الغضب وتدمير الحياة الزوجية
ورد عن أمير المؤمنين علي في حديثه عن فاطمة الزهراء : (فَوَ اَللَّهِ مَا أَغْضَبْتُهَا وَلاَ أَكْرَهْتُهَا عَلَى أَمْرٍ حَتَّى قَبَضَهَا اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ، وَلاَ أَغْضَبَتْنِي وَلاَ عَصَتْ لِي أَمْراً وَلَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا فَتَنْكَشِفُ عَنِّي اَلْهُمُومُ وَ اَلْأَحْزَانُ)[1] .
حين يتحدّث الإمام علي عن طبيعة العلاقة التي كانت قائمة بينه وبين سيّدتنا فاطمة الزهراء في حياتهما الزوجية، فإنه يريد بذلك أن يقدم لنا أنموذجًا في إدارة الحياة الزوجية.
ويشير الإمام في حديثه إلى خلوّ تلك العلاقة بينهما من مثيرات الغضب والانفعال السّلبية السيئة التي تمنع استقرار الحياة الزوجية وسعادتها.
ونريد الوقوف عند تأثيرات حالة الغضب المدمّرة للحياة الزوجية.
الغضب طبيعته وآثاره
الغضب في علم النفس: ردّة فعل انفعالية على أحد المثيرات الخارجية، قد تدفع إلى الانتقام بتصرفات خارجة عن حسابات العقل، ودون تفكير في أيّ عواقب لاحقة.
وكثيرًا ما يتعرّض الإنسان في حياته الاجتماعية، لمواقف لا يرتاح لها، تثير انزعاجه، كأن تقال له كلمة غير لائقة، أو ينتقص شيء من حقوقه، أو يوجه إليه فعل مسيء.
وهنا تحصل حالة انفعالية داخل نفسه، تحفِّزه للردّ والدفاع عن الذات. وهذا أمر طبيعي، حين يأخذ سياق التعامل المدروس المعقول، لكن هذه الحالة قد تخرج عن السّيطرة باستجابة الإنسان الفورية وغير المدروسة لانفعاله، مما يورّطه في مضاعفات خطيرة.
لذلك جاءت النصوص الدينية التي تنبّه الإنسان إلى خطورة هذه الحالة، وكبح جِماحها. كما وضع علماء النفس والتربية معالجات كثيرة لتدريب الإنسان على ضبط أعصابه والتحكم في انفعالاته عند لحظات الغضب.
ورد في الحديث عن النبي : (الصُّرَعةُ كلُّ الصُّرَعةِ: الرَّجُلُ الذي يَغضَبُ فَيَشتَدُّ غَضَبُهُ، ويَحمَرُّ وَجهُهُ، ويَقشَعِرُّ جِلدُهُ، فَيَصرَعُ غَضَبَهُ)[2] .
وورد عن الإمام علي : (الغَضَبُ شَرٌّ إن أطَعتَهُ دَمَّرَ)[3] .
وعنه : (مِن طَبائعِ الجُهّالِ التَّسَرُّعُ إلَى الغَضَبِ في كُلِّ حالٍ)[4] .
وعنه أيضًا : (إِيَّاكَ وَالْغَضَبَ فَأَوَّلُهُ جُنُونٌ وَآخِرُهُ نَدَمٌ)[5] .
وفي الكافي عن أبي عبدالله الصادق قال: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ بَدَوِيٌّ فَقَالَ: إِنِّي أَسْكُنُ الْبَادِيَةَ فَعَلِّمْنِي جَوَامِعَ الْكَلَامِ، فَقَالَ: آمُرُكَ أَنْ لَا تَغْضَبَ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْأَعْرَابِيُّ الْمَسْأَلَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى رَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: لَا أَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَ هَذَا مَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِالْخَيْرِ، قَالَ وَكَانَ أَبِي يَقُولُ أَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ مِنَ الْغَضَبِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ فَيَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَيَقْذِفُ الْمُحْصَنَةَ)[6] .
مثيرات الغضب في الحياة الزوجية
وقد يكون الإنسان معرّضًا لمثيرات الغضب في حياته الزوجية أكثر من أيّ مجال آخر، بسبب شمولية العلاقة وسعتها، ولأنّ كلًّا من الزوجين قد تكون له بعض الخصائص في مزاجه أو تفكيره تختلف عن الآخر، وخاصة إذا كانا نتاج بيئتين مختلفتين.
هنا لا بُدّ أن يدرك الإنسان من بداية حياته الزوجية، وأن يذكّر نفسه أثناءها دائمًا، بأنه قد يحصل ما يثير لديه حالة الانفعال، وعليه أن يقرّر استيعاب مثل تلك المواقف وتحمّلها، وألّا يندفع لردّات الفعل الغاضبة.
وتشير بعض النصوص الدينية إلى أنّ هذا التحمّل والاستيعاب يكاد يكون حقًّا من حقوق الحياة الزوجية.
ورد عن إسحاق بن عمار قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : مَا حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا الَّذِي إِذَا فَعَلَهُ كَانَ مُحْسِناً؟ قَالَ: (يُشْبِعُهَا وَيَكْسُوهَا، وَإِنْ جَهِلَتْ غَفَرَ لَهَ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ : كَانَتِ امْرَأَةٌ عِنْدَ أَبِي ع تُؤْذِيهِ فَيَغْفِرُ لَهَا)[7] .
كما ورد عنه : (وَيْلٌ لاِمْرَأَةٍ أَغْضَبَتْ زَوْجَهَا وَطُوبَى لاِمْرَأَةٍ رَضِيَ عَنْهَا زَوْجُهَا)[8] .
إنّ البعض قد يتصوّر أنّ غضبه في الحياة الزوجية أقلّ خطرًا من غضبه خارجها، لكنّ الصحيح هو العكس. وأساسًا فإنّ الغضب تجاه من يكون في موقف أضعف من موقفك يكون أسوأ. واستيعاب الانفعال وكبح الغضب هنا أدعى وأفضل.
ورد عن الإمام جعفر الصادق : (مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ فِيمَا نَاجَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مُوسَى يَا مُوسَى أَمْسِكْ غَضَبَكَ عَمَّنْ مَلَّكْتُكَ عَلَيْهِ أَكُفَّ عَنْكَ غَضَبِي)[9] .
وورد عن الإمام علي الهادي : (اَلْغَضَبُ عَلَى مَنْ تَمْلِكُ لُؤْمٌ)[10] .
إنّ كثيرًا من المشاكل في الحياة الزوجية تحصل بسبب حالات الانفعال والغضب كالسّب والشتم والكلمات الجارحة والطرد والهجر واستخدام العنف.
الاستيعاب وتصريف طاقة الغضب
تؤكد النصوص الدينية، وتوجيهات علماء النفس والتربية، على ضرورة التروّي في مواقف الانفعال، وعدم التسرّع في اتخاذ ردّات الفعل، وتصريف طاقة الغضب، بالانشغال والابتعاد عن الموقف المثير.
فقد ورد عن النبي محمد : (يَا عَلِيُّ، لاَ تَغْضَبْ، فَإِذَا غَضِبْتَ فَاقْعُدْ وَتَفَكَّرْ فِي قُدْرَةِ اَلرَّبِّ عَلَى اَلْعِبَادِ وَحِلْمِهِ عَنْهُمْ)[11] .
وعنه : (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ)[12] .
وعن أبي ذرٍّ أنّ رسول الله قال: (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ، فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ)[13] .
إنّ تحصين الحياة الزوجية من حالة الغضب يقتضي أمرين:
الأول: كبح الغضب.
الثاني: اجتناب مثيرات الغضب، وهو الأمر الأهم والأساس، بأن يحرص كلٌّ من الطرفين عدم إثارة انفعال الطرف الآخر، فلا يقوم بما يكرهه أو يزعجه.
ويفترض في الحياة الزوجية أن يكتشف كلٌّ من الزوجين مزاج الآخر وميوله، فيراعي ذلك في تعامله ومعاشرته.
إنّ ذلك يستدعي العزم على التوافق وتقديم التنازلات، أما إذا أصرّ كلٌّ من الطرفين على موقفه، فستتعرّض حياتهما الزوجية للاضطراب.
مثلًا: إذا عرف الزوج أنّ تأخره عن المجيء إلى المنزل، يغضب زوجته، فليحرص على عدم التأخر، وكذلك الزوجة إذا كان تأخرها عن العودة إلى منزلها يغضب زوجها، فعليها ألّا تفعل ذلك.
وكذلك إذا عرف الزوج أنّ تأخره في صيانة المنزل أو جلب احتياجاته يثير انفعال زوجته فليكن مبادرًا لإنجاز ذلك ما أمكن.
كما أنّ على الزوجة عدم الإلحاح في مطالبة الزوج ببعض الكماليات الرفاهية التي لا يتحمّلها وضعه الاقتصادي؛ لأنّ ذلك يثير غضبه وانزعاجه.
النموذج والقدوة
ما أروع حالة الرضا والانسجام في الحياة الزوجية، إنّها تعني الاستقرار والطمأنينة النفسية والسّعادة لكلٍّ منهما، وتحقّق رضا الله تعالى، وتوفر أجواء التربية الصالحة للأبناء.
فلنقرأ الحياة الزوجية لعليٍّ وفاطمة، لأخذ الدروس والعبر، ولتكون أنموذجًا للتأسّي والاقتداء.
ولنتأمّل، إضافة إلى الحديث السّابق عن الإمام علي ، كلام فاطمة الزهراء الذي روي عنها عند قرب وفاتها، إنّها قالت لعلي : (يَا اِبْنَ عَمِّ، مَا عَهِدْتَنِي كَاذِبَةً وَلاَ خَائِنَةً وَلاَ خَالَفْتُكَ مُنْذُ عَاشَرْتَنِي، فَقَالَ : مَعَاذَ اَللَّهِ، أَنْتِ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَأَبَرُّ وَأَتْقَى وَأَكْرَمُ وَأَشَدُّ خَوْفاً مِنْ اَللَّهِ مِنْ أَنْ أُوَبِّخَكِ بِمُخَالَفَتِي)[14] .
للمشاهدة:
https://www.youtube.com/watch?v=6JKoo_NYS6k
للاستماع: