صناعة التفوق
﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[سورة النحل، الآية: 78]
يأتي الإنسان إلى هذه الدنيا صفحة خالية من المعلومات والمعارف، لكنّه مزوّد بوسائل كسب العلم والمعرفة، وأبرزها حاستي السمع والبصر، ولديه قابلية التعلم والتعرف، وهو المقصود في قوله تعالى: ﴿وَالْأَفْئِدَةَ﴾، فالفؤاد تعبير واسم في القرآن الكريم للقلب، وهو مركز الإدراك والمشاعر، فالإنسان مزود بقابلية التعلم ووسائله.
عوامل كسب العلم والمعرفة
تشترك ثلاثة عوامل في تحصيل العلم والمعرفة:
العامل الأول: التوجه الذاتي
يتفاوت الناس في كسبهم للعلم والمعرفة، هناك من يلتفت إلى قدراته وطاقاته والوسائل التي زوّده الله تعالى بها، فيتوجه إلى كسب العلم والمعرفة ويقطع شوطًا في ذلك، ومن الناس من لا يلتفت إلى قدراته وقابلياته، ويبقى يعيش الجهل أو يكون محدود المعرفة.
فالتوجه والاندفاع الذاتي هو المؤثر الأساس لكسب العلم والمعرفة.
العامل الثاني: التنشئة العائلية
العائلة التي ينشأ فيها الإنسان لها دور في توجيهه للعلم والمعرفة.
إذا كانت العائلة تهتم بالعلم، وتربي أبناءها على التعلم، يكون أبناؤها مهيئين للسير في طريق كسب العلم والمعرفة، ولذلك نجد أنّ بعض العوائل يمتلك أبناؤها الكفاءات والقدرات، ترى في العائلة عددًا من ذوي الشهادات العالية والمستويات العلمية الرفيعة، بينما تجد عوائل أخرى لا يتوفر أبناؤها على حظ من الدراسة والعلم، فالأجواء العائلية لها دور كبير مؤثر.
العامل الثالث: البيئة الاجتماعية
إذا كانت البيئة الاجتماعية تهتم بتشجيع أفرادها على العلم والمعرفة، وتشيع في أجوائها فرص كسب العلم والمعرفة، وتتوفر فيها برامج المنافسة، فإنّ أبناء هذه البيئة يكونون أكثر إقبالًا على العلم والمعرفة، لذلك تجد المجتمعات البشرية ـ وخاصةً في عالمنا المعاصر ـ تهتم بتوفير الفرص لأفرادها، وتشجيعهم على كسب العلم والمعرفة، فالتنافس في العالم اليوم لم يعد في مجرّد إحراز النجاح، بل أصبح المقياس هو التميّز والتفوق.
مؤسسة موهبة
وقد ظهرت في بلادنا ـ بحمد الله ـ مؤشّرات على الاهتمام بتشجيع المواهب وتحفيزها نحو التميّز والتفوق، عبر مؤسسات ذات خبرة وكفاءة، وفي طليعتها مؤسسة موهبة، وهي مؤسسة وطنية غير ربحية تهدف إلى اكتشاف ورعاية الموهوبين والمبدعين في المجالات العلمية، ذات الأولوية الوطنية، تأسست عام 1999م.
وبحمد الله أخذ مجتمعنا في القطيف موقعًا رياديًا ضمن خارطة الوطن على صعيد بروز المواهب والكفاءات المتميزة.
فقد كشف تقرير إحصائي عن استحواذ الطلاب الموهوبين المجتازين لمقياس (موهبة) في قطاع القطيف على (41%) من إجمالي أعداد الطلاب الموهوبين المرشحين لهذا المقياس على مستوى القطاعات التعليمية بالمنطقة الشرقية للعام الدراسي 1439/1438هـ.
وأوضح التقرير: أنّ عدد الطلاب الموهوبين من قطاع القطيف المجتازين لمقياس(موهبة)، من الصف الثالث الابتدائي على مستوى المنطقة الشرقية بلغ ستين طالبًا، من بين مئة وستة وأربعين متقدمًا، أي بنسبة (41%) لصالح موهوبي القطيف، وقد حقق طلاب مدرسة ضرار بن الأزور الابتدائية بصفوى المركز الأول في هذا المقياس.
ونجح مئتان وستة عشر طالبًا موهوبًا من الصف السادس الابتدائي في اجتياز المقياس، من بين خمس مئة وثمانية وثلاثين طالبًا موهوبًا في المنطقة الشرقية شاركوا في هذا الاختبار، ليتألق قطاع القطيف بنسبة (40%)، كما حقق طلاب الصف السادس الابتدائي بمدرسة التهذيب الأهلية الابتدائية بسيهات المركز الأول في هذا المقياس.
وتمكن مئتان وثلاثة وعشرون طالبًا موهوبًا من الصف الثالث المتوسط من تخطّي هذا المقياس، من بين خمس مئة وأربعة وعشرين موهوبًا على مستوى المنطقة الشرقية، أي بنسبة (42%) لصالح مدارس القطيف، وحققت مدرسة التهذيب الأهلية المتوسطة بسيهات المركز الأول في اجتياز مقياس (موهبة).
وقد غرّدت عضو مجلس الشورى ودكتورة القياس والإحصاء وتقويم البرامج (FSU-USA) ومستشار ووكيل الجودة والتطوير سابقًا، وأستاذ مشارك بجامعة الملك سعود؛ إقبال درندري على موقع التواصل الشهير (تويتر)، بخبر نشرته «القطيف اليوم»، تشيد فيها بتفوق طلاب القطيف.
وكتبت درندري: كشف تقرير إحصائي عن أنّ (41%) من الطلاب الموهوبين بالشرقية المجتازين لمقياس (موهبة) عام 1438/1439هـ، كانوا من محافظة القطيف، وقالت: أتذكر أيضًا أنّ عددًا من طالباتي بالجامعة المتفوقات كنّ من القطيف، مضيفةً: ما شاء الله! لكني لا زلت لا أعرف سرّ ذلك التفوق وتلك الموهبة!
التفوق على المستوى العالمي
في أبنائنا المبتعثين نماذج للتفوق على المستوى العالمي، فقد حصد المبتعث لمرحلة الدكتوراه حسين علي آل داؤود جائزة أفضل بحث تم عرضه في المؤتمرات الدولية للأمن السيبراني (الإلكتروني) ونظم الاتصالات في مدينة ملبورن الأسترالية، والمقامة على منصة المؤتمرات بمعهد ملبورن التقني من تاريخ 10 إلى 12 ديسمبر 2018.
وخاض آل داؤود منافسة كبيرة ببحثه في المؤتمر، الذي يعتبر مؤتمرين مدمجين في مؤتمر واحد، حيث شارك فيه نحو سبعين شخصًا بأبحاثهم، وكان من بينهم دكاترة ومحاضرون وطلاب دكتوراه، من شتى أنحاء العالم، وجامعات ذات صيت عالٍ بينهم ثلاثة فقط من جنسيات عربية.
وقد قام الملحق الثقافي للمملكة في أستراليا الدكتور هشام الخدراوي بتكريم المبتعث آل داؤود، لحصوله على الجائزة، ورفعه اسم المملكة عاليًا في المحافل الدولية.
يذكر أن آل داؤود المنحدر من جزيرة تاروت مبتعث في أستراليا مع زوجته وأبنائه الثلاثة لتحضير رسالة الدكتوراه، فقد درس في مرحلتي البكالوريوس والماجستير نظم المعلومات في أمريكا، أما الآن فهو يدرس هندسة أمن المعلومات بأستراليا.
سرّ التفوق
ما نشهده اليوم من بروز مستويات متميزة وكفاءات واعدة يعود إلى عاملين مهمين:
اهتمام العوائل بأولوية التعليم ومحورية المعرفة في الحياة، فتعليم الأبناء يجب أن يكون محور اهتمام الأسرة، بدءًا من هندسة البيت وتصميمه، إلى ميزانية الإنفاق وبرامج الترفيه، بما يحقق بيئة منزلية محفزة على العلم والتفوق.
هناك قدوات وكفاءات برزت وبدأت تأخذ موقعها في عالم التفوق والتميز، وسرّ ذلك عائد لاهتمام الأسر بتربية أبنائها وتحفيزهم على طلب العلم.
دور الأجواء والبيئة الاجتماعية في التحفيز والتشجيع على التفوق والتميز.
لقد أصبح التفوق صناعة لها ظروفها ومستلزماتها، وعلى المجتمع أن يفكر كيف يصنع التفوق في أوساط أبنائه، وذلك عبر الأمور التالية:
أ. تهيئة الأجواء العلمية، بإنشاء مراكز أبحاث ودراسات ومكتبات عامة، حتى نخلق أجواء مشجعة ودافعة نحو العلم والتعلم.
ب. تقديم فرص ومنح دراسية للموهوبين.
ينبغي أن نعتبر أبناء المجتمع أبناءنا ونسعى لرقيّهم وتفوقهم، ونشترك جميعًا في توفير الفرص التعليمية لهم، حتى يتقدم المجتمع، ويشترك الجميع في جني ثمار هذا التفوق.
ج. إظهار التقدير والاهتمام بالتفوق والمتفوقين.
إنّ تكريم المتفوقين وإبرازهم في المجتمع له دور كبير في تحفيز الطلاب وتشجيعهم للتفوق. ومن المبادرات الجميلة في هذا المجال:
قامت إحدى المدارس بوضع صور طلابها المتفوقين على مدخل المدرسة من الخارج، بحيث يراها كلّ من يمرّ بالمدرسة، وقد شجّع ذلك كثيرًا من الطلاب لتحقيق التفوق والانضمام إلى كوكبة المكرّمين.
بعض العوائل تقيم حفل تكريم لأبنائها وبناتها المتفوقين كلّ عام، مما له أثر كبير في التحفيز وخلق روح التنافس بين الطلاب على مستوى العائلة.
تقيم لجنة المناسبات التعليمية والعلاقات العامة بمكتب التعليم في محافظة القطيف برنامجًا سنويًا لتكريم المتفوقين والمتفوقات على مستوى محافظة القطيف، وذلك منذ إحدى وعشرين سنة، وهي مبادرة رائعة ومهمّة جدًّا.
في هذا العام تم تكريم (565) طالبًا وطالبة من المتفوقين والمتفوقات في مرحلة المتوسطة والثانوية لحصولهم على درجة (100%)، ولو ضم إلى التكريم الطلاب الحاصلين على تقدير ممتاز لتضاعف عدد المكرمين.
وأودّ هنا أن أتقدّم بالشكر للإخوة الأعزاء على دورهم المتواصل في إقامة هذا الحفل كلّ عام، وأدعو المجتمع إلى التفاعل معهم ومساعدتهم ودعمهم ماديًا ومعنويًا.
نسأل الله تعالى أن يوفّق أبناءنا في دراستهم وأن يقرّ أعيننا بصلاحهم ونجاحهم وتقدمهم.