الجمعة ثراء روحي وتواصل اجتماعي
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[سورة الجمعة، الآيات: 9-10]
متطلبات الحياة تفرض اهتماماتها على الإنسان، وتجعله مشغول الذهن والوقت، فهو يعمل ويكدح ويتابع الأمور المتعلقة بإدارة شؤون حياته الفردية والاجتماعية، وهو أمر مشروع ومطلوب شرعًا وعقلًا، وبذلك ينال الأجر والثواب من الله تعالى، كما ورد عن الإمام الصادق : «الْكَادُّ عَلَى عِيَالِهِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ»[1] .
لكنّ الإنسان في غمرة انشغالات الحياة، قد يغفل عن الجانب الروحي والنفسي في شخصيته، مما قد يعرّضه للخواء والضعف الروحي، وإذا أصاب الوهنُ روح الإنسان، فإنّ ذلك يشكّل خطورة كبيرة على شخصيته، ولن تعوّضه وفرة إمكاناته المادية؛ لأنّ صحة النفس وسلامة الروح أهم وأولى من الحالة المادية والجسمية.
يتحدث العالم اليوم عن أهمية الصحة النفسية وضرورة العناية بهذا الجانب من حياة الإنسان، وفي كلّ سنة يُحتفل باليوم العالمي للصحة النفسية، في العاشر من شهر أكتوبر، ويتم في هذا اليوم الحديث المكثف ضمن المؤتمرات والكتابات عن أهمية الصحة النفسية، وإلفات نظر الناس إلى أنّ الرفاه المادي والصحة الجسمية ليست هي كلّ شيء في حياة الإنسان، فلا بُدّ من العناية بالجانب النفسي.
وقد ذكرت منظمة الصحة العالمية في إحصائية لها (عام 2002) أنّ (154مليون) شخص في العالم يعانون من مرض الاكتئاب، وهو واحد من الأمراض النفسية، وهناك أمراض نفسية أخرى متعددة.
وزارة خاصة لمواجهة الانتحار
نظرًا لتفشي حالات الانتحار في بريطانيا، اضطرت الحكومة البريطانية إلى استحداث وزارة خاصة لمواجهة الانتحار، وذلك لأول مرة في السياسة الدولية، حيث تشير الإحصاءات في بريطانيا إلى انتحار أربعة آلاف وخمس مئة شخص سنويًا![2] .
وقد استضافت بريطانيا قبل يومين بتاريخ 10 أكتوبر 2018م مؤتمرًا بعنوان (قمة عالمية للصحة النفسية)، حضره مندوبون من خمسين دولة، مما يدلل على أهمية وخطورة هذا الجانب في حياة الإنسان.
كيف ولماذا يقدم الإنسان على الانتحار؟!
إنسان يعيش في بلد مرفه، تتوفر لديه كلّ متطلبات الرفاه، فلماذا يقدم على الانتحار؟!
إنه التأزم النفسي والحالة الروحية التي تصل إلى حدّ الخواء، مما يدفع الإنسان إلى الانتحار!
ولذلك تتحدث المعلومات عن تميّز وضع الجاليات الإسلامية في أوروبا عن محيطها الاجتماعي، بقلة حالات الانتحار وقلة الأمراض النفسية.
فالجانب الروحي أمر مهم في شخصية الإنسان وحياته، فلا ينبغي تجاهله بحال، وإذا كان الإنسان يصرف الوقت والجهد للاهتمام بتوفير المتطلبات المادية والمعيشية والرفاهية، فعليه إلى جانب ذلك أن يهتم بالبرامج الروحية والعلاقات الاجتماعية، التي تعطيه حيوية نفسية وروحية.
البرامج العبادية في الإسلام
يهتم الدين بالبرامج العبادية اهتمامًا بالغًا، فهي مصدر إثراء روح الإنسان وحيويته، عن طريق توثيق صلته بالله سبحانه وتعزيز علاقته بالغيب والقدرة المطلقة.
خصوصية الجمعة
في الإسلام برنامج عبادي يومي، يتمثل في إقامة الصلوات الخمس، وهي تواصل عبادي روحي بين العبد وربه، وإلى جانب هذا البرنامج اليومي، اختصّ الشرع يومًا في الأسبوع، هو يوم الجمعة، ليكون المحطة الأبرز، للتزود من الوقود الروحي المعنوي والتواصل الاجتماعي، ضمن الأجواء الدينية الإيجابية.
في كلّ يوم يرتفع نداء الصلاة ثلاث مرات، كما هو عندنا نحن الشيعة، باعتبار الجمع بين الظهرين والعشاءين، أو خمس مرات، كما عند إخواننا أهل السنة، وحينما يسمع المسلم النداء للصلاة، يستحب له أن يذهب إلى المسجد ويؤدي الصلاة جماعة، لكن بإمكانه أن يصلي في منزله بمفرده، أو يصلي في أيّ مكان يتواجد فيه، أو يؤخر صلاته، شرط ألّا يخرج وقتها، فعلى سبيل المثال وقت صلاة الظهر والعصر يتسع إلى غروب الشمس، فهناك عدة ساعات، يمكن للمسلم أن يصلي في أيّ ساعة شاء.
أما يوم الجمعة فله خصوصية تميزه عن سائر الأيام، فمن الأحكام الشرعية كراهية السفر قبل حضور الجمعة، ولهذا يُصدر الله سبحانه أمرًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾ أي إذا حلَّ وقت الصلاة ورفع آذانها ﴿فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ فيوم الجمعة ليس كبقية الأيام، حيث يمكنك أن تصلي في بيتك أو مكان عملك، بل لا بُدّ من السعي إلى المسجد.
وكلمة ﴿فَاسْعَوْا﴾ تدلّ على المبادرة والسرعة، فمن الناحية الفقهية يجب أن تقترن صلاة الجمعة مع الزوال، فلو أخّرها إلى ما بعد وقت الزوال العرفي، لا تؤدى جمعة، بل تكون ظهرًا.
وقوله تعالى: ﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ باعتبار أنّ البيع حالة تفرض نفسها على الإنسان، كنموذج لما يمكن أن يشغل الإنسان عن الصلاة، ولا يقتصر الأمر على ترك البيع فقط بل ترك أيّ عمل آخر يزاحم السعي الى صلاة الجمعة، ﴿ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ فالمبادرة إلى الصلاة لمصلحة الناس الدينية والدنيوية والاجتماعية والروحية، ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي لو تتأملون وتتفكرون في أهمية حضور صلاة الجمعة، لأدركتم مدى فوائد هذا السعي.
الجمعة في الحديث الشريف
إلى جانب هذه السورة المباركة في القرآن الكريم، وردت أحاديث كثيرة حول فضل يوم الجمعة ومكانته وأحكامه.
وفي كتاب (جامع أحاديث الشيعة)، وهو عدة مجلدات، يوجد ستمئة وأربعة عشر حديثًا ورواية حول صلاة الجمعة ووجوبها وأحكامها وفضلها وآدابها، وليس لدينا شعيرة من الشعائر الدينة لها هذا القدر من النصوص.
نحن نرى مختلف الشعائر التي يهتم بها المجتمع الديني، بعضها لها عنوان عام، وبعضها لا تستند إلى روايات قوية، لكن صلاة الجمعة تختص بروايات مستفيضة.
يقول السيد الخوئي: «هي من الكثرة بمكان ومتجاوزة حدّ الاستفاضة بلا ريب، وقد أنهاها بعضهم إلى مئتي (200) حديث، فالذي يدلّ على الوجوب بصريحه من الصحاح والحسان والموثقات وغيرها أربعون حديثًا، والذي يدلّ بظاهره على الوجوب خمسون حديثًا، والذي يدلّ على المشروعية في الجملة أعمّ من أن يكون عينيًا أو تخييريًا تسعون حديثًا، والذي يدلّ بعمومه على وجوب الجمعة وفضلها عشرون حديثًا»[3] .
