الحاجة إلى ذوي الرأي في المجتمع
ورد عن الإمام محمد الباقر قال قيل لرسول الله : «مَا الحَزْمُ؟ قال: «مُشَاوَرَةُ ذَوِي الرَّأي وَاتِّبَاعُهُمْ»[1] .
يواجه كلّ مجتمع في مسيرته تحدّيات تفرضها طبيعة الحياة، فهناك تحدّيات من قوى معادية أو منافسة من خارج المجتمع، وهناك تحدّيات من داخل المجتمع بسبب وجود خلل أو انحراف، أو تقصير في الأداء، يؤدي إلى صراعات وخلافات داخلية.
كما أنّ هناك نوعاً آخر من التحدّيات، يتمثل في تحدّي التطلع والطموح نحو التقدم والتطوير.
في مواجه هذه التحدّيات، يحتاج المجتمع إلى ذوي الرأي، الذين يستنهضون المجتمع ويوجّهون مساره وحركته بالاتجاه الصحيح، وهذا هو دور ذوي الرأي.
أما إذا كان هناك تحرّك ونشاط في المجتمع من دون رأي ورؤية، فإنّ هذا التحرّك قد لا يؤدي إلى ما يريده المجتمع، بل قد يضرّ المجتمع وتكون نتائجه سلبية!
لذلك ورد عن النبي محمد أنه قال: «مَنْ عَمِلَ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَانَ ما يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمّا يُصْلِحُ»[2] .
وفي رواية عن الإمام الصادق : «الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ، لَا تَزِيدُهُ سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْدا»[3] .
فأيّ حراك اجتماعي إذا لم تسبقه رؤية، وإذا لم يكن مبنياً على رأي ناضج سديد، فإنه لا يكون نافعاً، بل قد يكون ضارًّا!
وكما قال أبو الطيب المتنبي:
الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ
هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني
فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ
بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ
مواصفات ذوي الرأي
ولكن من هم ذوو الرأي الذين نحتاج إلى دورهم؟ وما المواصفات التي تجعلهم في مقام المرجعية والتوجيه لحركة المجتمع؟
يمكننا الإشارة إلى أهم تلك المواصفات، وهي:
أولاً: تبنّي هموم المجتمع وتطلّعاته، في مقابل عامة الناس المشغولين بهمومهم الذاتية.
حيث يفترض في ذوي الرأي أنهم يتجاوزون همومهم الذاتية، ويهتمون بالمصلحة العامة.
ثانياً: امتلاك الخبرة والتجربة، وذلك من وحي التفكير وإجالة الرأي، ومن خلال المعرفة والاطلاع، وعبر ممارسة العمل والدور الاجتماعي.
ثالثاً: تحمّل المسؤولية واتخاذ القرار، بما يترتب على ذلك من بذل جهد ودفع ضريبة وثمن.
فقد يتوفر البعض على رأي ورؤية، لكنه غير مستعدّ للتصدي وتحمّل المسؤولية.
وإذا وُجدت في المجتمع فئة تتمتع بهذه المواصفات، وتقوم بدورها المطلوب، تهيأت الفرصة لمواجهة التحديات، وتخطّي العقبات وتحقيق الطموحات والتطلعات.
غير أنّ ذلك مشروط بتجاوب المجتمع مع ذوي الرأي والتفافه حولهم.
وهذا ما يشير إليه الإمام الباقر فيما يرويه عن جدّه رسول الله حين سئل عن الحزم؟
فأجاب : «مُشَاوَرَةُ ذَوِي الرَّأي وَاتِّبَاعُهُمْ»
في المشاكل والتحدّيات يلجأ المجتمع إلى ذوي الرأي، ويأخذ بكلامهم، وهي ميزة المجتمعات الواعية الناجحة، أنها تكتشف العناصر القيادية من أبنائها من ذوي الرأي، وتستفيد من خبرتهم وتجربتهم، فيقودونها إلى النجاح والتطور، بينما بعض المجتمعات تتجاهل طاقات وكفاءات أبنائها وتضيّعها، إمّا لتحاسد أو تنافس أو محسوبيات، فتضيع تلك الكفاءات والطاقات ولا يستفيد المجتمع منها!.
ويسجل لنا التاريخ بعض حسرات أمير المؤمنين وآلامه، حيث لم تكن حسراته على نفسه، بل على الأمة التي حرمت نفسها من الاستفادة منه!.
يقول الإمام : «للهِ أنتُم! أتَتَوَقَّعونَ إمامًا غَيري يَطَأُ بِكُمُ الطَّريقَ، ويُرشِدُكُمُ السَّبيلَ؟!»
وقال: وَهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاسًا وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَامًا مِنِّي، لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ وَهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ وَلَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ».
وعنه : «أَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذْلَانِ».
وفي الأدب العربي يتحدث بعض الشعراء من ذوي الشخصيات الطموحة القيادية عن تجاهل مجتمعاتهم، يقول الشاعر العَرْجِي:
أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا
ليوم كريهةٍ وسِدادِ ثغْـر
وقال أبو فراس الحمداني:
سَيَذْكُرُني قومي إذا جَـدَّ جِـدُّهُمْ
وفـي اللّيلةِ الظَّلْماءِ يُفْتَقَدُ البدرُ
إذًا المجتمعات الواعية هي التي تكتشف الشخصيات الكفوءة من ذوي الرأي وتستفيد من خبرتها ومن تجربتها.
السيد حسن العوامي
افتقد مجتمعنا في الأسبوع المنصرم شخصية وطنية اجتماعية، كان في طليعة ذوي الرأي السديد، والمواقف المسؤولة تجاه قضايا المجتمع والدين والوطن.
إنه الفقيد السيد حسن بن السيد باقر العوامي رحمه الله (1345-1440هـ).
لقد كان بحقٍّ أنموذجاً للشخصية الاجتماعية التي تحمل هموم المجتمع وتفكر في المصلحة العامة.
من بداية شبابه كان يكتب نصوص البرقيات والرسائل والعرائض التي تقدّم للمسؤولين، ويجمع تواقيع الأهالي عليها، من أجل المطالبة بالخدمات التنموية التي تحتاجها المنطقة، وكان يتلمّس التحدّيات الفكرية والثقافية التي يمرّ بها المجتمع، فحينما رأى التيارات الوافدة تغزو عقول الشباب وتنزلق بهم عن الفكر الديني، بادر بكتابة المقالات والكتب والرسائل، وكان يبعث الرسائل للخطباء والعلماء، يستحثهم على معالجة هذه المشاكل الاجتماعية والتحدّيات الفكرية.
ومن مؤلفاته في هذا السياق: كتاب (الضائعون) و (المرأة بين التشريع الإسلامي والحضارة الغربية).
كما كان مهتماً بجمع ذوي الرأي والكفاءات في المجتمع، فقد كان مجلسه يجمع رجالات المجتمع من مختلف المناطق والقرى.
وحينما تحصل أيّ قضية أو مشكله يتبنّى الدعوة إلى اجتماع، فيتواصل مع الجميع ويدعوهم للحضور دون حواجز مع أحد، كان منفتحاً على جميع الطاقات الكفاءات، لم يكن عنده تحيّز فئوي أو مناطقي أو فكري، بل يدعو كلّ من يستطيع أن يبذل جهداً في مصلحة المجتمع.
من جهة أخرى كان يتسم بتحمّل مسؤولية الرأي والموقف الذي يقتنع به، مستعداً لدفع الثمن.
حيث من الطبيعي أن يجد الإنسان معارضة لمواقفه وآرائه، وقد يتعرّض للإساءة والمناوئة..
البعض لا يريد أن يتحمل نقدًا من أحد، فيبتعد عن طرح رأي أو اتخاذ موقف، لكن السيد حسن العوامي كان يتسم بشجاعة الرأي والموقف.
تجربته في النجف الأشرف
هاجر إلى النجف لظروف معينة وبقي فيها حوالي خمس سنوات، فاستفاد من حضور بعض الدروس الحوزوية، ورغم أنه لم يكن محسوباً من فئة وصنف العلماء، إلّا أنه كان يتلمّس نقاط الضعف في واقع الحوزة العلمية ويبادر إلى الحديث مع أصحاب القرار.
كثير من العلماء والشخصيات كانوا يلاحظون بعض نقاط الخلل في وضع الحوزة العلمية، وفي طريقة الإدارة المرجعية، لكنهم لا يجدون أنفسهم معنيين باتخاذ موقف أو تقديم رأي، ولعلّ بعضهم يخشى من القيام بمثل ذلك الدور، لكن السيد العوامي بادر إلى كتابة الرسائل الداعية إلى التصحيح والتطوير، وذهب إلى المراجع الكبار في النجف وناقش معهم كثيراً من قضايا الحوزة وإدارتها وكيفية تطويرها، ورسائله منشورة في كتابه (من وحي القلم).
ونحن إذ نأسف على خسارة هذه الشخصية، نرى في شبابنا وفتياتنا بشائر الخير.
في أبناء مجتمعنا اليوم من يؤمّل فيهم الخير والصلاح، لكي يواصلوا مسيرة هؤلاء الرواد، بأن يتحمّلوا هموم مجتمعهم، ويفكروا في قضاياه، وينضموا إلى المؤسسات الاجتماعية القائمة، ويُقدّموا على المبادرات العملية، وأن يطرحوا آراءهم التي تخدم المجتمع، وتواجه التحديات التي تنتصب في طريقه.
هذا ما نأمله من أبنائنا وشبابنا، ونسأل الله لهم الخير والتوفيق ولمجتمعنا ووطننا الرقي والتقدّم.