الانفتاح في العلاقات نهج نبوي
قال تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[1] .
جاء النبي برسالة التوحيد في مجتمع وثني يعبد الأصنام، وكان هناك وجود لأتباع الشرائع الدينية السابقة من اليهود والنصارى، فكيف كانت علاقة النبي مع من لم يقبل دعوته من هذه الجهات؟
إنّه من الطّبيعي أن يواجه النبي من أعلن الحرب على دعوته ودينه، فيردّ عدوانهم وينتصر لدين الله تعالى، وهذا ما تحكيه ملاحم الغزوات، والمعارك، والمواجهات بألوانها المختلفة في السيرة النبوية.
لكنّ السؤال هنا، هو عن العلاقة مع المشركين واليهود والنصارى خارج إطار الحرب والعدوان، فهل كان النبي يقبل ويرحّب بالعلاقة مع غير المؤمنين بدينه والمستجيبين لدعوته، أم كان يقاطعهم ويتجنّب كلّ ألوان العلاقة معهم في المحيط الاجتماعي؟
حين نقرأ السيرة النبوية نجد أنّ النبي كان يحرص ما أمكنه على إقامة العلاقة الإنسانية في أفضل صورها مع الآخرين ممن هم على خلاف دينه وشريعته، وإنّما كان يواجه ويعادي من يبدأ المواجهة والعدوان.
وكان يربّي أمّته على هذا النهج وفق التوجيه الإلهي، حيث يقول تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿٨﴾ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[2] .
وقد ورد في شأن نزول هذه الآيات أنّ زوجة أبي بكر المطلقة أتت من مكة إلى المدينة بهدايا لابنتها أسماء بنت أبي بكر، إلّا أنّ ابنتها امتنعت عن قبولها، بل إنّه امتنعت أيضًا حتى من السماح لأمّها بدخول بيتها، تقول أسماء: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وهي مُشْرِكَةٌ في عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ ، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسولَ اللَّهِ ، قُلتُ: وهي رَاغِبَةٌ، أفَأَصِلُ أُمِّي؟ قالَ : «نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ»[3] .
شواهد من السيرة النبوية:
1/ ورد أنّه في يوم من الأيام التفت إلى حسّان بن ثابت، وهو شاعر ويحفظ الشعر، وقال له : يا حسّان، أنشدني شيئًا من شعر الجاهلية، فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً هَجَا بِهَا الأَعْشَى عَلْقَمَةَ بْنَ عُلاثَةَ، وقد اختارها حسّان لقوتها ورصانتها أدبيًّا، ولكنّ النبي لما عرف أنّها في هجاء هذا الشخص، قال له : «يَا حَسَّانُ، لا تَعُدْ تُنْشِدُنِي هَذِهِ الْقَصِيدَةَ بَعْدَ مَجْلِسِي هَذَا»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَنْهَانِي عَنْ مُشْرِكٍ مُقِيمٍ عِنْدَ قَيْصَرَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ : «يَا حَسَّانُ، أَشْكَرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ أَشْكَرُهُمْ للهِ، وَإِنَّ قَيْصَرَ سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ عَنِّي، فَتَنَاوَلَ مِنِّي، وَقَالَ وَقَالَ، وَسَأَلَ هَذَا عَنِّي فَأَحْسَنَ الْقَوْلَ»[4] .
2/ لقد حفظ رسول الله هذا الموقف لرجل لا يؤمن به، اللهم إلّا لكلمة حسنة قالها ذلك الرجل عنه. بل إنّه كان يكافئ من أحسن إلى أصحابه، كما فعل مع وفد النجاشي القادم من الحبشة، إذ قام يخدمهم بنفسه. فقال له أصحابه: نكفيك يا رسول الله. فقال: إنّهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحبّ أن أكافيهم[5] .
3/ في غزوة بدر حذّر رسول الله المسلمين أن يقتلوا بضعة أشخاص من المشركين، حتى ولو كانوا في صفوف العدو بالمقدار الممكن، وممن نهى عن قتلهم أبو البختري بن الهشام بن الحارث، حيث قال : «مَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ ابْنِ أَسَدٍ فَلَا يَقْتُلْهُ»[6] . وإنّما نهى عن قتله؛ لأنّه كان أكفّ القوم عنه بمكة[7] . هو لم يحسن لرسول الله لكن رسول الله يحفظ له أنه لم يؤذه مع بقيّة مشركي قريش.
4/ أصابت قريشًا سنة شديدة فبعث رسول الله إلى أبي سفيان بحمل نوى من ذهب فقال: اقسمه في قومك، فلما قدم على أبي سفيان قال: أبى محمّدٌ إلّا صلة الرّحم[8] .
5/ عن عبدالله بن علقمة بن أبي الفغواء الخزاعي عن أبيه قال: بعثني النبي بمال إلى أبي سفيان بن حرب يُقسِّمه في فقراء قريش وهم مشركون يتآلفهم، فلما قدمت مكة دفعت المال إلى أبي سفيان، فجعل أبو سفيان يقول: ما رأيت أبرَّ من هذا ولا أوصل، يعني النبي ، إنّا نجاهده ونطلب دمه وهو يبعث إلينا بالصِّلات يبرّنا بها[9] .
6/ وعن الإمام الباقر أنه «تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ»[10] .
7/ يقبل هدية اليهود: (أَتَاهُ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ بِجَفْنَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ. فَقَالَ: هَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَقَالُوا: هَدِيَّةٌ. فَأَكَلَ)[11] .
8/ غلام يهودي يخدم النبي ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ وَهُوَ يَقُولُ: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ»[12] .
9/ وورد عن الإمام علي «أَنَّ النَّبِيَّ عَادَ يَهُودِيّاً فِي مَرَضِهِ»[13] . وفي مكارم الأخلاق: عاد جارًا له يهوديًا[14] .
مكاسب الانفتاح على الآخر:
حينما ينفتح المسلم على الآخرين ويحسن التعامل معهم، ويبدي الإحسان إليهم، فإنّه ينمّي المشاعر الإنسانية الإيجابية في نفسه، ويُقدّم بأخلاقه وسلوكه أنموذجًا جاذبًا لدينه ومجتمعه، ويعزّز حالة التعايش في المجتمع، وهو مقصد شرعي.
وفيما ينقله التاريخ ويحكيه الواقع المعاصر فإنّ كثيرًا ممن أقبلوا على الدين كانوا متأثّرين بحسن أخلاق وتعامل من تعرّفوا عليهم من المتديّنين.
وفي المقابل، فإنّ ما يمارسه بعض المتديّنين من تشدّد وسوء تعامل أوجب نفورًا من الدّين وتشويهًا لسمعته.
ومع الأسف الشّديد، فإنّ بعض المتديّنين يسيئون إلى دينهم بجفاف أخلاقهم، وخشونة تعاملهم مع المختلفين معهم في الدين أو المذهب، وحتى مع المختلفين معهم داخل مذهبهم.
فيقاطع بعض أقربائه، أو جيرانه، أو زملائه؛ لاختلافهم معه في بعض الآراء الدينية، أو لانتمائهم لبعض المرجعيات والرّموز الدينية التي لا يقبلها.
إنّ ذلك يكشف عن ضيق أفق وسوء فهم للدين، وخلل نفسي، وانحراف أخلاقي.
إنّنا بحاجة لاستحضار النهج النبوي في الانفتاح في العلاقات الاجتماعية مع بني البشر.
للمشاهدة:
https://www.youtube.com/watch?v=eEkP_3OPZzY
للاستماع: