المسيح رسول المحبّة والسلام
أورد الشيخ ابن شعبة الحراني في كتابه (تحف العقول عن آل الرسول) مواعظ نبي الله المسيح عيسى بن مريم ، منها هذه الفقرات «صِلُوا مَنْ قَطَعَكُمْ، وَأَعْطُوا مَنْ مَنَعَكُمْ، وَأَحْسِنُوا إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ، وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ سَبَّكُمْ، وَأَنْصِفُوا مَنْ خَاصَمَكُمْ، وَاُعْفُوا عَمَّنْ ظَلَمَكُمْ، كَمَا أَنَّكُمْ تُحِبُّونَ أَنْ يُعْفَى عَنْ إِسَاءَتِكُمْ فَاعْتَبِرُوا بِعَفْوِ اَللهِ عَنْكُمْ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ شَمْسَهُ أَشْرَقَتْ عَلَى اَلْأَبْرَارِ وَاَلْفُجَّارِ مِنْكُمْ وَأَنَّ مَطَرَهُ يَنْزِلُ عَلَى اَلصَّالِحِينَ وَاَلْخَاطِئِينَ مِنْكُمْ فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تُحِبُّونَ إِلَّا مَنْ أَحَبَّكُمْ وَلاَ تُحْسِنُونَ إِلَّا إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ وَلاَ تُكَافِئُونَ إِلَّا مَنْ أَعْطَاكُمْ، فَمَا فَضْلُكُمْ إِذًا عَلَى غَيْرِكُمْ وَقَدْ يَصْنَعُ هَذَا اَلسُّفَهَاءُ الَّذِينَ لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ فُضُولٌ وَلاَ لَهُمْ أَحْلاَمٌ وَلَكِنْ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَكُونُوا أَحِبَّاءَ اَللهِ وَأَصْفِيَاءَ اَللهِ فَأَحْسِنُوا إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ، وَاُعْفُوا عَمَّنْ ظَلَمَكُمْ، وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْكُمْ»[1] .
يحتفل العالم بذكرى ميلاد نبي الله عيسى بن مريم ، في 25 نوفمبر من كلّ عام.
هذا النبي العظيم الذي تحدّث عنه القرآن الكريم في موارد كثيرة، بدءًا من الحديث عن ولادته الإعجازية، حيث ولد من دون أب، لذلك فإنّ اسمه عيسى بن مريم، حيث ليس له أب ينسب إليه، يقول الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[سورة آل عمران، الايات: 45-47].
وخصّص الله تعالى سورة في القرآن الكريم باسم أمّه مريم، هذه السيدة العظيمة التي تكرر ذكرها في القرآن الكريم أربعًا وثلاثين مرة.
إنّ احتفاء العالم بهذه المناسبة، فيه رسالة إلى المنهزمين دينيًّا، بسبب انبهارهم بالحضارة المادية، لقد رأوا تقدم هذه الحضارة المادية، فظنوا أنّ الدين لا دور له ولا قيمة، وأنّ البشرية تجاوزت الأديان.
على هؤلاء المنهزمين دينيًّا ومن تأثر بشبهات الملاحدة، أن يتأملوا ليروا كيف أنّ العالم ـ وفي طليعته العالم المتحضرـ هو الذي يحتفي بمناسبة ميلاد نبي الله عيسى بن مريم .
لقد أصبح ميلاده عنوانًا للتأريخ العالمي، فهو مؤرخ بميلاد السيد المسيح، وأصبحت بداية السنة في العالم هي ميلاده .
إنّ ثلث العالم (مليارين ونصف) ينتسبون إلى المسيحية، من أصل سبعة مليارات ونصف هم عدد سكان العالم اليوم.
إذًا.. العالم لم يتجاوز الدين، ودور الدين لم ينتهِ في الحياة، بدلالة أنّ الإنسان لا يزال ينتمي إلى حالة التديّن بشكل أو بآخر، كما يدلّ على ذلك واقع أبناء البشر اليوم، ومن مظاهره الاحتفاء بميلاد السيد المسيح، لكنّ بعض هؤلاء المنهزمين دينيًا تنقصه الثقافة والوعي، والبعض الآخر لديه ردة فعل من واقع التخلف الذي تعيشه المجتمعات المنتسبة إلى الدين، فيُحَمِّل الدين المسؤولية، وكأنه سبب تخلف هذه المجتمعات!
هذا الاحتفاء العالمي بميلاد السيد المسيح رسالة لهؤلاء المنهزمين دينيًّا، وعلى دعاة الدين أن يهتموا باستيعاب أبناء مجتمعاتهم وتحصينهم وتزويدهم بالفكر الصحيح، حتى يتجاوزوا ردّات الفعل من التطرف والتشدد الديني والتخلف في المجتمعات الدينية، وحتى يدركوا دور الدين في حياتهم.