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: «أَنْ أَدَعَ شُهُودَ حُضُورِ اَلْأَضْحَى عَشْرَ مَرَّاتٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَدَعَ شُهُودَ حُضُورِ اَلْجُمُعَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ»[4] .
(الأضحى) عيد الله الأكبر عند المسلمين وهو مرة واحدة في السنة، لكنّ الإمام يقول حسبما ورد في هذه الرواية أنّ ترك حضور الأضحى عشر مرات، أحب إليَّ من أن أدع الجمعة مرة واحدة! مما يؤكد على أهمية حضور الجمعة.
وعن الإمام الباقر : «يَكُونُ يَوْمُ اَلْجُمُعَةِ شَاهِدًا وَحَافِظًا لِمَنْ سَارَعَ إِلَى اَلْجُمُعَةِ ثُمَّ يَدْخُلُ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْجَنَّةَ عَلَى قَدْرِ سَبْقِهِمْ إِلَى اَلْجُمُعَةِ»[5] .
وهناك نصوص كثيرة حول أهمية صلاة الجمعة، لكنّ المؤسف أنّ كثيرًا من الناس يتساهلون في حضور صلاة الجمعة!!
إذا كان الإنسان مشغولًا طيلة أيام الأسبوع عن حضور الجماعة، فينبغي ألّا يفوّت على نفسه بركات الجمعة، وهو يوم عطلة في بلدان المسلمين.
مع أنّ حضور المصلين يوم الجمعة أفضل من سائر الأيام، ولكن قياسًا إلى الكثافة السكانية يعتبر حضورًا ضئيلًا!
لماذا يتساهل الناس في حضور الجمعة؟!
هي ساعة واحدة من هذا اليوم المبارك، وهو يوم إجازة، ليس فيه ارتباط بوظيفة، لكن البعض يعلّل تقاعسه عن الحضور بالاسترخاء والكسل والنوم!
كيف تفوّت على نفسك هذه الفرصة العظيمة والثواب الكبير؟!
برنامج عائلي
ينبغي للمسلم أن يبرمج وقته، بحيث يكون حضور الجمعة برنامجًا أساسًا في جدوله لهذا اليوم، ولا يجعله شيئًا ثانويًا، فيسترسل في النوم أو ينشغل بأمور المنزل أو الترفيه.
وليكن هذا البرنامج لكلّ أفراد العائلة، بحيث يتهيأ الجميع ويبادرون للاستعداد والتخلص مما يعيقهم عن الحضور، خصوصًا ونحن نعيش هذه المرحلة من حياة مجتمعنا تطورًا ملحوظًا في بناء المساجد وسعتها، مع جود مكان مخصص للنساء، ونأمل أن يتوفر في كلّ مسجد مكان مخصص للأطفال، ينشغلون فيه ويتعلمون المسائل الدينية التربوية، فيعيش الجميع هذه الأجواء الدينية العبادية الاجتماعية، فهي فرصة لا ينبغي للإنسان المؤمن أن يفوّتها على نفسه وعائلته، ونحن نقرأ في دعاء يوم الجمعة من أدعية الصحيفة السّجادية عن الإمام زين العابدين : «وَوَفِّقْنِي لأَداءِ فَرْضِ الجُمُعاتِ وَما أَوْجَبْتَ عَلَيَّ فِيها مِنَ الطّاعاتِ وَقَسَمْتَ لأهْلِها مِنَ العَطاءِ فِي يَوْمِ الجَزاءِ. إِنَّكَ أَنْت َالعَزِيزُ الحَكِيمُ».
ينبغي للإنسان المؤمن أن يواظب على حضور صلاة الجمعة بشكل دائم، وأن يشجع الآخرين ويذكرهم بأهمية حضور صلاة الجمعة، بحيث يكون الحضور للصلاة برنامجًا ثابتًا لا يفرّط فيه، وأن يصحب معه عائلته، ليعيشوا جميعًا أجواء العبادة والتزود الروحي، والكسب المعرفي، والتواصل الاجتماعي.
فهذا خيرٌ كثير لا ينبغي أن يفوتهم.