الثقافة تصنع الشخصية
ورد عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه الإمام محمد الباقر أنه قال له: «يا بُنَيَّ، إنّي نَظَرتُ في كِتابٍ لِعَلِيٍّ فَوَجَدتُ فِي الكِتابِ: إنَّ قيمَةَ كُلِّ امرِئٍ وقَدرَهُ مَعرِفَتُهُ»[1]
وروى الصدوق عَنِ اِبْنِ أَبِي عُمَيْرٍ يَرْفَعُهُ إِلَى أَحَدِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: بَعْضُكُمْ أكْثَرُ صَلاةً مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُكُمْ أكْثَرُ حَجّاً مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُكُمْ أكْثَرُ صَدَقَةً مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُكُمْ أكْثَرُ صِياماً مِنْ بَعْضٍ، وَأفْضَلُكُمْ أفْضَلُكُمْ مَعْرِفَةً)[2] .
هذان النّصان، ونصوص كثيرة في آيات القرآن الكريم، وفي أحاديث السنة الشريفة، تبرز أهمية المعرفة والعلم في حياة الإنسان.
فالثقافة والمعرفة لها دور أساس في صياغة شخصية الإنسان، فهي التي توجهه لاكتشاف ذاته، وإدراك مواهبه وكفاءاته، فكلما كان الإنسان أكثر معرفة وثقافة، يفترض أن يكون أكثر معرفة بذاته، يكتشف مواهبه وقدراته التي أودعها الله فيه، والمعرفة والثقافة هي التي تغذّي عقل الإنسان، فكلما توفرت للعقل معطيات ومعلومات ومعارف، كان أكثر قدرة على التفكير والوصول إلى النتائج الصائبة، والحقائق السليمة الصحيحة.
وكما أنّ جسم الإنسان إذا توقف عنه الغذاء يضمر ويضعف، كذلك عقل الإنسان إذا توقفت عنه التغذية بالمعرفة والثقافة يتضاءل.
وفي جانب الأحاسيس والمشاعر، إذا كان الإنسان أكثر ثقافة ومعرفة تصبح مشاعره وأحاسيسه أقرب إلى النضج، وأكثر إيجابية وتدفقاً، بينما إذا تضاءلت ثقافته واضمحلت، تصبح مشاعره في حالة متدنية، وقد لا تكون إيجابية في آثارها وانعكاساتها على السلوك.
من جهة أخرى، فإنّ نظرة الإنسان للحياة وتعاطيه مع محيطه البيئي والاجتماعي يرتبط بمستوى معرفته وثقافته، فكلّما كان أكثر معرفة وثقافة كانت نظرته للحياة أصوب، وتعامله مع محيطه البيئي والاجتماعي أفضل.
فالإنسان الذي يمتلك وعياً صحياً، يستطيع أن يحافظ على صحته وسلامته أكثر ممن يفتقر إلى الوعي والثقافة الصحية، ولهذا تهتم المؤسسات الصحية بالتوعية والتثقيف، لما لذلك من أثر في الوقاية من المخاطر والأمراض، وفي مجال تربية الأبناء إذا كانت للإنسان معرفة ستكون تربيته لأبنائه أفضل، وكذا في العلاقات الزوجية، إذا كانت مبنية على الوعي والمعرفة ستدار بشكل أنجح، ويجري الأمر في أبعاد السياسة والاقتصاد، لذا على الإنسان أن يهتم بكسب المعرفة ونيل الثقافة.
كما ورد عن أمير المؤمنين في وصيته لكميل: «يا كميل، ما من حركة إلّا وأنت محتاج فيها إلى معرفة»[3] .
وهكذا في إدارة شؤون الحياة، في كلّ جانب من الجوانب يحتاج الإنسان إلى المعرفة والثقافة.
مصادر الثقافة
تعتبر القراءة والمطالعة من أهم مصادر الثقافة والمعرفة، وهي في متناول يد الإنسان، في هذا العصر، فالكتاب متوفر، سواء الورقي أو الإلكتروني، كما أنّ القراءة تختلف عن استماع المحاضرات والدروس، التي لها أوقات محددة وأماكن معينة، لكنّ مطالعة الكتاب أيسر، حيث يتمكن الإنسان أن يصطحب الكتاب معه إلى أيّ مكان، في الطائرة والسيارة والقطار، ويتمكن من القراءة وهو مضطجع على سريره، بل إنّ البعض إذا كان يطيل المكث في بيت الخلاء يأخذ معه جريدة أو كتاباً.
وفي عصرنا الحاضر انحسرت حالة الأمية، وأصبح أغلب الناس متعلّمين، يستطيعون القراءة والكتابة، وهذا يعني أنّ بإمكانهم أن ينفتحوا على هذا الأفق المعرفي غير المحدود، فقراءة الكتاب تفتح أمام الإنسان آفاق الفكر والثقافة، من أعماق التاريخ في العصور والأزمنة الماضية إلى استشراف المستقبل، لكنّ الناس يتفاوتون في مدى استفادتهم من هذه النعمة وإقبالهم على هذه المتعة العظيمة الغالية.
بعض الناس يحرمون أنفسهم من هذا الخير فلا يهتم بالكتاب، والبعض لا يكاد يصرف إلّا وقتاً محدوداً في القراءة!.
إحصائيات صادمة
حسب (تقرير التنمية البشرية) لعام (2003م) الصادر عن اليونسكو، فإنّ المواطن العربي يقرأ أقلّ من كتاب في العام، فكلّ (80) شخصاً يقرؤون كتاباً واحداً في السنة!!
في المقابل، يقرأ المواطن الأوروبي نحو (35) كتاباً في السنة، والمواطن الإسرائيلي (40) كتاباً.
ويشير تقرير التنمية البشرية عام (2011م)، الصادر عن (مؤسسة الفكر العربي) إلى أنّ الفرد العربي يقرأ بمعدّل (6) دقائق سنويًا، بينما يقرأ الأوروبي بمعدّل (200) ساعة سنوياً.
لهذا نجد تلك المجتمعات متقدمة في العلم والصناعة والاختراع، وتنظيم الحياة، بينما نعيش التخلف والتأخر!!
عادة القراءة
على الإنسان أن يعوّد نفسه على القراءة والمطالعة، وأن يخصّص وقتاً للمعرفة كلّ يوم، كما يخصّص وقتاً للنوم والطعام والترفيه وهي التي ترتبط بجسمه، عليه أن يخصّص وقتاً لتنمية عقله وروحه، فـ (الخير عادة والشّر عادة) إذا عوَّد الإنسان نفسه وبرمج حياته على القراءة، فإنه سيجد فيها متعة وأنساً.
عن الإمام الصادق : «كانَ فيما وَعَظَ لُقمانُ ابنَهُ أن قالَ لَهُ: يا بُنَيَّ، اِجعَل في أيّامِكَ ولَياليكَ وساعاتِكَ نَصيبًا لَكَ في طَلَبِ العِلمِ، فَإِنَّكَ لَن تَجِدَ لَهُ تَضييعًا مِثلَ تَركِهِ»[4]
تمرّ على الإنسان أوقات فراغ في الطائرة أو القطار، وأحياناً ينتظر دوره في مستشفى أو دائرة حكومية، وهي فرصة مناسبة للقراءة والمطالعة، ونحن نلحظ أنّ الغربيين يهتمون بهذا الأمر، تجد كتابه معه دائماً، وبمجرّد أن يجد وقت فراغ يبادر للقراءة.
ومع وجود الأجهزة الإلكترونية أتيحت الفرصة للإنسان أن يقرأ الكتاب بسهولة ويسر، بدل أن يصرف وقته على توافه الأمور.
تربية الأبناء
ينبغي أن تكون المكتبة جزءاً أساسياً في كلّ بيت، وأن تكون ثقافة المطالعة عادة وبرنامجاً مألوفاً في المنزل، فالأبناء يتأثرون بربّ العائلة، إذا وجد الأبناء أباهم يهتم بالقراءة، ويحترم وقت المطالعة، ويتفاعل مع الكتاب، سيتربون على هذه العادة، وسيكسبون هذا السلوك الحضاري بشكل تلقائي.
من المؤسف أنّ علاقة كثير من الأبناء بالكتاب هي في حدود المناهج الدراسية، وهو ما خلصت إليه إحدى الدراسات الميدانية، بل يقتصر الطالب على ما يظنّ أنه مهم للاختبار!
ونسمع في نهاية كلّ سنة دراسية عن تمزيق الكتب الدراسية ورميها في الشوارع، وقد تناولت كثير من الصحف هذه القضية مدعمة بالصور، وهي تدلّل على عدم وعي الطالب بقيمة الكتاب والعلم والمعرفة.
الدور الاجتماعي
على المستوى الاجتماعي ينبغي أن تكون هناك مبادرات لتشجيع المطالعة، من خلال تأسيس المكتبات، وإقامة المسابقات، وإنشاء أندية للقراءة، وتوزيع ونشر الكتب.
إنّ كثيراً من المجالس الحسينية الأسبوعية تقدم لروّادها وجبات مختلفة، فلا يخرج المستمع إلّا وبيده كيس يحوي أطعمة متعددة، فالخير كثير ولله الحمد، فمتى ندخل الكتاب كجزء مما تقدّمه المجالس إلى روّادها؟!
ومن العادات الحسنة انتشار فكرة توزيع الكتيبات في مجالس العزاء (الفواتح)، لكنّها اقتصرت على كتب الأدعية، وامتلأت البيوت من هذه الكتيبات إلى حدّ التخمة وزادت عن الحاجة!.
والأفضل أن نطبع ونوزّع الكتب التي تفيد الناس في أمور دينهم ودنياهم، فلو أنّ كلّ مجلس من المجالس تبنّى طباعة كتاب كلّ سنة لشجّع ذلك على خلق أجواء الثقافة والمعرفة في المجتمع.
ومن المناسب أن نستثمر وجود التجمعات الشبابية ونشجّع عادة القراءة، والمنافسة على المطالعة بين الشباب والفتيات.
تحدّي القراءة
أطلقت دولة الإمارات برنامج (تحدّي القراءة) على مستوى العالم العربي والعالم أجمع، وهو عبارة عن منافسة للطلاب في قراءة (50كتاباً) في كلّ سنة أكاديمية، يدخل كلّ مشارك فترة اختبار للمفاضلة والمنافسة، وقد حقق نجاحاً كبيراً جدًّا على مستوى العالم، وبلغ عدد المشاركين (13مليون طالب وطالبة) من (49 دولة)، وهو برنامج يستحقّ الإشادة والتقدير.
أثر التحفيز
أحد الأصدقاء كتب لي عن برنامج القراءة في مركز أسّسه لهذا الغرض باسم (مركز إبداع ونادي القراءة): أنّ إحدى الفتيات في المركز وهي في الصف الخامس الابتدائي شاركت في البرنامج، وتنافست مع زميلاتها على قراءة القصص وأصبحت تلتهم القصص، حتى إنّها استطاعت أن تنجز قراءة (1272) قصة قصيرة في شهر واحد، وإحدى زميلاتها أكملت قراءة أكثر من (800) قصة، وتكتب كلّ مشاركة في البرنامج عبارات تشير فيها إلى موضوع ومحتوى القصة ومستواها، وهذا يعني أنّ أبناءنا لديهم القدرة والكفاءة، لكنّهم يحتاجون إلى تشجيع وتحفيز، حتى تنموَ شخصياتهم بهذا الاتجاه.
معرض الكتاب
تحت شعار (الكتاب بوابة المستقبل) افتتح معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام (1440هـ).
وقد شاركت فيه (912) دار نشر، ويضم أكثر من نصف مليون عنوان وفيه (1750) مشارك وعارض من (30) دولة عربية وأجنبية، وتضم أجندة المعرض أكثر من (200) فعالية ثقافية متنوعة، من بينها (62) فعالية تختص بالندوات والمحاضرات الثقافية، و(12) جلسة ضمن فعالية المجلس الثقافي التي تضم عروضاً مسرحية وأفلاماً وورش عمل فنية، فهو تظاهرة ثقافية معرفية، ينبغي أن نتفاعل مع مثل هذه التظاهرة الثقافية.
من يستطيع أن يذهب إلى المعرض، عليه ألّا يتأخر عن استثمار هذه الفرصة الثمينة، وأن يشجّع عائلته وأبناءه على حضور المعرض، وأن يخصّص ميزانية لشراء الكتب، وهي كتب مختلفة متنوعة، للأطفال وللكبار وفي مختلف المجالات، فمن خلال المشاركة في حضور المعرض قد تنشأ لدى الإنسان رغبة للقراءة أو تزداد، وتتكون عنده علاقة أكثر مع الكتاب، فعلينا ألّا نفوّت هذه المناسبة العظيمة وأن نستفيد منها، فقيمة الإنسان بمستواه المعرفي، وأفضليته عند الله بالعلم، كما تؤكد على ذلك كثير من النصوص الدينية.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإيّاكم لاكتساب المعرفة والعلم فيما يفيدنا في أمور ديننا ودنيانا.