فلا يكفي أن يكون الإيمان مجرّد عقيدة في القلب، كما لا يكفي أن يكون مجرّد عبادة وطقوس يؤديها الإنسان، وإنّما يجب أن ينعكس ذلك على سلوك الإنسان وتعامله مع الآخرين.
التعامل مع الخصوم هو المحك
من الطبيعي أن يتعامل الإنسان مع محبّيه وأصدقائه معاملة حسنة، لكنّ محك الإيمان والاختبار الحقيقي هو في سلوكه مع خصومه وأعدائه!.
إنّ التوجيهات الدينية تدعو الإنسان إلى الابتعاد عن الخصومة وتجنب العداوة ما أمكن،
ورد عن رسول الله : «مَا كَانَ جَبْرَئِيلُ يَأْتِينِي إِلَّا قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اتَّقِ شَحْنَاءَ الرِّجَالِ وَعَدَاوَتَهُمْ»[2].
وفي حديث آخر عنه : «مَا عَهِدَ إِلَيَّ جَبْرَئِيلُ فِي شَيْءٍ مَا عَهِدَ إِلَيَّ فِي مُعَادَاةِ الرِّجَالِ»[3].
ولا خصوصية للرجال هنا، بل تشمل النساء أيضًا، فالمقصود هو الإنسان بشكل عام.
وعن أمير المؤمنين علي : «رَأْسُ الْجَهْلِ مُعاداةُ النّاسِ»[4].
قمّة الجهالة أن يدخل الإنسان في نفق العداوات مع الناس.
وفِي رواية عنه : «مُعاداةُ الرِّجالِ مِنْ شِيَمِ الْجُهّالِ»[5].
وعن الامام الصادق : «إِيَّاكُمْ وَالْخُصُومَةَ؛ فَإِنَّهَا تَشْغَلُ الْقَلْبَ»[6].
وفي وصية له لمؤمن الطاق محمد بن النعمان: «وإيّاكَ وكَثرَةَ الخُصوماتِ! فَإِنَّها تُبعِدُكَ مِنَ اللَّهِ»[7].
لكن إذا فرضت الخصومة نفسها على الإنسان، وجاء الاعتداء عليه من طرف آخر!
ماذا يفعل؟
بداية إن أمكن تجاوز الاستفزاز وعدم الاستجابة، فذلك هو الأولى، يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾[سورة الفرقان، الآية: 63]، ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾[سورة الفرقان، الآية: 72].
ونقرأ في سيرة الإمام زين العابدين :
«استطال رجل على علي بن الحسين فتغافل عنه.
فقال له الرجل: إيّاك أعني!
فقال الإمام: وعنك أغضي»[8].
فكلّما استطاع الإنسان أن يتجاوز الاستفزاز ولا يستدرج إلى الصراع والخصومة فهو خير له، لكن إذا فرضت الخصومة نفسها لأيّ سبب، فعليه أن يعلم أنّ هناك حدودًا وأخلاقًا يجب أن يلتزم بها، بل حتى في الحرب هناك حدود وأخلاق.
البعض يعتبر أنّ الصراع مبرر لتجاوز كلّ الأخلاق والحدود، وهذا لا يجوز شرعًا.
وكم نسمع عن تجاوز الأخلاق حتى في الخلافات الاجتماعية والخصومات العائلية!
يحدث أن تنتهي علاقة زوجين بالانفصال والطلاق، لكن تمتد تداعيات الطلاق إلى العائلة، وتدخل في نفق من الأحقاد والانتقام، وكأنّ كلّ واحد من الطرفين يريد أن يوجه أكبر قدر من الإيذاء للطرف الآخر، ويتعامل معه بحقد، ثم تمتد الحالة إلى الأبناء، ويصبحون ضحية تلك الخصومة!
وهذا خلاف الأخلاق والتعقل.
الفجور في الخصومة
من العناوين المهمة في إدارة الصراع مع الآخرين، مسألة الحدّ الفاصل بين الخصومة و(الفجور في الخصومة)، لذلك تتحدث النصوص الدينية حول هذه المسألة، وتعتبرها من علامات النفاق!
إنّ بعض الناس إذا دخل في معترك الخلاف، يغفل عن مبادئه ومستلزمات إيمانه، ويصل إلى حدّ الفجور في الخصومة، وهي مسألة خطيرة جدًا، حيث تخرجه من دائرة الإيمان إلى النفاق!!
ورد عن النبي الأكرم : «أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ»[9].
وعن الإمام علي أنه قال: «قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْه الْحِيلَةِ ودُونَهَا مَانِعٌ، مِنْ أَمْرِ اللَّه ونَهْيِه، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، ويَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَه فِي الدِّينِ»[10].
علينا ونحن نقرأ سيرة هؤلاء الأولياء أن نأخذ الدروس والعبر من حياتهم، ونستفيد منها في تعاملنا مع الناس، وخصوصًا مع من نختلف معهم.
في خضم الصراع مع الآخر قد يتمكن الإنسان من تحقيق بعض المكاسب، لكنّها ـ ربما ـ تكون على حساب قيمه ومبادئه!!، وهو ما يعني الخسارة الحقيقية لا الربح.
لعلّ مسلم بن عقيل لو أقدم على الاغتيال لحقق مكاسب وانتصر وسيطر على الكوفة، لكنّه رجَّح الانتصار للقيم والمبادئ على الحالة الانتهازية المصلحية، ورفض أسلوب الاغتيال.
مخالفة الشرع بالقانون
في بعض الأحيان يستطيع الإنسان أن ينتزع مالًا أو حقًّا من الطرف الآخر متذرّعًا بالقانون، وهو يعلم أنّ الشرع لا يجيز له ذلك، لكنه يبرر تجاوزه بالقانون.
ومن أمثلة ذلك: ما يحدث في بعض موارد الإرث.
من الناحية الفقهية ليس في الفقه الجعفري (تعصيب)، فإذا توفي شخص وليس لديه إلا بنت، فالإرث لها، وليس لإخوانه حق في تركته، لكنّ إخواننا أهل السنة يرون (التعصيب)، يورثون الأخ حينما لا يوجد وارث إلّا البنت.
فتجد شخصًا يعلم أنّ مذهبه لا يجيز له أن يأخذ من تركة أخيه، لكن لو ذهب إلى المحكمة الكبرى العامة، وطالب بحصة من التركة لحصل عليها؛ لأنّها تعمل بفقه أهل السنة، وهنا يكون ضمير الإنسان محلّ ابتلاء واختبار.
ومن الأمثلة أيضًا: ما يحدث أثناء الخلاف بين الزوجين، حيث يُمَكّن القانون ـ أحيانًا ـ أحد الزوجين من أخذ ما ليس له شرعًا!
الإنسان المؤمن يمتحن في تعامله مع خصومه ومن يختلف معه، فلا يصح أن يكون الخلاف والخصومة سببًا لمخالفة الحقّ والشرع.
للمشاهدة:
https://www.youtube.com/watch?v=nzGbkXRC2Ng
للاستماع: