ماذا تصنع بفائض المال؟
﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾[سورة البقرة، الآية: 219]
لأنّ الأمر بالإنفاق في سبيل الله، من أجل تعزيز الدين ومساعدة المحتاجين، كان موضع تأكيد واهتمام في آيات القرآن الكريم، وتوجيهات النبي الأعظم ، لذلك تساءل المسلمون عن حدود الإنفاق المطلوب منهم.
فالآيات التي تحدثت عن الإنفاق تزيد على سبعين آية، إلى جانب أكثر من ثلاثين آية تتحدث عن الزكاة، وبعض تلك الآيات تذكر الإنفاق إلى جانب الإيمان بالله، كقوله تعالى: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾[سورة النساء، الآية: 39].
وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾[سورة البقرة، الآية: 3].
وقوله تعالى: ﴿لَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾[سورة البقرة، الآية: 177].
وكانت استجابة المؤمنين الصادقين الأوائل بمستوى هذا التأكيد والاهتمام، إلى حدّ أنّ بعضهم ما كان يترك من ماله شيئًا، حتى ما يقيم به حياته وحياة أسرته!!
وجاؤوا يسألون رسول الله عن حدود الإنفاق التي يحققون بها الاستجابة للواجب الشرعي والأمر الإلهي، فنزلت الآية الكريمة، لتبيّن أنّ الأولوية لحاجات الإنسان ومستلزمات حياة أسرته ومن يعول، ثم ينفق الفائض عن حاجته وحاجة عائلته يقول تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ والعفو هو الزيادة والفائض.
وفي الحديث «أنّ رجلًا جاء رسول الله بِمِثْلِ الْبَيْضَةِ مِنْ ذَهَبٍ، قَدْ أَصَابَهَا مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُذْ هَذِهِ مِنِّي صَدَقَةً، فَوَاللَّهِ مَا أَصْبَحَ لِي مَالٌ غَيْرُهَا.
قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ .
فَجَاءَهُ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرَ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: يَأْتِي أَحَدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ مَا يَمْلِكُ فَيتَصَدَّقُ بِهِ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى»[1] .
وحدّ الغنى الشرعي: أن يملك الإنسان نفقته ونفقة عياله لسنة كاملة، بالفعل أو القوة.
ويقصد بـ (الفعل) وجود المال نقدًا، أو (القوة) أي لديه موارد توفر له ما بما يحتاج.
وجاء في الدر المنثور عن ابن عباس: «أنَّ نفرًا من الصحابة، حين أمروا بالنفقة في سبيل الله، أتوا النبيّ فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله: ﴿وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدّق به»[2] .
ما تكسبه ليس لك وحدك
إنّ ما يكسبه الإنسان من مال وثروة، هو نعمة من الله تعالى، من أجل أن يعيش مرتاحًا، ويوفر لنفسه ولمن يعول متطلبات الحياة والرفاه، فالآية تؤكد أولوية حاجة الإنسان الشخصية ومن يعول، وحين يزيد كسبه ودخله عن حاجته، فإنّ عليه أن يلتفت إلى حاجات من حوله من أقاربه وجيرانه وأصدقائه، وسائر الضعفاء من أبناء مجتمعه، وذلك ما يطلبه الله تعالى منه، فما تكسبه ليس لك وحدك، بل للآخرين حصة منه، وعليك أن تنفق على القضايا الدينية والاجتماعية والإنسانية، وبكلّ صراحة تقول الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾[سورة المعارج، الآيتان: 24- 25]، ويقول تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾[سورة الذاريات، الآية: 19].
إذا توفرت جميع حاجاتك وحاجات عيالك، انظر إلى من حولك، فقد يعيشون الحاجة والفاقة، فأنت مطالب بالإنفاق عليهم، ورد في الحديث عن النبي محمد : «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَان وَجَارُهُ جَائِعٌ»[3] .
من يتغافل عن حاجة جاره الفقير، ليس مؤمنًا على الحقيقة، وورد عنه أنه قال: «مَا مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ يَبِيتُ فِيهِمْ جَائِعٌ يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[4] .
والحديث عن الجوع كنموذج للحاجة، وليس الأمر محصورًا في حدود الجوع، فهو مظهر من مظاهر الحاجة، فإذا كانت هناك حاجة تستلزمها الحياة، لا تتوفر لشخص، والناس يتجاهلون حالته، فالله تعالى لا ينظر إلى أهل هذه القرية جميعهم.
وورد عن الإمام علي : «إِنَّ اللَّه سُبْحَانَه، فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ، فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِه غَنِيٌّ، والله تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ»[5] .
والالتفات إلى حاجات أبناء المجتمع يصب في مصلحة الفرد نفسه؛ لأنّ الإنسان إذا عاش في مجتمع يكثر فيه الفقراء، فذلك يعني وجود ثغرات في الأمن الاجتماعي، فالفقر يولّد الجريمة والانحراف والفساد!.
إنفاق المتمكنين من أجل حاجات الفقراء والمحتاجين يؤمن الاستقرار للمجتمع.
نماذج من البطر والترف
ثم ماذا يصنع الإنسان بالمال الفائض عن حاجته؟!
البعض لديه ما يكفيه لعشرات السنين، حتى لو عاش مئة سنة، فماذا يصنع بهذه الزيادة؟!
قد يدفعه توفر المال الفائض إلى البطر والترف الزائد عن الحدّ!.
ومن أمثلة ذلك ما تنشره الجرائد عن أخبار بعض الأثرياء:
رجل الأعمال الياباني(كيوشيكيمورا)، اشترى سمكة تونة بمبلغ 3 مليون دولار[6] .
رجل الأعمال الهندي (راج ساهاني) اشترى لوحة سيارة مميزة تحمل الرقم (5) مقابل 33 مليون درهم إماراتي، أي حوالي 9 مليون دولار أميركي[7] .
حينما يتوفر عند الإنسان مال فائض، يبحث عن مثل هذه الأمور ينفق المال فيها!
وبعض الأثرياء يراكم المال والثروة، تتجمع لديه العقارات والأموال، دون أن ينفقها!
تناقلت الصحف وفاة أغنى رجل في الفلبين، «هنري سي سر»، الذي تصدّر على مدار 11 عامًا قائمة أثرى أثرياء الفلبين، التي تصدرها مجلة «فوربس» العالمية، وقدرت ثروته بنحو 19 مليار دولار[8] .
التفكير في مستقبل الأبناء
إذا كان الإنسان مطمئنًا على مستقبل أبنائه، ولديه مبالغ احتياطية للحالات الطارئة، فلماذا يكدّس الأموال؟!
نعم، في النصوص الدينية تشجيع على الاهتمام بمستقبل الأبناء، وألّا يترك الإنسان أبناءه يتكففون الناس بعده.
عن مسعدة قال: حدثني جعفر بن محمد، عن أبيه: أنّ رسول الله بلغه أنّ رجلًا من الأنصار توفي وله صبية صغار، وليس لهم مبيت ليلة، تركهم يتكففون الناس، وقد كان له ستة من الرقيق ليس له غيرهم، وأنه أعتقهم عند موته.
فقال لقومه: «ما صنعتم به»؟
قالوا: دفناه.
فقال: «أما إنّي لو علمته ما تركتكم تدفنونه مع أهل الإسلام، ترك ولده صغارًا يتكففون الناس!»[9] .
أما إذا كان الورثة مقتدرين ماليًا، فعلى الإنسان أن يفكر في نفسه ومستقبله الأخروي، كما يقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ﴾.
في حياة الإنسان يعطي الأولوية لنفسه وعياله، أما بعد وفاته، لماذا يترك المال كله دون أن يستثمره لآخرته؟!.
الوصية بالثلث
من الناحية الشرعية للمتوفى حقّ الوصية بثلث أمواله لا أكثر إلّا أن يجيز الورثة، والبعض قد يغفل عن هذا الأمر، بإمكانك أن توصي به لأعمال الخير، ونحن نجد في بعض المجتمعات الغربية من يوصي بأمواله لبناء الجامعات والمستشفيات أو المكتبات، وللإنفاق على الفقراء والمحتاجين.
البعض في مجتمعنا يحصرون وصاياهم بثلث تركتهم في العبادات (الصلاة والحج وغيرها)، وثواب هذه الأعمال لا شك فيه، لكن تفيد الأحاديث كما تفيد فتوى الفقهاء بأنّ الوصية والإنفاق على الفقراء والمحتاجين أكثر ثوابًا وأجرًا.
في ملحق مناسك الحج للسيد السيستاني حفظه الله، وعلى موقعه الإلكتروني، سؤال عن المفاضلة بين الحج والزيارة وبين الإنفاق على الفقراء والمحتاجين.
فكان الجواب: مساعدة أولئك المؤمنين المحتاجين أفضل من الحجّ وزيارة العتبات المقدسة في حدّ نفسيهما، ولكن قد يقترن الحجّ أو الزيارة ببعض الأمور الأخرى التي تبلغ بها تلك الدرجة من الفضل أو تزيد عليها[10] .
فهذا هو الأصل، لذلك ينبغي للإنسان إذا كان لديه فائض من المال أن ينفقه في حياته، وأن يوصي بثلثه بعد وفاته، فذلك مصداق لـ (الْعَفْوَ) الوارد في الآية:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾[سورة البقرة، الآية: 219].
ما ينفقه الإنسان في مجالات الخير يجده أمامه يوم القيامة خيرًا وثوابًا ونعيمًا يُسعد حياته في الآخرة. كما ترتب حياتك في الدنيا وتستمع بمالك، فتكون كلّ احتياجاتك متوفرة بالمستوى المناسب، عليك أن تفكر في مستقبلك الأخروي.