كتاب تحف العقول
بمناسبة ميلاد نبي الله عيسى بن مريم نقتبس بعض الإضاءات من توجيهاته النيرة، ونشير في البدء إلى مصدر هذه المواعظ، وهو كتاب (تحف العقول عن آل الرسول).
هذا الكتاب مهم جدًّا، ينبغي ألّا يخلو منه بيت من بيوت المؤمنين، ألفه الشيخ الثقة الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني، نسبة إلى حرّان من بلاد الشام، وهو من أعلام القرن الرابع الهجري، وكان معاصرًا للشيخ الصدوق بن بابويه المتوفى سنة 381هـ
وهو من أعاظم علماء الإمامية وفقهائها، محدّث جليل القدر، رفيع المنزلة، كما وصفه مترجموه من العلماء.
اهتم الشيخ المفيد (ره) بكتاب تحف العقول ونقل عنه في مؤلفاته، كما اعتمده العلماء، وقد أراد المؤلف لكتابه أن يسدّ فراغًا في ساحة مجتمعه، حسبما أشار في مقدمة الكتاب، إلى أنّ علماء الشيعة ألّفوا وجمعوا أحاديث الأئمة في الحلال والحرام والفرائض والسنن، وبقيت الحاجة إلى جمع ما يرتبط بالتربية الروحية والتوجيه الأخلاقي، مما يطلق عليه المواعظ والحكم.
يقول في المقدمة: «ولم ينته إليَّ لبعض علماء الشيعة في هذه المعاني تأليف أقف عنده ولا كتاب أعتمد عليه وأستغني به، يأتي على ما في نفسي منه، فجمعت ما كانت هذه سبيله وأضفت إليه ما جانسه وضاهاه وشاكله وساواه»[2] .
لكنّ المؤسف أنّ المؤلف أسقط الأسانيد تخفيفًا وإيجازًا، ولأنّ أكثره آداب وحكم تشهد لأنفسها بصحة صدورها عن النبي والأئمة حسب تعبيره، ويفترض أنه لم ينقل هذه الروايات إلّا عن طريق أسانيد معتبرة فهو عالم ثقة جليل القدر والعلم.
وقد أفرد عدة صفحات في الكتاب لإيراد مواعظ وحكم عن نبي الله عيسى بن مريم ، التي نقلنا منها هذه القبسات.
تكامل الاهتمامات الدينية
مشكلة بعض المتديّنين هي حصر الاهتمام على الجانب التشريعي الفقهي (الحلال والحرام)، وهو جانب مهم، لكن ينبغي عدم الاقتصار عليه، فهناك الجانب الروحي الأخلاقي؛ لأنّ جوهر الدين هو صفاء النفس وحسن السلوك والأخلاق، وليس فقط مسائل الحلال والحرام والعبادات والتشريعات، لهذا نجد أنّ النبي حينما يتحدث عن هدف بعثته الأساس يقول فيما روي عنه: «إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وهذا هو جوهر الدين.
ينبغي للإنسان المتديّن أن يهتم بصفاء نفسه ونقاء قلبه، وأن يهتم بسلوكه الأخلاقي مع الناس، أما إذا كان ملتزمًا بالعبادات والأحكام الفقهية، لكن نفسه مليئة بالضغائن والأحقاد وحالة الأنانية، فلا يفكر إلّا في ذاته فهذا التديّن لا قيمة له؛ لأنه لم يحصل على لب الدين وجوهر التديّن!.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «وإنّ للاسلام غاية، فانتهوا إلى غايته»[3] .
الأحكام الفقهية والعبادية إنّما هي وسائل لتهذيب النفس وتقويم السلوك والسمو الأخلاقي، فعلى الإنسان أن يهتم بهذا الجانب، ومن وسائل تربية النفس وتهذيب الأخلاق قراءة مواعظ الأنبياء والأئمة والتفاعل معها، وعدم الاكتفاء بالأحكام الفقهية.
طبيعة الموعظة تحيي القلب وتحرك الوجدان، وكم للأئمة من كلمات عظيمة حكيمة في هذا السياق.
لو أنّ الإنسان المؤمن يقرأ في كلّ يوم صفحة من هذا الكتاب ويتأمل كلمات الموعظة لاستطاع أن يشكل لنفسه رؤية تربوية، وأن يصيغ أحاسيسه ومشاعره على ضوء القيم الإلهية السليمة.
مواعظ نبي الله عيسى
من المواعظ التي نقلها الشيخ الجليل في كتابه تحف العقول: مواعظ نبي الله عيسى ابن مريم ، هذه المواعظ توجّه الإنسان إلى أن يتعامل مع الآخرين من وحي القيم والمبادئ، وليس كردات فعل لتصرف الآخرين معه، إذا تصرف أحد معك تصرفًا سيئًا، فلا يدفعك ذلك إلى مقابلته بالمثل.
وإلّا فما الفرق بينك وبينه؟!
إذا رددت على المخطئ بخطأ مماثل كرست السلوك السيئ في المجتمع، وزرعت ذلك في نفسك، لذا على الإنسان المؤمن أن يتصرف من وحي القيم والمبادئ، يقول السيد المسيح .
«صِلُوا مَنْ قَطَعَكُمْ، وَأَعْطُوا مَنْ مَنَعَكُمْ، وَأَحْسِنُوا إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ، وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ سَبَّكُمْ، وَأَنْصِفُوا مَنْ خَاصَمَكُمْ، وَاُعْفُوا عَمَّنْ ظَلَمَكُمْ».
إذا أخطأ الزوج في حق زوجته، عليها ألّا تنطلق مع غرائزها، فتنتقم وترد عليه بطريقة خاطئة، وكذلك على الزوج أن يتحلى بالحلم ويتحكم في انفعالاته، وبذلك يتجنب الانزلاق في دوامة صارع قد تتسع وتهدم حياته الأسرية، وهكذا مع الجيران والزملاء ومع الناس بصورة عامة، لا يكن رد فعلك من جنس الخطأ، ثم يشير نبي الله عيسى إلى رغبة الإنسان في العفو عنه حينما يخطئ، «كَمَا أَنَّكُمْ تُحِبُّونَ أَنْ يُعْفَى عَنْ إِسَاءَتِكُمْ فَاعْتَبِرُوا بِعَفْوِ اَللَّهِ عَنْكُمْ» ألا تحب أن يغفر الله لك خطأك؟!
عليك أن تغفر لعباد الله حتى يغفر الله لك.
ويستشهد بسعة رحمة الله حيث ينزل نعمه على الأبرار والفجار، وخيراته سبحانه لا تختص بالمؤمنين والشاكرين، بل تشمل كلّ الناس، «أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّ شَمْسَهُ أَشْرَقَتْ عَلَى اَلْأَبْرَارِ وَاَلْفُجَّارِ مِنْكُمْ؟ وَأَنَّ مَطَرَهُ يَنْزِلُ عَلَى اَلصَّالِحِينَ وَاَلْخَاطِئِينَ مِنْكُمْ؟ فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تُحِبُّونَ إِلاَّ مَنْ أَحَبَّكُمْ، وَلاَ تُحْسِنُونَ إِلاَّ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ، وَلاَ تُكَافِئُونَ إِلاَّ مَنْ أَعْطَاكُمْ، فَمَا فَضْلُكُمْ إِذًا عَلَى غَيْرِكُمْ».
فعلينا أن نشمل بحسن أخلاقنا كلّ الناس، وإلّا فما فضل العاقل على الجاهل؟! وما ميزة المؤمن على غير المؤمن؟
إذا كان الجاهل يقابل السيئة بالسيئة، والعاقل يقتدي به في تصرفاته، فما هي ميزة العاقل، وما دور الإيمان؟!!
ينبغي أن يتبيّن أثر الإيمان والعقل في مثل هذه الحالات، وقد يقوم بعض الجهلة بمقابلة الإحسان بالإحسان، لكنّ المحك هو في مقابلة الإساءة بالإحسان، والترفع عن اللغو والسب والشتم، يقول : «وَقَدْ يَصْنَعُ هَذَا اَلسُّفَهَاءُ اَلَّذِينَ لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ فُضُولٌ وَلاَ لَهُمْ أَحْلاَمٌ، وَلَكِنْ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَكُونُوا أَحِبَّاءَ اَللهِ وَأَصْفِيَاءَ اَللهِ فَأَحْسِنُوا إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ، وَاُعْفُوا عَمَّنْ ظَلَمَكُمْ، وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْكُمْ».
والمؤمن العاقل بطبيعة الحال يريد القرب من الله تعالى، حتى يصل إلى درجة أحبّاء الله وأصفيائه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا ولكم ولجميع أبناء البشرية، ذكرى ميلاد هذا النبي العظيم عيسى بن مريم ، وأن يجعل هذه السنة الميلادية الجديدة سنة خير على البشرية جمعاء، بحيث تنتهي الحروب المدمرة، ويسود العدل والسلام، وتنعم الشعوب بالأمن والاستقرار.
ونسأل الله أن يوفقنا وإيّاكم للسّير في طريق الأنبياء والأئمة ، بالتزام المبادئ الإلهية والتحلي بمكارم الأخلاق.