أعظم فرص الاستثمار
﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[سورة البقرة، الآية: 245]
تتنوع أساليب الهداية والتوجيه الإلهي للناس، ففي القرآن الكريم أكثر من أسلوب في مخاطبة الناس، لتوجيههم إلى الهدى والخير والصلاح، وفي ذلك درس مهم للمرشدين والموجهين، أن ينوعوا أساليب توجيههم، فقد يكون هناك أسلوب مؤثر في شخص، لكنه عديم التأثير في شخص آخر، فلا بُدّ من تنويع الوسائل والأساليب.
في القرآن الكريم دعوات كثيرةٌ للإنفاق في سبيل الله، وللبذل والعطاء في أمور الخير، لكنها جاءت في أساليب متنوعة، ومن تلك الأساليب تأتي هذه اللغة الرقيقة في التعبير عن العطاء، بمصطلح الإقراض، وهو أن يعطي الإنسان مبلغًا من ماله لآخر على سبيل الدين، يعيده اليه فيما بعد.
بهذه اللغة يشجع الله تعالى الناس ويوجههم للإنفاق في سيبله، ويستثير وجدانهم ومشاعرهم بطلب القرضة منهم، ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَهَ﴾، هذا المال الذي بأيدينا هو من الله، لكنه سبحانه وتعالى يطلب منا أن نقرضه من ماله الذي آتانا.
وهل الله محتاج حتى نقرضه؟!
إنها لغة لإثارة المشاعر والوجدان في نفس الإنسان، الله هو الغني المطلق، ولا يحتاج إلى الناس.
وهؤلاء الفقراء الذين يدعونا الله للصدقة عليهم، كان يمكنه أن يعطيهم بشكل مباشر، ولهذا جاء احتجاج الكفار على هذه الدعوة: ﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾.
إذا كان الله سبحانه وتعالى رحيمًا ولا يريد لهؤلاء الناس أن يعيشوا الفقر، لماذا يطلب منّا أن نتصدق عليهم؟! لماذا لا يعطيهم بشكل مباشر؟!
يجيب على هذا التساؤل أمير المؤمنين علي ، حيث يقول في إحدى خطبه: «وَاسْتَقْرَضَكُمْ وَلَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»[1] .
الله سبحانه وتعالى شاء أن تكون هذه الحياة دار ابتلاء وامتحان لنيّات الإنسان ومشاعره وسلوكه، لذلك كان المال بيد بعض الناس، يحتاج إليه آخرون، وهنا يكون الامتحان، هل تجود نفسك وتتحرك مشاعرك؟!
الله سبحانه وتعالى يعبّر عن هذا البذل بالإقراض، كأنك تقرض الله تعالى، وهذا القرض يعود لك أضعافًا مضاعفة.
عوائد مضاعفة
جاءت الدعوة للإنفاق بهذا الأسلوب في سبعة موارد في القران الكريم، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [سورة الحديد، الآية: 18].
تشير بعض الروايات إلى أنّ المقصود بالقرض الحسن هو ما يكون من مال حلال غير معيب، ولا تعقبه المنة على الطرف الآخر.
وفِي آية أخرى يقول الله تعالى ﴿إِن تُقْرِضُوا اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾[سورة التغابن، الآية 17].
وفِي آية ثالثة يقول الله تعالى: ﴿وَأَقْرِضُوا اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّـهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ [سورة المزمل: الآية 20].
فالدعوة للإنفاق بهذه اللغة التي تعتبر الانفاق استثمارًا للمال، فكما هو الحال في المصارف، حيث يستثمر الإنسان بإيداع ماله في أيّ شركة أو مصرف طمعًا في نسبة العائد من هذا الاستثمار.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ ليس مئة في المئة، بل مئات الآلاف، وعلى الإنسان أن يكون واثقًا بوعد الله.
ورد عَنْ ابن مَسْعُودٍ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ يُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟!
قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ.
قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ.
فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي، وَفِي حَائِطِي سِتَّمِائَةٍ نَخْلَةٍ.
ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْحَائِطِ فَنَادَى يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، وَهِيَ فِي الْحَائِطِ.
فَقَالَتْ: لَبَّيْكَ.
فَقَالَ: اخْرُجِي فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي.
فَقَالَ النَّبِيُّ : كَمْ مِنْ عِذْقٍ[2] رَدَاحٍ[3] وَدَارٍ فَيَّاحٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ)[4] والفيّاح أي الواسع.
فالآية الكريمة وعدٌ من الله تعالى بأنّ ما ينفقه الإنسان في سبيل الله هو بمثابة القرض، وسيعيده الله للإنسان أضعافًا كثيرة، والوعد بمضاعفة عوائد الإنفاق جاء مطلقًا في الآيات الكريمة ليشمل الدنيا والآخرة، والروايات تشير إلى ثواب الآخرة، وبركة الرزق في الدنيا، كما ورد في الحديث عن رسول الله : «ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»[5] .
والآية الكريمة فيها نوعٌ من التهديد المبطن؛ لأنها تقول ﴿وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ أي إنّ الأمور بيد الله سبحانه، قد يهيئ للإنسان سبل التوفيق لزيادة خيره والبركة في ماله، وقد تسير الأمور باتجاه آخر، فتضيق عليه أسباب الرزق!
إعطاؤك للفقراء والمحتاجين كأنه عطاء لله سبحانه، ولذلك ورد في حديث عن رسول الله : «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟!
قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟!»[6] .
حينما لا تتصدق على الفقير والمحتاج كأنك بخلت على الله تعالى، فالله هو الذي طلب منك نيابةً عنهم.
موارد الإنفاق في سبيل الله
كلّ ما ينفع الناس ويخدم الحياة ويطورها، فهو من مصاديق الإنفاق في سبيل الله، ويمكننا أن نصنفها إلى أربعة مجالات وموارد:
الأول: المجال الدينـي
أن ينفق الإنسان من ماله في خدمة الدين وتعزيزه في المجتمع، فحين ينقاد الناس للقيم الدينية والمبادئ الإلهية، تستقيم حياتهم في الدنيا ويحققون الفوز والفلاح في الآخرة، والإنفاق في إعلاء كلمة الله ونشر دينه يرضي الله تعالى ويوجب حسن جزائه وثوابه.
ومن الموارد في هذا المجال: بناء المساجد والحسينيات والمدارس الدينية ووسائل الإعلام الديني والمشاريع القرآنية، وكلّ ما يعزز الحالة الدينية في المجتمع.
الثاني: البعد الإنساني
الإنفاق في مجال نفع الناس ومساعدة المحتاجين، كالأيتام والفقراء والمساكين والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة، يعتبر من أجلى مصاديق الإنفاق في سبيل الله.
فمثلا هناك عوائل تعيش في بيوت تحتاج إلى صيانة، بيوت لا تتوفر فيها الحياة الكريمة اللائقة بإنسان يعيش في هذا البلد، وعلى الناس أن يهتموا بهذا الجانب.
بعض الجمعيات الخيرية اتجهت إلى الاهتمام بتهيئة المساكن المناسبة للعوائل الفقيرة ومحدودة الدخل، ترميم هذه البيوت وصيانتها أو توفير البيوت المناسبة لهم، هو أمر في غاية الأهمية، وينبغي لأبناء المجتمع دعم هذا التوجه والوقوف مع الجمعيات الخيرية في هذا المجال.
الثالث: التنمية الاجتماعية
ونعني بذلك التنمية المستدامة للمجتمع والارتقاء بالكفاءات، فكلّ مشروع يخدم رقي المجتمع علميًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو أخلاقيًا، فهو من مصاديق الإنفاق في سبيل الله.
البعض من الناس حينما يسمع الحديث عن الإنفاق في سبيل الله يتبادر إلى ذهنه بناء المساجد والحسينيات، أو إعطاء الفقير والمحتاج، وهو أمر صحيح، لكن هناك مجالات أخرى لا تقلّ أهمية وثوابًا.
الرابع: المجال الحضاري
المجتمع بحاجه إلى مراكز علمية معرفية ومؤسسات تنشر الوعي والثقافة، وتهتم بالمحافظة على البيئة، وإلى مؤسسات تصون تراث المجتمع وتحفظ تاريخه، وإلى أنشطة تنمي المواهب والقدرات المختلفة لأبنائه، كلّ هذه الأعمال والتوجهات هي من مصاديق الإنفاق في سبيل الله.
توجيه بوصلة الاهتمام
هناك إقبال من الناس على الانفاق في البعد الديني وبالدرجة الثانية في البعد الإنساني، وهو أمر يستوجب الشكر والتقدير، ولكن في المجالين الآخرين لا يزال الإقبال ضعيفًا، ليس بمستوى الحاجة والتطلع.
وهنا ينبغي الأخذ بعين الاعتبار حاجة المجتمع، فإذا كان هناك اكتفاء في المجال الديني، فإنّ الإنفاق في المجال الإنساني أفضل، وإذا حصل الاكتفاء في المجال الإنساني فينبغي الإنفاق في مجال التنمية الاجتماعية والبعد الحضاري، فلا بُدّ من البحث عن منطقة الفراغ، والثغرات التي ينبغي أن تسدّ. والصحيح أن يكون هناك تكامل بين هذه التوجهات في ساحة المجتمع والوطن.
وهذا ما يحتاج إلى بحث ودراسة من قبل المهتمين بالشأن الاجتماعي.