البرامج الروحية وجودة الحياة
قال تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴿٢٠٠﴾ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ سورة البقرة، الآيات: 200-201.
معظم الناس تنحصر همومهم واهتماماتهم في إدارة شؤون دنياهم، وكسب المصالح المادية فيها. ويتجاهلون البعد المعنوي الروحي في حياتهم، كما يغفلون عن التفكير في مستقبلهم الأخروي.
ومهمّة الدين الأساس هي تذكير الناس بالبعد الروحي وبالمصير الأخروي. ليدرك الإنسان قيمة وجوده ومعنى حياته، وليؤمّن مستقبله الأخروي.
وبذلك يحقّق الاطمئنان والاستقرار النفسي، والتوازن والثبات في مواجهة تحدّيات الحياة.
وفي الدين برامج لاستحضار هذا البعد المعنوي الروحي في حياة الإنسان، وهي البرامج العبادية، كالصلاة والصيام والحج والدعاء.
وهناك حدٌّ أدنى لا يستغني عنه الإنسان من هذه البرامج، وقد فرضها الدين كواجبات، وهناك أفق مفتوح للاستزادة من هذه البرامج تتمثل في المستحبّات والسّنن من الصلاة والصوم والحج والدعاء والزيارة لمراقد الأنبياء والأئمة والأولياء.
التراث الروحي لأهل البيت
وفي تراث أهل البيت ثروة روحية كبيرة، تتضمن برامج مكثّفة، لا نجد مثيلًا لها كمًّا ومستوًى في تراث المدارس الإسلامية الأخرى، كالاتجاهات الصوفية والعرفانية التي اقتبست من تراث أهل البيت .
وذلك لما يمتلكه أهل البيت من أصالة وعمق في هذا المجال، ولإدراكهم لحاجة جمهور الأمة لهذا العطاء الروحي؛ بسبب غلبة الأجواء المادية، ولأنّ أتباعهم كانوا بحاجة لتعزيز انتمائهم لمدرسة أهل البيت حتى لا يذوبوا في المحيط العام المخالف.
وقد صنّف قدماء علماء الشيعة كتبًا تضم هذا التراث وفي طليعتها الصحيفة السجادية، وكتاب (كامل الزيارات) لابن قولويه (ت: 368هـ)، وكتاب (الدعاء والمزار) للشيخ الصدوق (ت: 381هـ) وكتاب (مصباح المتهجد) للشيخ الطوسي (ت: 460هـ)، وكتب السيد ابن طاووس (ت: 664هـ)، وكتب الشيخ الكفعمي (ت: 905هـ).
وبناءً على قاعدة التسامح في أدلة السنن المعتمدة عند أغلب العلماء، فإنّ كثيرًا من الأدعية والزيارات والأعمال المستحبة الواردة قد لا تكون لها أسانيد صحيحة. ومن الطبيعي أن يدخل في هذا التراث بعض الدّس والاختلاق.
تنقيح التراث الروحي
لذلك بادر الشيخ عباس القمي في العصر الحديث (ت: 1359هـ) للاختيار من هذا التراث فألف كتاب (مفاتيح الجنان)؛ لأنه رأى كتبًا غير سويّة قد انتشرت مثل كتاب (مفتاح الجنان) الذي طبع قبل كتاب (مفاتيح الجنان) وانتشر في أغلب البيوت، وكان يعتمده الناس في أدعيتهم، وفيه روايات موضوعة وسقيمة. فبادر إلى تأليف (مفاتيح الجنان) واجتهد حسب رؤيته في الاختيار والتحقيق، فأصبح هو الكتاب المعتمد عند غالبية المؤمنين، فلا يكاد يخلو منه بيت من بيوتهم، ولا مسجد من مساجدهم.
ومع اعتراف الجميع بالمكانة العلمية لمؤلف (مفاتيح الجنان) الشيخ عباس القمي، وبدرجة الورع والتقوى التي يتحلّى بها، إلّا أنّ كتابه يمثل اجتهاده وجهده في الاختيار والتنقيح، وكان لبعض العلماء ملاحظات على بعض ما جاء فيه، كالسيد محسن الأمين العاملي (ت: 1371هـ) الذي ألف كتاب (مفتاح الجنات)، وأشار في مقدمته إلى أنّ جملة من محتويات (مفاتيح الجنان) غير معلوم السند قد تعاوره التحريف والتصحيف.
والسيد محمد باقر الصدر الذي كتب رسالة لأحد تلامذته يطرح عليه تشكيل لجنة لتهذيب وتعديل كتاب (المفاتيح).
وأخيرًا ألف المرجع الشيخ ناصر مكارم الشيرازي كتاب (المفاتيح الجديدة)، وقد أشاد في مقدمته بكتاب (مفاتيح الجنان) وبشخصية مؤلفه، مستدركًا على ذلك بقوله: (ولكن حيث ألّف هذا الكتاب كسائر أغلب الكتب في ظلّ ظروف زمانية ومكانية خاصة، ويخاطب جماعة معيّنة، كان لابدّ أن يعاد النظر فيه بصورة شاملة في عصرنا الراهن؛ فتزول نواقصه ويغضّ الطرف عن بعض مطالبه الإضافية التي يمكن أن تستغلّ من البعض)[1] .
آثار البرامج الروحية
إنّ هذه البرامج الروحية تستهدف بناء الإنسان الصالح في الحياة والذي ينال الفوز في الآخرة بصلاحه في الدنيا، وهذا يعني أن تنعكس هذه البرامج على حياة الإنسان، ليكون أفضل حياةٍ، وأكثر تصدّيًا لإصلاح الحياة وإعمارها، ويحقّق مصداق الحياة الطيّبة، كما يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾[2] .
ويقول تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾[3] .
ولأنّ بعض المتديّنين قد يغفل عن هذا الجانب فيمارسون البرامج الروحية ممارسة طقوسية منفصلة عن الحياة، أو شاغلة عنها، بادر أحد المراجع للتنبيه على هذا الأمر وألف كتابًا بعنوان (مفاتيح الحياة) صدر عام 2011م، وانتشر انتشارًا عظيمًا حتى طبع منه لحدّ الآن أكثر من 160 طبعة، كما أفادت وكالة أنباء الكتاب الإيرانية.
يتشكل الكتاب من خمسة فصول: 1/ تعامل الإنسان مع ذاته
2/ تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان.
3/ تعامله مع الدولة الإسلامية التي يعيش في ظلاها.
4/ تعامله مع الحيوان.
5/ تعامله مع البيئة.
ومؤلف الكتاب هو المرجع الديني الشيخ جوادي آملي (ولد في عام 1353هـ (1933م) فقيه وفيلسوف منحته الايسيسكوا جائزتها في فرع الدراسات الإسلامية عام 2006م عن كتابه (تسنيم في تفسير القرآن)، الذي كتاب طبع منه 34 مجلدًا ويبلغ 80 مجلدًا في تفسير القرآن الكريم، ويشرف الشيخ الآملي على مؤسسات علمية وثقافية.
إنّ البرامج الروحية ليست هروبًا من الحياة ولا بديلًا عن القيام بمهامها، بل هي إعداد وتأهيل للتصدّي الأفضل لشؤون الحياة، ويجب أن تنعكس آثار البرامج الروحية والمواسم الروحية كشهر رمضان المبارك على حياة المتديّنين جودةً وتقدمًا ورقيًّا.
للمشاهدة:
https://www.youtube.com/watch?v=_1fzUvff7Jc
للاستماع: