إبداء الاهتمام بالآخرين
ورد عن الإمام الصادق أنه قال: «مَنْ عَظَّمَ دِينَهُ عظَّمَ إخْوانَهُ، ومَنِ استَخَفَّ بِدينِهِ استخَفَّ بإخْوانِهِ»[1]
لا شيء يُسعد الإنسان ويريحه أكثر من شعوره بالاهتمام والاحترام في محيطه الاجتماعي.
إذا أحسّ الإنسان أنه موضع اهتمام في المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، فإنّ ذلك يبعث في نفسه درجة عالية من السعادة والاستقرار النفسي ويعزز رضاه عن نفسه، ويدفعه لمعاملة الناس من حوله باحترام وتقدير، كما يكون دافعاً له للإنتاج والعطاء.
في المقابل، لا شيء يزعج الإنسان ويؤذيه، أكثر من شعوره بالتجاهل من قبل الآخرين، إذا شعر أنّ من حوله يتجاهلونه ولا يحترمونه، فهذا يسبب له شعوراً مؤذياً قاتلاً، يجعله يعيش حالة من الإحباط وعدم الرضا عن نفسه، فلا يندفع للإنجاز والفاعلية، كما يدفعه لمعاملة الآخرين بإهمال وجفاء.
وما ينطبق على الفرد يجري على المجتمع، سواء في حالة السلب أو الإيجاب.
قلق المكانة الاجتماعية
يقول الكاتب والفيلسوف البريطاني (آلان دُو بُوتون) في كتابه الجميل (قلق السعي إلى المكانة) الذي ترجمه إلى اللغة العربية الروائي المصري محمد عبدالنبي: «إنّ صورتنا الذاتية تعتمد بشدّة على ما يراه الآخرون فينا، وباستثناء أفراد نادرين (سقراط، ويسوع مثلًا) فإننا نستند إلى علامات الاحترام من الناس لكي نتقبّل أنفسنا»[2] .
الإنسان إذا رأى تقبّل الآخرين له يتعزّز تقبّله لذاته.
صحيح أنّ على الإنسان معرفة قدره بغضّ النظر عن الآخرين، لكن هذه حالة نادرة، لا يصل إليها كلّ الناس، فالغالبية من الناس تعتمد ثقتهم بأنفسهم ونظرتهم لذواتهم على تعامل الآخرين معهم، وهذه حالة توصيفيه بغضّ النظر عن كونها هي الحالة السليمة أم لا.
يقول الفيلسوف البريطاني: «لقلق المكانة قدرة استثنائية على توليد الأسف والحسرة»[3] .
ويضيف: «فمن الممكن تحمل المشقة البدنية لفترات طويلة دونما شكوى ما لم تصحبها المهانة»[4] .
«إنّ سعينا لأن نكون محبوبين ومقدّرين يتفوق على سعينا لحيازة أيّ شيء آخر».
ويقول آدم سميث في كتابه (نظرية المشاعر الأخلاقية): (ما غاية كلّ كدح وسعي في هذا العالم؟ ما هدف الجشع والطموح، وطلب الثروة والسّلطة والتفوّق؟
أهوَ توفير ضرورات الطبيعة؟!
إنّ أجر أهون عامل يدوي يمكنه أن يفي بهذا الغرض.
ماذا قد تكون إذاً مزايا ذلك المقصد العظيم للحياة الإنسانية الذي نسميه تحسين ظروفنا؟
أن نكون تحت أنظار الآخرين، وموضع عنايتهم، أن نُلاحَظ بعين التعاطف والرضا والاستحسان، كلها مزايا نستطيع أن نقترح أنها مستمدة من ظروفنا.
يعتزّ الرجل الثري بثرواته؛ لأنه يشعر أنها بطبيعة الحال تلفت نحوه انتباه العالم.
وعلى النقيض يخجل الرجل الفقير من فقره. يشعر أنه يضعه بعيدًا عن أنظار الناس.
من شأن شعورنا بأننا غير مُلاحَظين أن يُحبط بالضرورة أكثر الرغبات احتدامًا للطبيعة الإنسانية)[5] .
من هنا تأتي أهمية تبادل الاحترام والتقدير بين أفراد المجتمع، حيث يقدّر كلّ فرد الآخر ويحترمه ويبدي الاهتمام به.
المجتمع الذي يتبادل أبناؤه الاهتمام والتقدير، تتعزّز فيه الصحة النفسية، فلا يعاني أفراده ـ في الغالب ـ من الأمراض النفسية، التي تأتي من الإحباط والتهميش وعدم الاحترام.
شعور الإنسان بأن من حوله يحترمونه ويهتمون به، يبعد عنه هذه الأمراض والأزمات النفسية، وتتقوى لديه دافعية الإنتاج، كما تسود المجتمع حالة المحبّة والمودة، ويتعزّز انتماء الإنسان لمجتمعه، وهذا مما يعلي من هوية المجتمع، سواء كانت دينية أو قومية أو ثقافية.
ولعلّ هذا ما يشير إليه الإمام الصادق في قوله: «مَنْ عَظَّمَ دِينَهُ عظَّمَ إخْوانَهُ» إذا احترمت إخوانك تكون قد احترمت دينك، وإذا أهنت إخوانك تكون قد أهنت دينك، فهو الرابط والهوية المشتركة بينك وبينهم.
التربية على الاحترام
يحتاج الإنسان إلى الشعور بالاهتمام والتقدير، بدءاً من داخل العائلة وانتهاءً بالبيئة والأجواء الاجتماعية.
حين يُحترم الإنسان في عائلته يكون ذا شخصية قوية، وأقرب إلى الصحة النفسية، والحالة السّوية في سلوكه، ولهذا جاء تأكيد الدين على الاحترام داخل العائلة، بين الزوجين، ومع الأبناء، حتى الأطفال الصغار، ينبغي أن ينالوا الحظ الوافر من التقدير والاحترام.
ورد عن النبي محمد أنه قال: «أكرِموا أولادَكُم وأحسِنوا آدابَهُم»[6] .
الطفل الصغير حينما تشعره بالاهتمام والاحترام، ينشأ سوي المشاعر ممتلئاً بالثقة، بعيداً عن العقد والأمراض النفسية، فيتخرج من العائلة إلى المجتمع سليم المشاعر، يتعامل مع الناس بالسلوك الرائع الجميل.
وكذلك الحال بالنسبة للمرأة التي تُحترم في بيتها، من قبل أبيها وزوجها وأبنائها، تكون شخصيتها أقوى وسلوكها أقوم.
إنّ كثيراً من حالات الانحراف في الوسط النسائي هي بسبب الجفاء والجفاف العاطفي، الذي تعيشه البنت أو المرأة ضمن أسرتها، لذلك يؤكد القرآن في اثني عشر موضعاً على التعامل بالمعروف مع الزوجة، كقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أي أن تكون المعاملة بالأسلوب اللائق، المنسجم مع تعاليم الدين واحترام الحقوق الإنسانية.
وقد ورد عن النبي محمد أنه قال: «مَا أَكْرَمَ النِّسَاءَ إِلَّا كَرِيمٌ، وَلَا أَهَانَهُنَّ إِلَّا لَئِيمٌ»[7]
وورد عنه : «قَوْلُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ: إِنِّي أُحِبُّكِ، لَا يَذْهَبُ مِنْ قَلْبِهَا أَبَدً»[8]
ومن جانب المرأة عليها أن تحيط زوجها بالاحترام اللائق، حتى يشعر بقيمته ومكانته.
جاءت امرأة إلى رسول الله وسألته: مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَقّاً عَلَى الْمَرْأَةِ؟
قَالَ : «زَوْجُهَا»[9] .
وعن الإمام الباقر : «لا شَفيعَ للمرأةِ أنجَحُ عِند رَبِّها مِن رِضا زَوجِها»[10] .
أما الوالدان فيكفي قوله تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [سورة الإسراء، الآيتان: 23-24].
هذه التأكيدات على اعتماد مبدأ التقدير والاحترام بين أفراد الأسرة، تهدف إلى خلق بيئة عائلية تبعث على الثقة والارتياح، وتحقق السعادة للجميع.
أجواء المدرسة
تترك أجواء المدرسة أثراً كبيراً على تكوين نفسية الطالب، وتنمية مشاعره وتقويم أحاسيسه، إلى جانب أدوارها التعليمية.
فإذا تعامل المعلم مع طلابه باهتمام واحترام، وأشعر كلّ واحد منهم بقيمته ومكانته، حتى وإن أخفق أو أخطأ، فإنّ ذلك يؤهّلهم لنمو سليم وارتقاء أفضل.
الكلمة الطيبة المحفزة لها أثر سحري في نفس الطالب، بل يمكن أن تنقله من حال إلى حال مغايرة تماماً.
وكذلك الحال بالنسبة إلى تعامل الطلاب فيما بينهم، حيث تشير الدراسات إلى الآثار السيئة للتنمر بين الطلاب، فشعور الطالب بأنه محتقر ومعتدًى عليه من زملائه ـ وهو لا يستطيع الدفاع عن نفسه ـ يحطم نفسيته ويمزق مشاعره!.
وهذا يحمّل إدارة المدرسة مسؤولية السعي إلى خلق أجواء الاحترام والتقدير للطلاب، من قبل المعلمين وبين الطلاب أنفسهم.
ويجري الأمر على الموظفين وأجواء الدائرة التي يعملون فيها، إذا أحاط المدير العاملين معه بالتقدير والاحترام، كانت مشاعرهم أفضل، وولاؤهم للعمل أعمق، وإنتاجهم أكثر جودة.
أثر البيئة الاجتماعية
للبيئة أثر كبير في تشكيل مشاعر الفرد نحو الآخرين، وصياغة الانتماء والهوية الاجتماعية، ولذلك تؤكد النصوص الدينية على ضرورة الاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع، يقول الله تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾.
دخَلَ رجُلٌ على رسول الله المسجدَ وهُو جالسٌ وحْدَهُ، فتَزَحزَحَ ، فقالَ الرّجُلُ: في المكانِ سَعةٌ يا رسولَ اللّه ِ!
فقالَ : «إنَّ حقَّ المسلمِ على المسلمِ إذا رآهُ يُريدُ الجُلوسَ إلَيهِ أنْ يَتَزحْزَحَ لَهُ»[11] .
وعن سلمان الفارسي قال: دَخَلتُ عَلى رَسول الله وهُوَ مُتَّكِئٌ عَلى وِسادَةٍ، فَأَلقاها إلَيَّ، ثُمَّ قالَ لي: يا سَلمانُ، ما مِن مُسلِمٍ يَدخُلُ عَلى أخيهِ المُسلِمِ فَيُلقي لَهُ وِسادَةً إكراما لَهُ إلّا غَفَرَ اللهُ لَهُ[12] .
وعنه : «مَن كانَ يُؤمِنُ باللّهِ واليَومِ الآخِرِ فَليُكرِمْ جَليسَهُ»[13]
وعنه : «مَن أكرَمَ أخاهُ فَإِنَّما يُكرِمُ الله»[14]
هكذا يربي الإسلام أبناءه على الأخلاق السامية والمشاعر الإيجابية الراقية فيما بينهم، إذا أكرمت أخاك كأنك أكرمت الله!
إنها درجة عالية من التحفيز والتشجيع على إكرام الناس وحسن التعامل معهم.
وفي مقابل ذلك يروى عن رسول الله أنه قال: «أذَلُّ النّاسِ مَن أهانَ الناسَ»[15]
وفي الحديث عنه : «ليس منا من لم يحسن صحبة من صحبه»[16] .
إنّ التعامل السلبي أو البرود في اللقاء وتجاهل الآخرين يعتبر نوعاً من الإهانة، ويكشف عن عقد نفسية.
ماذا يخسر الإنسان إذا استقبل الآخرين ببشاشة وأبدى لهم الاهتمام والتقدير؟!
لن تكون عليه كلفة، وينعكس عمله إيجابياً في نفوس الآخرين، وذلك مفيد للإنسان نفسه في تطوير علاقاته وشعوره بالراحة والأنس مع الآخرين، وأكثر من ذلك ينال ثواب الله ورضاه.
نحن نعلم أنّ الإنسان إذا قال: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر) أو ذكر الله بأيّ ذكر يحصل على الثواب والأجر الكبير.
وعلينا أن نثق أنّ كلمة لطف واحترم نقولها للآخرين لن يكون ثوابها أقلّ من ثواب التسبيح والذكر.
البعض يعيش حالة البخل والشح في المشاعر والأحاسيس، تجلس إلى جانبه في حافلة أو طائرة فلا يعيرك أيّ اهتمام، وكأنك غير موجود إلى جانبه!.
وشخص آخر بمجرّد أن تأتي لتأخذ مقعدك إلى جانبه يرحب بك وكأنه يعرفك من زمن طويل!.
مما يجعلك ترتاح في رحلتك، مع عدم وجود رابط بينك وبينه، إلّا أنه يخلق جوًّا نفسيًّا مريحًا، وهكذا حين تدخل مجلساً أو مسجدًا فتجد الترحيب والاحترام، يدخل عليك السرور وتحب أن تبادلهم المشاعر نفسها.
اللهم وفقنا للالتزام بمكارم الأخلاق، اللهم حبّبنا إلى الناس وحبّب الناس إلينا، وأجرِ للناس على أيدينا الخير.