التعبّد لله بالإحسان إلى الناس
قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْركوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ [سورة النساء، الآية: ٣٦]
الوظيفة الأساس والواجب الأول على الإنسان في هذه الحياة عبادة الله وحده لا شريك له.
والعبادة هي الخضوع والانقياد لله في جميع شؤون الحياة.
وقد تعارف المتدينون على إطلاق عنوان العبادة على خصوص البرامج الروحية الشعائرية الدينية، أو حسب تعريفهم (ما كان يحتاج إلى نية القربة) كالصلاة والصوم والحج، فاعتبروها موارد ومظاهر العبادة، لكن هذا التخصيص اصطلاحي فقط.
على الإنسان في مختلف شؤون حياته أن يكون عابدًا منقادًا لله، سواء في عمله التجاري، أو طعامه، أو نومه، وكلّ حركاته، فإذا كانت في إطار طاعة الله، فإن ذلك يدخل في عنوان العبادة، ونحن نقرأ قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [سورة الأنعام، الآيات: 162-163].
كلّ شؤون حياة الإنسان يجب أن تكون ضمن مسلك الخضوع والانقياد لله، ومن أهم تجليات العبادة لله حسن التعامل مع الآخرين والإحسان إليهم.
إذا أردت أن تكون عابدا لله، أحسن تعاملك مع الآخرين، وهذا ما تقرره الآية الكريمة، فبعد أن تتحدث عن عبادة الله ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَاتُشْركوا بِهِ شَيْئًا﴾ جاء ذكر الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين والجيران وابن السبيل، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾.
لماذا؟
لأنّ الإحسان إلى الناس هو التجلي لعبادة الله، وفي آية أخرى يأتي تأكيد الإحسان إلى الوالدين بعد وجوب العبادة والتوحيد، يقول تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾[سورة الإسراء، الآية: 23] فهما ـ بعد الله ـ سبب وجود الإنسان في هذه الحياة.
الإحسان إلى الوالدين من أهم تجليات عبادة الله، وهكذا توصي الآيات بالاهتمام بمناطق الضعف في المجتمع.
فالمؤمن الذي يؤدي العبادات ولا يهتم بمناطق الضعف الاجتماعي، عبادته ناقصه، وتديّنه مشوّه، يقول الله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾.
ثم تشير الآية إلى أهمية الاهتمام بالجيران، وهذا من تجليات العبادة لله تعالى: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾
ماذا يعني الجار ذي القربى؟
قال بعضهم: هو الجار ذو الرحم.
ويرى بعض العلماء أن الحديث عن ذي القربى سبق ذكره في الآية، فهو يشمل الجار ذي الرحم أيضًا، أما ﴿الْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ﴾ ليس المقصود به ذي الرحم، وإنّما هو القريب في الدين، في مقابل ﴿الْجَارِ الْجُنُبِ﴾ البعيد عنك في الدين، والمؤمن مطالب بالإحسان إلى الجار سواء كان مسلمًا أو غير مسلم.
وبعضهم قال إن المقصود من ﴿الْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ﴾ القريب مكانًا، و﴿الْجَارِ الْجُنُبِ﴾ البعيد مكانًا، ولكنهما ضمن دائرة الجوار.
كثير من النصوص الدينية تؤكد على حسن الجوار، فقد ورد عن النبي أنه «كان جالسًا مع أصحابه فقال: واللهِ لا يؤمِنُ، واللهِ لا يؤمِنُ، واللهِ لا.
قالوا: وما ذاكَ يا رسولَ اللهِ؟.
قال: جارٌ لا يؤمنُ جارُهُ بوائقَهُ.
قالوا: يا رسولَ اللهِ وما بوائقُهُ؟
قال: شرُّهُ»[1] .
النبي يقسم ثلاثًا بأنّ الذي يسيء إلى جاره، ويصل منه الشر له، ليس له إيمان حقيقي صادق.
وعنه قال: «مَن كان يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُحسِنْ إلى جارِه»[2] .
وعن الإمام علي قال: «الله الله في جيرانكم فإنّهم وصية نبيّكم ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم»[3] .
ثم يقول الله تعالى: ﴿الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ وهنا توصي الآية بالصاحب بالجنب، أي المرافق للإنسان، سواء في السفر، أو العمل، أو زميل الدراسة، وفي أيّ مجال من مجالات الحياة، فمن تجليات عبادتك لله أنّ تعاملهم معاملة حسنة.
ثم توصي الآية الكريم بـ ﴿ابْنِ السَّبِيلِ﴾، وهو المسافر المنقطع عن أهله ووطنه، أي الغريب، والإحسان إليه من تجليات العبادة، وموارد الإحسان المأمور بها من الناحية الشرعية.
ومن مصاديق هذه الحالة: العمالة الأجنبية الموجودة في بلادنا، فهم منقطعون عن أوطانهم وأهلهم، فينبغي على المجتمع أن يتفقد احتياجاتهم وأحوالهم، كما يهتم المجتمع بأبنائه ينبغي أن يهتم بهم، فهم أبناء سبيل على نحو مطلق، وإن لم يكونوا مسلمين.
وأخيرًا يقول تعالى: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي المملوك، لكن في الزمن الحاضر ينطبق على الخدم والعمال والذين هم في كفالة الإنسان وتحت رعايته القانونية، فعلى الإنسان أن يحسن إليهم، ويهتم بشؤونهم.
ثم تشير الآية الكريمة إلى ذمّ الشعور بالتعالي على الناس والتكبر عليهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾، لا تتخيّل أنك أفضل من الآخرين، ولا تفخر أو تتكبر على الآخرين بنقاط القوة عندك، حتى وإن كان ذلك في مجال التديّن، فهذا لا يحبّه الله، فلا يصح لي أن أستخدم ديني في التعالي على الآخرين، والافتخار عليهم!
هكذا تؤكد هذه الآية، ومثلها آيات أخرى على أن عبادة الله تتجلى وتتحقق بالإحسان إلى الآخرين.
يومان عالميان
مرّ علينا هذا الأسبوع يومان عالميان، يرتبطان بالبعد الإنساني، وهما:
اليوم العالمي لذوي الإعاقة (3 ديسمبر).
اليوم العالمي للتطوع (5 ديسمبر).
هذان اليومان هما يومان في خدمة الناس، وما ينفع المجتمع والحياة، ينبغي أن نستحضر فيهما ومن خلالهما التأكيد الديني على الاهتمام بالبعد الإنساني، فوجود ذوي الإعاقة في المجتمع يمثل امتحانًا إلهيًّا قيميًّا للناس.
كيف نتعامل مع أشخاص يفتقدون بعض القدرات الجسمية، أو العقلية؟
فهم بحاجة إلى العون والمساعدة، وإذا كان العالم ـ سابقًا ـ يتحدث عن مساعدة الأشخاص ذوي الإعاقات، والاحتياجات الخاصة، فهناك تطور جديد في المجتمع الإنساني، وهو الدعوة إلى تمكينهم، ومشاركتهم في التنمية، فلا ينبغي النظر إليهم على أنّهم في هامش الحياة، ولا دور لهم، بل ينبغي للمجتمع أن يمكّنهم من ممارسة أدوارهم في الحياة.
من هنا اختارت الأمم المتحدة هذا العام شعار (تمكين الأشخاص ذوي الإعاقة وضمان الشمول والمساعدة).
كيفية التمكين
كيف نمكن ذوي الإعاقة ونساعدهم حتى يشاركوا في إدارة الحياة؟
هل عندهم ما يشاركون به؟!
نعم.. بكلّ تأكيد، فمن كان يفتقد بعض القدرات، لديه قدرات أخرى، ومن لديه إعاقة في جانب، فإنه يستطيع المشاركة في جوانب أخرى، وعلى المجتمع الإنساني أن يساعد هؤلاء حتى يكونوا قادرين على العطاء والمشاركة.
في العالم اليوم أكثر من مليار شخص يعانون الإعاقة، منهم ما يقرب من مئتي مليون طفل، وفي مجتمعنا الوطني تبلغ نسبة ذوي الإعاقة 7.1 % من تعداد السكان، وهناك نقص كبير في المؤسسات التي تهتم بالأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة في مجتمعنا المحلي، لا نمتلك مؤسسات كافية لهذه الشريحة، وقد سمعت من إدارات المؤسسات العاملة في هذا الحقل، وهي لا تزيد على ثلاث مؤسسات، أنّ لدى كلّ مؤسسة قائمة انتظار لمعاقين يحتاجون للالتحاق بالمؤسسة، هناك مجموعة من ذوي الاحتياجات الخاصة لا مكان لهم، مما يدلّ على الحاجة الماسة.
لماذا لا يبادر أهل الخير والإحسان إلى تأسيس المراكز الضرورية التي تهتم بهذه الشريحة؟!
نحن نجد أنّ أهل الخير يبذلون في بناء المساجد، والحسينيات، وفي الأنشطة الدينية، وهو عمل طيب ويؤجر من يقوم به، لكن الإنفاق على هذه المؤسسات الإنسانية ليس أقلّ ثوابًا، بل ما دامت الحاجة قائمة فإنّ الإنفاق على هذه المؤسسات أكبر وأكثر، وكما ورد عن رسول الله : «إذا رَأيتَ الناسَ يَشتغِلونَ بكَثرَةِ العَمَلِ فاشتَغِلْ أنتَ بصَفوَةِ العَمَلِ»[4] ، أي العمل المهم الذي لا يقبل عليه الآخرون ومهمل من جهتهم.
فينبغي الاهتمام بهذه المؤسسات التي تستوعب، وتهتم بهذه الشريحة، لكي تملأ الفراغ الموجود في مجال العمل التطوعي.
أهيب بكلّ شخص من أبناء المجتمع أن ينفق جزءًا من وقته في خدمة مجتمعه ووطنه، وخدمة القيم التي يؤمن بها، صحيح أنّ للإنسان وظيفة وانشغالات مختلفة، لكن لكلّ شيءٍ زكاة، وزكاة الوقت إنفاق جزء منه في العمل التطوعي، كلّ إنسان في مجال تخصصه وعمله، الطبيب يمكنه أن ينفق بضع ساعات في المعالجة المجانية، وتقديم الاستشارات للمرضى، والمعلم يقدم الدروس المجانية خارج الدوام والوظيفة، ورجل الأعمال يقدم شيئًا من خبرته للشباب الباحثين عن إقامة مشاريعهم الأولية، كي يشجعهم على الدخول في عالم المال والأعمال، وهكذا في مختلف التخصصات.
جمعياتنا الخيرية، وأنديتنا الرياضية، والمؤسسات، واللجان المختلفة، تحتاج رفدها بالموارد البشرية، وهذا يعني أن ينضم المزيد من أبناء المجتمع إلى هذه المؤسسات، ويتطوعون بأوقاتهم وجهودهم.
كما أنّ على العاملين في حقل العمل الخيري أن يحرصوا على الاستمرار في مجالهم التطوعي.
في بعض الأحيان تجد من يعمل في العمل التطوعي وكأنه يبحث عن مبرر أو فرصة ليترك وينسحب؛ لأنه سمع كلمة جارحة، أو لم ينسجم مع الإدارة!!
إنّ فائدة العمل التطوعي للإنسان نفسه قبل غيره، والله تعالى يقول: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ﴾.
الموظف في أيّ دائرة حريص على الاستمرار في وظيفته ويناضل من أجل الاحتفاظ بها، وفي مجال العمل التطوعي ينبغي أن يكون الإنسان حريصًا على الاستمرار في القيام به، وما دام قد التزم معنويًّا في الانخراط في هذا العمل فليحرص على أداء مهامه؛ لأنه إن تكاسل أو قصّر، أدى ذلك إلى خلل في المؤسسة التي يعمل فيها!!
فعلى الإنسان أن يتعامل مع العمل التطوعي بحرص واهتمام، كما يتعامل مع أنشطته وأعماله الخاصة..
نسأل الله أن يجعلنا من الحريصين والمخلصين في الاستمرار في أعمال الخير.