أهل البيت نهج التعايش والتسامح
جاء في وصية للإمام الحسن العسكري وجّهها لشيعته: «صَلُّوا في عَشائِرِهِمْ (عَشائِرَكُم) وَاشْهَدُوا جَنائِزَهُمْ وَعُودُوا مَرْضاهُمْ وَأَدُّوا حُقُوقَهُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذا وَرَعَ في دينِهِ وَصَدَقَ في حَديثِهِ وَأَدَّى الأمانَةَ وَحَسَّنَ خُلْقَهُ مَعَ النّاسِ، قيلَ هذا شيعِيٌ فَيَسُرُّني ذلِكَ. اتَّقُوا الله وَكُونُوا زَيْنًا وَلا تَكُونُوا شَيْنًا، جُرُّوا إِلَيْنا كُلَّ مَوَدَّة وَادْفَعُوا عَنّا كُلَّ قَبيح»[1]
عاش الإمام العسكري ظروفًا صعبة قاسية طوال حياته الشريفة، فمنذ أن كان في الرابعة أو الخامسة من عمره هُجِّر مع أبيه الإمام الهادي سنة236هـ من المدينة المنورة إلى سامراء، وأُسكن في منطقة (العسكر)، تحت الإقامة الجبرية، ولذلك أطلق عليه العسكري.
كان تحت رقابة السلطة، مفروضًا عليه في كلّ أسبوع أن يحضر مرتين إلى ديوان الخليفة، لإثبات وجوده، ولإظهاره كجزء من حاشية السلطة وعلماء البلاط العباسي.
طوال حياته عاش هذه الظروف، وما كان أحدٌ يستطيع الدخول عليه إلّا ضمن مغامرة، وتحمل أخطار، وكانت فرصة اللقاء به حين يخرج إلى الشارع في بعض شؤونه أو يذهب إلى ديوان الخلافة، بل حتى في هذه الحالة كان اللقاء به محفوفًا بالخطر، ولذلك كتب رسالة إلى بعض شيعته، يقول فيها: «ألا لا يسلمنَّ عليَّ أحد، ولا يشير إليّ بيده، ولا يومئ، فإنكم لا تأمنون على أنفسكم»[2] .
هكذا كان يعيش هذه الظروف العصيبة، ولذلك ورد عنه أنه قال: «ما مُني أحدٌ من آبائي بمثل ما منيت به»[3] .
فقد عاش أشدّ الظروف وأصعبها، إلى أن استشهد سنة 260هـ، وعمره أقلّ من 30عامًا، مما يرجح احتمال أنه مات مسمومًا، فعادة لا يموت الإنسان في مثل هذا العمر إلّا إذا أصيب بمرض أو عرض له حادث.
ورغم كلّ هذه الظروف التي عاشها الإمام الحسن العسكري والتي يفترض أن تدفع إلى حالة من ردّ الفعل، واعتماد خطاب حاد متشنج؛ لأنّ الإنسان إذا عاش ظروفًا صعبة فإنها تنعكس على تفكيره وخطابه، إلّا أنّ خطاب الإمام ووصاياه لشيعته تؤكد على نهج التعايش والتسامح، كما نقرأ في هذه الوصية.
وصيته لداوود بن الأسود
كان داوود بن الأسود يعمل في بيت الإمام العسكري ، ذات مرة لقيه شخص من المناوئين للإمام، فبادر إلى شتمه، تقول الرواية: «فشتمني وشتم صاحبي» أي الإمام.
فلما رجع إلى البيت أخبر الإمام بما تعرّض له من سبٍّ وشتم.
فقال : «إذا سمعت لنا شاتمًا فامْشِ لسبيلك التي أمرت بها، وإيّاك أن تجاوب من يشتمنا»[4] .
إذا كان الطرف المقابل يستخدم لغة البذاءة، فعليك أن تنأى بنفسك عن هذه اللغة، حيث إنك تنتمي إلى مدرسة مغايرة.
إذا كانت المخرجات من نوع واحد، فما الفرق بين مدرستك ومدرسته؟!!
وفِي تأكيد على هذا المسلك ورد عنه : «كفاك أدبًا، تجنبك ما تكره من غيرك»[5] ، أنت تكره من الآخرين أن يتعاملوا معك بالأحقاد والأضغان والسبّ والشتم، فهل يصح لك أن تمارس ذلك؟! هذا خلاف الكمال والأدب.
يلتقي هذا التراث الحضاري من وصايا أئمة أهل البيت مع تطور الثقافة العالمية الداعية إلى الانفتاح والتسامح، وقد اخترت هذا الجانب لأسلط الضوء عليه، لمصادفته لليوم العالمي للتسامح.
اليوم العالمي للتسامح
أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1996م الاحتفال باليوم العالمي للتسامح في 16 نوفمبر من كلّ عام، على أن يحتفى بهذا اليوم في مختلف أنحاء العالم.
مفهوم التسامح
اتخذ مفهوم التسامح في العصور الأخيرة أبعادًا واسعة، تتجاوز معناه اللغوي المحدود، إذ يذهب المعنى اللغوي للتسامح إلى نواحٍ أخلاقية، تنحصر في مفردات الجود والسخاء والعفو، إضافة إلى تنازل الإنسان عن حقّه للآخرين.
في العصر الحديث أخذ هذا المفهوم أبعادًا أوسع وأرحب، خاصة بعدما تبنّى هذا المفهوم التنويريون الأوربيون.
وأصبح يقصد منه احترام الثقافات المتعددة، والاحترام المتبادل بين الحضارات والثقافات والأديان والمذاهب، بحيث يقبل الإنسان التعايش والتعامل مع من يختلف معه في الدين أو المذهب أو الثقافة، وبهذا المعنى أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة اليوم العالمي للتسامح.
الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى
بعد مرور قرن على انتهاء الحرب العالمية الأولى، اجتمع حوالي سبعين زعيمًا من مختلف أنحاء العالم، في باريس، للمشاركة في إحياء الذكرى المئوية على الهدنة التي وضعت نهاية الحرب التي أودت بحياة قرابة 17 مليون شخص بين جندي ومدني.
بدأت المراسم في الساعة الحادية عشرة صباحًا يوم الحادي عشر من نوفمبر، ففي تلك الساعة من ذلك اليوم عام 1918، صمتت المدافع على الجبهة الغربية، وتم إعلان نهاية الصراع الأكثر دموية في التاريخ آنذاك، الذي استمر 4 سنوات وأودى بحياة 10 ملايين مقاتل و7 ملايين مدني[6] .
والسؤال: متى يتجاوز عالمنا العربي والإسلامي حالة الاحتراب والنزاعات والتناحر؟!!
هذه الصراعات التي دمّرت أوطاننا ومزّقت شعوبنا وأضاعت مصالحنا وجعلتنا محلّ سخرية واستهزاء بين أمم الأرض.
لا شك أنّ العامل الأساس لهذه الحروب والفتن والمشاكل هو العامل السياسي والمصلحي، لكن من الواضح أنّ هناك سوء توظيف للعامل الديني، بصبّ الزيت على نار الفتن والحروب، خاصة العنوان الطائفي المذهبي، الذي نراه في الكثير من خطاباتنا في العالم العربي والإسلامي.
هناك تنوع مذهبي وطائفي، وهو تنوع قديم، مضى عليه أكثر من ألف وأربع مئة سنة، ولكن هل نبقى مصرّين على أن نعيش حالة الاحتراب والصراع، لأننا نختلف في بعض معتقداتنا أو مذاهبنا الفقهية أو في قراءتنا للتاريخ؟!!
هذه هي المشكلة الكبرى التي تواجهنا اليوم، وحينما نحتفي بذكريات أئمة أهل البيت ، يجب أن نستلهم من مواقفهم وتوجيهاتهم نهج التعايش والتسامح؛ لأنّ العنوان الأبرز لكثير من الصراعات في عالمنا العربي والإسلامي تأخذ العنوان المذهبي (السني/ الشيعي).
اختلاف الروايات
في تراثنا الديني نوعان ولونان من النقولات:
النوع الأول: روايات تدعو إلى التسامح والتعايش واحترام الآخرين، وخاصة في تراث أهل البيت ، ومنها على سبيل المثال:
ما ورد عن رسول الله : «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لا يَكُونُ لَعَّانًا وَلا فَحَّاشًا وَلا كَذَّابًا»[7] .
وكلنا نفخر بقول أمير المؤمنين : «النّاسُ صِنْفانِ: إمّا أَخٌ لَكَ في الدِّيْنِ، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلْقِ»[8] .
وحين سمع الإمام بعض أصحابه يسبّون أهل الشام قال: «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ»[9] .
إضافة إلى النصوص التي تدعو إلى المدارة وعدم استفزاز الطرف الآخر، والدعوة إلى التعايش، تحت عنوان مهم جدًّا هو مبدأ التقية، للحفاظ على وحدة الأمة وتجاوز الخلافات.
فالتقية في جوهرها تعني عدم إثارة تحسّسات الطرف الآخر، لكنّها ـ للأسف ـ أصبحت وكأنها مسبّة لمذهب أهل البيت وأتباعهم!!
النوع الثاني: روايات ونصوص تبث الكراهية والأحقاد، وتشجع على النيل من رموز الطرف الآخر، واتخاذ مواسم معينة لذلك، كالتاسع من شهر ربيع الأول، حيث يطلقون عليه (فرحة الزهراء)، وحاشاها أن تفرح بتمزيق أمة أبيها.
وهل تفرح الزهراء بأن يعيش المسلمون الاحتراب المذهبي؟!
كما أنّ تراث إخواننا أهل السنة حافل باللونين من الروايات، فيه ما يدعو إلى التسامح وفيه ما يدعو إلى التطرّف والتشنج تجاه الآخر.
جدل عقيم
من الطبيعي أن يختلف العلماء داخل كلّ مذهب في تقويم هذه النصوص والروايات، وقد تجادل الأطراف حول صحة هذا الحديث أو ذاك، ولم ينتهِ الجدال؛ لأنّ هناك موقفًا مسبقًا عند كلّ طرف.
في السنة الماضية دخلت بعض الجهات الدينية في مجتمعنا الشيعي سجالًا لعدة أشهر حول السبّ واللعن، وهل في الدين سبّ ولعن أم لا؟!
هذا يأتي بدليل والآخر يردّه ويفنّد رأيه.
إذا أردنا أن ندخل دائرة الجدل الديني حول صحة هذه الرواية أو تلك فلن ننتهي إلى نتيجة.
الله تعالى يقول: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَان أَكْثَر شَيْء جَدَلًا﴾.
إلّا أنّ المسألة التي يجب أن نتأمل فيها، هي: أين دور عقولنا؟!!
أليست لنا عقول تدرك أنّ مصلحتنا ومصلحة أمتنا وأوطاننا هي في التعايش والتسامح؟!!
أم أنّ الأفضل أن نبقى متصارعين متحاربين؟!!
وإذا كان العقل البشري والتجربة الإنسانية قد وصلت إلى مستوى من النضج والتقدم لإقرار مبدأ التسامح بين الحضارات والأديان والثقافات، فهل نبقى خارج هذا السياق الإنساني العالمي؟!!
ربما يناقش البعض فيقول: وهل نترك ديننا؟!!
والجواب: في الحدّ الأدنى هناك خياران، لهما ما يدعمهما من الروايات، وعليك أن تختار الأصلح والأنسب لحياتك، فهل الأنسب الاحتراب والاقتتال؟!!
ولنا أن نرجح مبدأ التسامح والبعد عن الصراعات من خلال أمرين:
الأمر الأول: ما هو الأصل في تعاليم الدين؟
هل الأصل هو الحقد والسبّ؟ أم أنّ الروايات في ذلك هي موارد استثنائية؟
لا شك أنها موارد محدودة لا تمثل الأصل والحالة العامة.
تجد في القرآن الكريم ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾، وفي الروايات بعض موارد اللعن.
لكنها موارد استثنائية، والمشكلة أنّ هناك من يريد تحويل هذه الموارد الاستثنائية، التي وردت ضمن ظرف ومناسبة معينة إلى منهج عام، وهذه معضلة كبيرة.
الأمر الثاني: الحفاظ على المصلحة العامة
لنا عقول نفكر بها، ونميّز مصلحة حياتنا وسمعة ديننا ومذهبنا.
إذا كنّا نجد أنفسنا أمام لونين من النقولات في التراث، فلنرجّح أحدهما ونعتمده؛ لأنه في إطار الدين وله أدلة ثابتة.
أيّ خيار ينبغي أن نرجح؟ ماذا تقول لنا عقولنا؟
لماذا نترك الرواية التي تدعو إلى التعايش، وتأخذ برواية تسبب الفتن والحروب؟!
إنك تعيش ضمن أمة وهي الأكثرية، لديهم مذهبهم ورموزهم، فهل تريد أن تعيش الصراع مع بقية المسلمين؟!
لا أحد يقول نعم!
إذا لم تكن تريد أن تعيش الصراع مع الآخرين، عليك أن تحترمهم، أما أن تريد العيش مع الآخرين وتطلب منهم القبول بسب رموزهم وشخصياتهم التي يقدّسونها! ترى هل سيقبل منك الآخرون ذلك؟!
لذلك تستوقفني رواية عن الإمام الصادق ، قال لبعض شيعته من المتحمّسين لمثل هذه التوجّهات: «ما أيسر ما رضي الناس منكم، كفّوا ألسنتكم عنهم»[10] .
هل قبلنا نحن المسلمين هجوم بعض الغربيين على شخصية الرسول ، بدعوى حرية الرأي والفن؟!
على الإنسان أن يصغي إلى عقله ضمن دائرة الدين، وألّا يصغي إلى من يحترف خطاب البذاءة والسبّ واللعن والشتم، فهو صبّ للزيت على نار الفتن والصراع والانقسام.
فهذه كلمات أئمة أهل البيت ، توجهنا إلى اعتماد منهج التسامح والانفتاح على الآخر.