سيدة قريش أم المؤمنين خديجة (ع)
تمكين الإنسان في هذه الحياة قرار إلهي، فقد خلقه الله ليكون خليفته في الأرض، وزوّده بقدرات عقلية ونفسية وبدنية، ومنحه الإرادة والاختيار، وسخّر له ما في الكون من وجودات وثروات.
والتمكين جعل الشيء في مكان ويطلق كناية على الإقدار ورفع الموانع. وحين يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾[1] أي أعطيناكم القدرة على التصرف في أمور الحياة في الأرض، وأزلنا الموانع التي تعوقكم، بما منحكم الله من قدرات وبتسخير الموجودات لكم.
وهذا الخطاب القرآني في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ وفي قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾[2] موجّه لجميع بني البشر ذكورًا وإناثًا، ولا يختصّ بالذكور دون الإناث، فتمكين المرأة في الأرض كتمكين الرجل قرارٌ إلهي يحمله الخطاب القرآني.
التمييز ضدّ المرأة
لكنّ الواقع في حياة المجتمعات البشرية على امتداد العصور كان قائمًا على التمييز بين الرجل والمرأة في فرص التمكين، وحرية الحركة والتصرف، حيث تحرم المرأة من كثير من الفرص التي تتاح للرجل في الحياة الخاصة والعامة.
بعض القوانين والتشريعات تسلب المرأة حتى حقّ التصرف في جسمها أو مالها، فلو احتاجت لعملية جراحية لا بُدّ من موافقة وليّ أمرها الرجل، ولا يحقّ لها اتخاذ قرار الزواج إلّا بموفقة وليّها الرجل (لا نكاح إلّا بولي). وعند الشيعة تنحصر الولاية في الأب والجدّ للأب حين تكون الفتاة بكراً، أما عند جمهور أهل السنة فتتسع الولاية على المرأة بكرًا وثيّبًا في نكاحها لتصل إلى ابنها وابنه وإن نزل وإلى إخوتها وأبنائهم وعمومتها وأبنائهم. عدا الشافعية فإنّهم لا يرون للابن ولاية على أمه. وانطلاقًا من هذا الرأي الفقهي فإنّ المرأة وإن كانت في الستين من عمرها مثلًا، فإنّ قرار زواجها قد يكون بيد ابن أخيها أو ابن عمّها وإن كان دون العشرين من عمره.
وبعض القوانين لا تصرّح للمرأة بالسفر دون رجل محرم.
أما تصرف المرأة وتدخّلها في الشأن العام وإدارة الحياة فهو محظور ممنوع.
كانت ظروف الحياة في العصور الماضية تستلزم خشونة الجسم وقوة العضلات، لتحصيل الموارد، وخوض معارك القتال، طلبًا للغنائم أو دفاعًا عن القبيلة ومصالحها، وهذا ما يتمكن الرجل من القيام به. بينما تحتاج المرأة إلى حماية الرجل لنعومة جسمها وضعف قوتها البدنية.
وعلى هذا الأساس قامت معادلة هيمنة الرجل، واستئثاره بفرص الحرية والحركة، وانحصر دور المرأة في وظائفها الزوجية والمنزلية تحت رعاية الرجل وفي ظلّ سلطته.
ولتبرير واقع الهيمنة الذكورية أنتج الرجل ثقافة وتنظيرًا مفاده أنّ طبيعة الرجل الوجودية أعلى من طبيعة المرأة، وأنّ قيمته الإنسانية متميّزة عليها، وأنه أكمل منها عقلًا ونفسًا، فهو في رتبة متقدمة، وإنسان من الدرجة الأولى.
هذا ما قاله الفلاسفة القدماء، ثم نسب إلى الدين. وذلك ما ترفضه النصوص الدينية الأصيلة. وهو ما اتضح خطؤه في هذا العصر وتجاوزته المجتمعات المتحضرة. وبقيت آثاره في بعض المجتمعات باسم الدين.
لكن بعض النساء القلائل في العصور الماضية استطعن أن ينتزعن مكانتهنّ ويفرضن وجودهنّ في مجتمعات الهيمنة الذكورية. وذلك يدلّ على مواصفات استثنائية في شخصياتهنّ.
مكانة خديجة في مجتمع قريش
ومن تلك النساء البارزات خديجة بنت خويلد أم المؤمنين حيث يصادف العاشر من شهر رمضان ذكرى وفاتها في السنة العاشرة للهجرة، التي نشأت في مجتمع يضطهد المرأة ويستهين بها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴿٥٨﴾ يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾[3] .
في هذا المجتمع انتزعت خديجة دورًا مميزًا فقد كانت لها تجارة واسعة، يعمل فيها عدد من رجالات قريش. وجاء في بعض المصادر: أنه كان لخديجة في كلّ ناحية عبيد ومواشي حتى قيل إنّ لها أزيد من ثمانين ألف جمل متفرقة في كلّ مكان، وكان لها في كلّ ناحية تجارة، وفي كلّ بلد مال مثل مصر والحبشة وغيرها[4] .
وعلّق أحد الباحثين على ذلك قائلاً: كانت خديجة أغنى أهل مكة، وكان لها أزيد من أربعين ألف جمل تسافر بالتجارة إلى الشام والعراق والبحرين وعمان والطائف ومصر والحبشة وغيرها من الأمصار، ومعها العبيد والغلمان والوكلاء، وقد سافر النبي في تجارتها[5] .
وكانت تسمى (سيّدة قريش) واشتهرت بكمال الأخلاق، فكان يطلق عليها الطاهرة والمباركة إضافة إلى شرف نسبها، وحسن جمالها. فهي تلتقي مع النبي في الجدّ الأعلى قصي بن كلاب.
وقد خطبها زعماء ورجالات قريش فلم تقبل أحدًا منهم، وهناك من يناقش فيما اشتهر من أنّها تزوجت قبل النبي برجلين، هما: عتيق بن عبدالله المخزومي، وأبو هالة التميمي. ويرجح عدد من المحققين عدم صحة ذلك وأنّها كانت عذراء قبل زواجها بالنبي .
وكانت آنذاك في مرحلة الشباب، فحينما سافر النبي في تجارتها ثم تزوجها كانت في الثامنة عشرة من عمرها على الأرجح عند المحققين.
وكان رسول الله قد سافر في تجارة خديجة إلى الشام مضاربًا أو مشاركًا باقتراح من عمّه أبي طالب، ورافقه غلامٌ لخديجة اسمه ميسرة، فبهرته أخلاق رسول الله وشمائله، وقد أخبر خديجة عمّا شاهده ورآه في شخصيته ، فكان ذلك سببًا لرغبة خديجة في الاقتران به ، إضافة إلى ما كانت تعلمه من حسن سيرته في قريش حتى كان يطلق عليه (الصادق الأمين).
إنّ هذه المكانة الاجتماعية والاقتصادية تبعث برسالة لكلّ امرأة أن تطمح لتفجير قدراتها وتنتزع لها دورًا في ميادين الاقتصاد والاجتماع. وخاصة مع إتاحة الفرص في الظروف الحاضرة لكي تأخذ المرأة دورها في مختلف المجالات.
إنّ دخول المرأة في معترك الحياة يصقل شخصيتها، ويسهم في حركة التنمية والتقدم الاجتماعي والوطني.
في خدمة الرسالة
والجانب الأهم في سيرة خديجة هو توظيفها هذه المكانة والثروة في خدمة الرسالة والتغيير الاجتماعي.
فقد بادرت للإسلام والإيمان بالنبي فور عودته من غار حراء وإخباره لها بنزول الوحي عليه، وأعلنت أنّها وهبت النبي كلّ ما تملك من مال وإبل وشياه وعقار وعبيد وجوار[6] . ومن المعروف بين المفسّرين في تفسير قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ﴾[7] أنّ المقصود اغتناؤه بثروة السيدة خديجة[8] .
لقد حرّر رسول الله بعض الأرقّاء من المسلمين من أموالها.
وموّل المهاجرين إلى الحبشة في الهجرتين من مالها. وكان عدد المهاجرين سبعة عشر شخصًا في الأولى، وما يقارب السبعين شخصًا في الثانية، جاء في بحار الأنوار: وكان رسول الله يفكّ في مالها الغارم والعاني، ويحمل الكلّ، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة[9] .
وقدمت إليه مرضعته حليمة السعدية فرحب بها، فشكت إليه الجدب، فكلّم خديجة فأعطتها أربعين شاة[10] .
وحين حوصر النبي مع بني هاشم في شعب أبي طالب لمدة سنتين أو ثلاث سنوات كانت تنفق عليهم من مالها.
لذلك ورد عن النبي قوله: "مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ خَدِيجَةَ"[11] .
وفي هذه السيرة للسيدة خديجة رسالة أخرى للمرأة إذا دخلت ميدان العمل وكسبت الثروة أن توظف إمكاناتها في خدمة دينها ومجتمعها.
إنّ هذا الدعم المالي للنبي من قبل خديجة هو واحد من أبعاد دورها ونصرتها لرسول الله ، إلى جانب الأدوار الأخرى.
في قلب رسول الله
خديجة بنت خويلد كانت أكثر من زوجة في حياة الرسول، فهي الكهف العاطفي الذي آوى إليه، بعد أن ذاق مرارة اليتم، وفقد الأب والأم والجد.
وهي الحضن الدافئ الذي سكنت إليه نفسه، وهو في ذروة شبابه، حيث تزوجها في الخامسة والعشرين من عمره. وأنجبت له كلّ ولده: عبدالله، والقاسم، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.
وهي المرأة الإنسانة التي وجد فيها كلّ صفات الخير، وخصال الكمال، وتجسّد فيها الحب والوفاء.
لقد واجه من عناد قريش وإيذاء المشركين الكثير الكثير من العنت والعناء، لكنّ حبّ خديجة وحنانها ومواساتها ودعمها المعنوي والمادي، كان بلسماً شافياً لجراح معاناته، ومنبعاً فيّاضاً لتأكيد صموده وثقته.
عاش معها أفضل أيام حياته، وأروع فترات عمره، ورزق منها الذرية الطيبة الطاهرة، التي استمرت عبر ابنته منها الصديقة فاطمة الزهراء.
لقد أحبّ رسول الله خديجة من كلّ قلبه، وبكلّ أحاسيسه ومشاعره، فكان فقده لها صدمة كبيرة، وهزّة عنيفة، عصفت بنفسه ووجدانه، وغمرته بأشدّ الحزن والأسى فأطلق على سنة وفاتها عام الأحزان، ولم تغب صورتها عن مخيّلته، ولا فارق ذكرها قلبه رغم أنه تزوج بعدها بالعديد من الزوجات.
بل كان يذكرها بمناسبة وغير مناسبة، ويشيد بدورها، ويبيّن عظيم فضلها في الإسلام، ويبدي حبّه وتقديره لكلّ من يرتبط لخديجة بصلة كأقربائها وأصدقائها، لقد أثار بذلك الغيرة في نفوس بعض زوجاته.
أخرج البخاري من حديث عائشة قالت: كان النَّبيُّ إذا ذكَرَ خَديجةَ أَثْنى عليها، فأحسَنَ الثناءَ، قالت: فغِرْتُ يومًا، فقُلْتُ: ما أكثرَ ما تذكُرُها حَمراءَ الشِّدْقِ، قد أبدَلَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها خَيرًا منها، قال: ما أبدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها، قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ، ورزَقَني اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ»[12] .
إنّ أم المؤمنين خديجة هي أفضل نساء الأمة بعد فاطمة الزهراء ، ومع فضل السيدة زينب وأم البنين وفاطمة المعصومة وغيرهنّ من نساء أهل البيت، لكن لم يرد في أحد منهنّ ما ورد في السيدة خديجة عن رسول الله ، كقوله : (أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ اِمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ)[13] .
وعنه : أَتَى جِبْرِيلُ النبيَّ ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، هذِه خَدِيجَةُ قدْ أتَتْ معهَا إنَاءٌ فيه إدَامٌ، أوْ طَعَامٌ أوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هي أتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِن رَبِّهَا ومِنِّي وبَشِّرْهَا ببَيْتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ لا صَخَبَ فِيهِ، ولَا نَصَبَ)[14] .
صلّى الله على خديجة وبعلها وذرّيتها الطاهرة.
للمشاهدة:
https://www.youtube.com/watch?v=XoWthYUhJe0
للاستماع: